رحيل المجلس العسكري ضرورة سياسية
يبدو أنه كان خطأً سياسيًّا فادحًا إسناد أمور الدولة بعد تنحي مبارك إلى المجلس العسكري؛ لأنه – في الحقيقة – لا فرق بين الاثنين، فكلاهما منهج واحد وفكر واحد وطريقة واحدة في إدارة تلك البلاد المنكوبة التي يبدو أنها لا حظ لها في الحرية والاستقرار والازدهار، وأنه كُتب عليها أن ترزح تحت سياط العسكر إلى يوم الدين؛ إما لغبائنا السياسي وعدم فطنتنا لمجريات الأمور، وإما لذكاء المجلس العسكري في وضع خطط محكمة لخداع الشعب والمكر به والتمويه عليه، ويبدو أن هذه الخطط قد انطلت على كثير من المصريين، فرضوا بالأمر الواقع واستكانوا للأوضاع الراهنة، وهذا كله نتيجة طبيعية لسياسة النفس الطويل التي ينتهجها المجلس العسكري مع المصريين منذ توليه إدارة البلاد، ويبدو أن هذه السياسة قد آتت أكلها على الوجه الذي يشتهيه أعضاء المجلس العسكري.
الافتقار إلى الخبرة السياسية:
أنا لا أدري كيف وافق المصريون – منذ البداية - على أن يدير المجلس العسكري المرحلة الانتقالية؟ هل كنا مغيبين وفاقدي الوعي إلى هذا الحد؟ أو كنا مفتقرين إلى النظرة السياسية الصائبة؟ أو كنا ننظر تحت أقدامنا ولا ننظر إلى المدى السياسي البعيد؟ لماذا لم تُشكل حكومة وحدة وطنية أو حكومة مدنية لإدارة هذه المرحلة الحرجة من تاريخ البلاد، وتكون مهمة المجلس العسكري حماية مؤسسات الدولة والمحافظة عليها فقط؟ فالمجلس العسكري لا يُحسن العمل بالسياسة، وهذه ليست مهمته، وليست لدية الخبرة السياسية التي تؤهله لإدارة هذا الشأن المهم، وبالتالي فمن الطبيعي أن يخضع لكثير من الضغوط والأفكار من هنا وهناك، ويميل إلى هذا تارة وإلى هذا تارة أخرى، ويظل دائمًا في حالة تردد، وهذا يفسر لنا سر منهج المماطلة والتسويف الذي يتبعه المجلس العسكري منذ اللحظة الأولى لتوليه إدارة شئون البلاد، فليس لديه منهج واضح ومحدد لهذه المرحلة، ويفتقد لرؤية إستراتيجية جامعة للخروج من الأزمة، ومعظم قراراته بالونات اختبار إما أن تستمر أو لا تستمر، وأحيانًا تغلب عليه الطبيعة الديكتاتورية التي تربى عليها مع النظام السابق، أو التي تفرضها عليه الطبيعة العسكرية لرجال الجيش، فلا يسمع لهذا أو ذاك، ويصدر ما شاء من القرارات بليل متبعًا سياسة: ((اللي مش عجبه يخبط دماغه في الحيطة))، فهل مصر – في هذه المرحلة الحرجة – تحتمل مثل هذا التهريج السياسي؟ سؤال يجب علينا جميعًا أن نجيب عليه بكل صدق وأمانة إذا كنا نريد الخير والاستقرار لمصرنا الحبيبة.
