يعتبر دخول العرب مصر سنة 20 من الهجرة على يد الصحابي الجليل عمرو بن العاص مولد تاريخ جديد لهذه البلاد، ذات الماضي البعيد، فلم يكد يتم الفتح، وتستقر الأحوال بها بعد الوقائع الحربية المعروفة، حتى أخذ سكانها يدخلون في دين الله أفواجًا، وتنشرح صدورهم للقرآن الكريم، وتصطنع ألسنتهم اللسان العربي المبين؛ وتصبح العربي لغة الدواوين. ثم يرحل إليها أعيان الصحابة وجلة التابعين، ويهوي نحوها الفقهاء والقراء وحفاظ الحديث ورواة اللغة والأدب والشعر، وتبنى فيها المساجد؛ لإقامة شعائر العبادات. ومدارسة علوم الدين، وللفصل في ساحتها بين الناس، كما أنشئت فيها المدارس لتلقي العلوم والمعارف، وألحقت به خزائن الكتب؛ لجذب العلماء من شتى الجهات؛ مما ارتفع به شأن العلم، وازدهرت الفنون والآداب.
وتولى مقاليد الحكم فيها على مر العصور من الولاة والخلفاء والملوك والسلاطين؛ من فتحوا أبوابهم للعافين، والوافدين، واستمعوا إلى الشعراء والمادحين، وأجازوا على التأليف والتصنيف، وقاموا في بناء الحضارة الإسلامية بأوفى نصيب.
بل إن مصر كانت -وما زالت- حمية الملة والدين، وراعية الإسلام والمسلمين، وقاهرة الغزاة والمعتدين؛ مما جعلها أعز مكان في الوطن العربي الكبير.
فكان من حق هذا الإقليم أن يشغل مكانه في التاريخ، وأن يخص بعناية العلماء والمؤرخين، وأن تفرد لوصف ملامحه المؤلفات، وأن يُتدارس تاريخه في كل مكان وزمان ... وكذلك الأمر والحمد لله كان، فقد نبغ من العلماء القدامى والمحدثين مَنْ وضعوا في تاريخ مصر المصنفات تختلف طولًا وقصرًا، وتتباين طريقة ومنهاجا؛ منهم ابن عبد الحكم وأبو عمر الكندي وابن ميسر والمسبحي والقضاعي وابن دقماق وابن زولاق والأدفوي والعماد الأصبهاني وابن حجر والمقريزي والسيوطي والجبرتي وأبو السرور البكري وابن تغري بردي وابن إياس.
وكتاب حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، الذي صنفه الجلال السيوطي من أنفس الكتب التي صدرت عن هؤلاء الأعلام، وأعذبها موردًا، وأصفاها منهلًا، وأسدها منهجًا، وأوضحها فصولًا وأبوابًا، وأوفاها استيعابًا وشمولًا، سلك فيه طريقًا قصدًا، ليس بالطويل المستطرد المشوش، ولا بالمقتضب الخالي من النفع والجدوى، بدأه بذكر ما ورد في شأن مصر من الآثار في القرآن الكريم والحديث الشريف، ثم ثناه بذكر تاريخ مصر في عهدها القديم، عهد الفراعنة وبناة الأهرام، على حسب ما وقع لديه من المعارف، وعلى حسب ما كان شائعًا في عصره، ثم وصف الفتح الإسلامي وما صحبه من وقائع وأحداث، وما تم من امتزاج المصريين بالعرب تحت راية الإسلام، ثم ذكر الوافدين على مصر ومن نبغ فيها من أصحاب المذاهب، ومن عاش بها من الحفاظ والمؤرخين والقراء والقصاص والشعرء والمتطيبين وغيرهم؛ مع ذكر نُبذ من حياتهم وتاريخ موالدهم ووفاياتهم. ولم يخل كتابه من تاريخ الولاة الذين تعاقبوا عليها، والقضاة الذين حكموا فيها، والحكومات التي قامت بها، وما بُني فيها من المساجد والمدارس والخانقاهات.
ومن أمتع ما ورد فيها تلك الفصول التي عقدها في ذكر عادات المصريين ومواسمهم وأعيادهم والأسباب الدائرة بينهم؛ وما كان فيها من أندية الأدب ومجالس الشعر والسمر، على منهج طريف أخاذ.