التلكؤ في إصدار قانون العزل السياسي:
إن من أغرب مواقف المجلس العسكري الأخيرة تلكؤه في إصدار قانون العزل السياسي أو قانون إفساد الحياة السياسية لمنع فلول الحزب الوطني المنحل من الانخراط في العملية السياسية مرة أخرى، أو منع كل مَن شارك في إفساد الحياة السياسية سابقًا من المشاركة في العملية السياسية لمدة زمنية محددة تتيح لهؤلاء أن يتطهروا من أعمالهم الشائنة السابقة، وأن يوطنوا أنفسهم على التعامل بنظافة وشرف مع المرحلة الجديدة التي تمر بها البلاد، إن هذا القانون له أهمية كبيرة، حيث يفتح أمام هؤلاء باب التوبة السياسية لينخرطوا في المجتمع من جديد بفكر جديد وسياسة جديدة أساسها الشفافية والصدق والحرص على مصلحة الوطن.
ماذا ينتظر المجلس العسكري لإصدار مثل هذا القانون الذي يريح المصريين جميعًا، ويعطيهم انطباعًا إيجابيًّا أن الأمور تسير نحو الأفضل؟ هل ينتظر أن تبدأ الانتخابات البرلمانية ويحدث الصدام الدموي بين هؤلاء الفلول وجموع الشعب الشرفاء ويسقط الضحايا من الطرفين كالعادة، ثم بعدها يكون التحرك لإصدار قرار متهافت لا يغني شيئًا ولا يقدم حلاًّ للأزمة التي وقع فيها المصريون جميعًا؟ أم أن كبراء الحزب الوطني المنحل عقدوا معه صفقة لتأخير صدور هذا القانون حتى يتمكنوا من خوض الانتخابات البرلمانية، وبعدها يتذرعون أنهم وصلوا إلى مقاعد البرلمان بأصوات الشعب، ومن المؤكد أن المقابل الذي سيحصل عليه المجلس العسكري من وراء هذه الصفقة هو وقوف هؤلاء الفلول خلف رئيس المجلس العسكري أو غيره لتأييد ترشيحه لمنصب رئيس الجمهورية.
سياسة ((حزَّر فزَّر)):
هل أحد من المتابعين يتصور أن هناك سيناريو آخر لهذا الموقف، أو لديه تفسير آخر لهذا التلكؤ، إننا جميعًا نحاول أن نجد إجابة لهذا السؤال المحير: لماذا لم يصدر هذا القانون حتى هذه اللحظة؟ إن صمت المجلس العسكري حيال إصدار هذا القانون وغيره من القرارات المصيرية لهذا الوطن هو الذي يفتح الباب أمامنا للتخمين والتوقع ومحاولة إيجاد تفسير لكثير من المواقف المستغربة، ولو كان المجلس العسكري حاسمًا في إصدار هذا القانون وغير من القرارات لأراحنا وكان عند حسن ظننا به، لكن يبدو أنه لا يريد لنا الراحة ولا هدوء البال ولا اطمئنان القلب، ولا يسعى إلى نيل ثقة الشعب، ويريد أن يجعلنا دائمًا في حالة ترقب وانتظار وتوقع وتخمين وتفسير، أي يتبع معنا سياسة ((حزَّر فزَّر)) التي تستهلك – لا شك – كثيرًا من الوقت مما يؤكد لنا جميعًا أنه يراهن على طول الفترة الزمنية وسياسة النفس الطويل ليصل الشعب إلى مرحلة اليأس، ويترسخ في أذهاننا أنه لا فائدة مما نقوم به، وعلينا أن نرضى بأية سياسة يفرضها علينا أعضاء هذا المجلس.
إن كل المؤشرات تؤكد أن المجلس العسكري لا يحسن إدارة البلاد، أو أنه غير مهتم بإصلاحات حقيقية، وأن الأوضاع تسير من سيء إلى أسوأ، سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، وكل الخطوات التي تم اتخاذها حتى هذه اللحظة لا تبشر بخير ولا تُسْلِم إلى حياة سياسية مستقرة ولا إلى ديمقراطية حقيقية، وأنه ما زال يعتمد على أنصاف الحلول لإخراج البلاد من أزمتها، وإرضاء جميع الأطراف وإن كان ذلك على حساب مصلحة الوطن واستقراره، ورغم أن رئيس المجلس العسكري قد أعلن أنهم ماضون على طريق ترسيخ أركان الدولة الديمقراطية التي تعزز الحريات وحقوق المواطنين من خلال انتخابات برلمانية حرة ونزيهة، لكن يبدو أن هذه التصريحات لمجرد الاستهلاك الإعلامي ولتخدير الشعب وتنويمه، لأن التعامل مع الأحداث وتطورات الأمور لا تنبئ عن أي تغيير نحو الأفضل.
استنساخ السياسات المقيتة السابقة:
أضف إلى ذلك استنساخ المجلس العسكري لسياسات النظام البائد في التعامل مع العديد من المواقف، فنلاحظ أنه يمارس دور الرقيب على إصدار الصحف، وليس ما حدث لصحيفة صوت الأمة عنا ببعيد؟ كما أصبح يتدخل في البرامج الفضائية فيوقف منها ما لا يعجبه ويسمح بإذاعة ما يعجبه، ما الفرق بين هذه السياسة وسياسة النظام البائد الذي كان يسخِّر الإعلام لمصالحه أو على الأقل لا يسمح له إلا بنشر ما يعجبه فقط، أين حرية التعبير وحرية الإعلام التي يتشدقون بها؟ ثم بعد هذا كله نخدع أنفسنا ونزعم أن هناك تغييرًا حدث في البلاد، إنه – من وجهة نظري- إذا كان هناك تغيير حدث فهو تغيير نحو الأسوأ وليس نحو الأفضل، أو أقل توصيف يمكن أن نقوله إنه لم يحدث تغيير أصلاً في البلاد، فقد تغير الأشخاص تغيرًا جزئيًّا ولم تتغير السياسات، تغير الحاكم ولم يتغير الحكم.
إهمال الملف الأمني الداخلي:
وهناك نقطة أخرى في غاية الأهمية تتمحور حول سؤال ملح ومهم هو: لماذا لم يستطع المجلس العسكري السيطرة على الأوضاع الأمنية حتى الآن؟ هل هذه مهمة صعبة إلى هذا الحد؟ أم أن الانفلات الأمني وحياة الخوف التي يحياها الشعب أمر مقصود ليترحم الناس على النظام السابق؟ هل يُعقل أن المجلس العسكري بصولجانه وعدته وعتاده – ومعه وزارة الداخلية بحدها وحديدها – لا يستطيعون السيطرة على الأوضاع الأمنية في البلاد؟ إن هذه السياسة الأمنية المنفلتة لا تنطلي على عقول الصغار، فلماذا يصر المجلس العسكري- ومعه وزارة الداخلية- على إهمال هذا الملف المهم في حياة المصريين، وإذا كانوا لا يستطيعون حماية الناس وتحقيق الأمن لهم فما فائدة وجودهم؟
الترشح لرئاسة الجمهورية:
ثم تأتي مسالة ترشح أحد من المؤسسة العسكرية للرئاسة لتكون من أبرز الموضوعات المحيرة للمصريين، وموقف المجلس العسكري من هذا الموضوع في غاية الغموض، ومعظم المعلومات تشير إلى أن المجلس العسكري يريد تحويل دفة الأمور لصالحه والسيطرة على مقاليد الحكم، بل الاستماتة على البقاء في الحكم، وأن التظاهر بالزهد في الحكم هو جزء من خدعة كبيرة وقع الشعب في حبائلها عندما ظن أن هذا المجلس يستحق الثقة، ثم تثبت الأحداث يومًا بعد يوم أنه يستغل هذه الثقة أسوأ استغلال، وقد ألقى أكثر من بالونة اختبار حول مسألة الترشح لرئاسة الجمهورية ليعرف موقف الشعب منها، فكثيرًا ما طالعتنا الصحف بالعديد من العناوين المتناقضة في هذا الشأن، بعضها يؤكد أن المجلس العسكري ينفي ترشيح أحد من المؤسسة العسكرية لمنصب الرئاسة، وبعضها يصدمنا بأن هناك اجتماعات سرية لأعضاء المجلس لترشيح أحدهم لمنصب الرئاسة... وهكذا، وبعد أن يعرف المجلس أن الرأي العام رافضٌ لوصول العسكر إلى سدة الحكم، يعود فيتظاهر بالزهد في الحكم وأنه لن يترشح أحد من المؤسسة العسكرية لهذا المنصب، وأصبحنا في ((حيص بيص))، لا ندري أين هي الحقيقة، ولماذا هذا الالتفاف والخداع؟ وربما كانت الحقيقة- التي لم ولن يصرح بها المجلس العسكري – أنه لا يريد أن تنتقل السلطة إلى رئيس مدني أو إلى حكومة مدنية، لذلك لا يجب أن نخدع أنفسنا كثيرًا بأن المجلس العسكري سينقل السلطة إلى المدنيين بسهولة، لكن ربما احتاج الأمر إلى ضغوط كثيرة ليتحقق للشعب ما يريد.
وها هي آخر التقليعات ظهور ائتلاف مشبوه يدعو لجمع مليون توقيع لتولي المشير منصب رئيس الجمهورية لنعود إلى سياسة ((حزَّر فزَّر مين الرئيس القادم؟))، ما هذا الغموض؟ أليس من الأفضل أن يكون موقف المجلس العسكري واضحًا وحاسمًا من موضوع الرئاسة بدلاً من اصطناع مسرحيات هزلية للتمويه على الناس أن المشير أو غيره لا يريد السلطة، ومحاولة التمويه على الناس بأن هذا الائتلاف المشبوه تحرك من تلقاء نفسه لهذه الدعاية وأنه ينفق عليها من ماله الخاص؟ وإذا كان المشير حقًّا لا يريد السلطة بصدق أليس في مقدوره أن يوقف هذا التهريج؟
إننا بعد ظهور هذا الائتلاف أمام تفسيرين لا ثالث لهما؛ الأول: أن المجلس العسكري هو الذي صنع هذا الائتلاف للدعاية لرئيسه وتكفل بتمويله، الثاني: أن هذا الائتلاف تحرك من نفسه لهذه الدعاية، ثم صادف عمله هوىً في نفس المشير والمجلس العسكري، فباركوا خطواته وتركوه يكمل ما بدأه لتكتمل أركان المسرحية.
الرحيل ضرورة سياسية:
نحن حتى هذه اللحظة لا ندري ماذا يريد المجلس العسكري؟ وإلى ماذا يخطط؟ وإلى أي نفق مظلم يجر البلاد؟ ولماذا لا يحترم ثقة الشعب المصري فيه فيسرع بتحقيق مطالبه، وتسليم السلطة إلى ممثليه الحقيقيين؟
إنه بعد مرور عشرة أشهر على ثورة الخامس والعشرين من يناير بات من المؤكد أن رحيل المجلس العسكري عن سدة الحكم ضرورة سياسية، ويجب عليه أن يكون أول المبادرين نحو اتخاذ هذه الخطوة التاريخية قبل أن يبادر الشعب باتخاذها، فالأفضل له أن يقف موقف المحايد من العملية السياسية، وليترك السياسة لأهل السياسة حتى لا يتحمل أوزار هذه المرحلة الحرجة من تاريخ البلاد فيفقد ما تبقى له من رصيد الحب والتقدير في قلوب المصريين، ولتقتصر مهمته في الفترة الراهنة والقادمة على حماية مؤسسات الدولة والمحافظة عليها لحين الوصول إلى مرحلة الاستقرار، فنحن لم نعهد الجيش منافسًا سياسيًّا، وإنما عهدناه محايدًا شريفًا، ورمزًا للحماية، ودرعًا للوطن.
د/ محمد علي دبور
كلية دار العلوم – جامعة القاهرة
وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
ساحة النقاش