<!--
<!--<!--
مرق من باحة المنضرة .. لاويا سحنته المليئة بالتجاعيد ، تجاهل أخيه المقرفص تحت الحائط دافنا عيونه في أعماق الأرض ، وقد إستحوذت عليه الهموم فتثاقلت رأسه رفع حاجبه كاسرا عينيه تجاه أخيه المارق أمامه ، تمتم ثم أمسك بعود الثقاب وأخذ يخط في الأرض التي إفترشها ، صرخ ينادي أخته الصغرى التي انكمشت تحت الجدار وسحبت المقطف لتتوارى من طلعته.
-أين أمك؟
تعثرت بجلبابها الطويل الفضفاض وهى تهرول نحوه مرعوبة وترنحت الكلمات من فمها فتساقطت متقطعة لتطفئ وجومه:
-عند الكرم. كرم النخيل
اندفع متدحرجا للشارع متجاهلا أخيه مرة أخرى الذي تعثرت خطواته تجاه أخته واحتضنها، أربت عليها وعيونه شاردة...... ثم عاد متقرفصا تحت حائطه
أخذ الصغير يشق الأرض ويقصف سنابل القمح الطرية فيدوسها بقدميه لتصنع خلفه ممر غير مألوف ، طالعه كرم النخيل تتراقص عيدانه عالية غير آبهة بجبروته ،أبطئ خطاه وتذكر أن هنا ولدت أحلامه وهنا ماتت ، الكل يموت وهذا الكرم صامد يتوارث الأجيال ، قال له جده أنه لم يعاصر من زرعوه ، نتعاقب على خيره ولم يطلب خيرا من أحدا ،هنا ولدت نرجسيته وتمددت ولكنها أيضا شاخت وربما رحلت ، ترى لو حفر تحت جذوعه لوجد بقايا من كراساته و أقلامه و أحلامه أيضا وبعض من خطاباته التي كان يدفنها لمحبوبته .......
لمح أمه تتربع تحت (فروخ) النخيل الصغيرة وتصنع منها ظلا يحميها من وطأة الشمس الحارقة ملفوفة في ملاءتها السوداء تخط بالنوى تلاعبه في الهواء ثم تكومه ،تعاود الخط مرة أخرى ثم تقبِل النواة المحمولة وتتمتم (خير اللهم اجعله خير) و تفرك عينيها بطرف طرحتها رافعة حاجبيها وكأن غشاوة حالت بينها وبين قراءة المكتوب ، وقف يتأملها ثم نظر إلى أبيه الذي تلاشت صحته وبرزت عظامه ، ، رآه يلف حبله المصنوع من ( ليف النخيل ) حول خصره وآخر يقبض عليه بفمه الفارغ الأجوف وهو يحزم الجريد والسعف ،لم ترتج مشاعر الصغير لما رآه ، وقف فوق رأس أمه يستجمع قواه ليخبرها......انحنى الأب و حوي بساعديه حزم الجريد حاول رفعها على ظهره فانكفأ على الأرض انغرست شوكة في راحة يده صرخ محدقا بصره الضائع تجاه ابنه الذى لم يعره انتباها ولكن أوجعه الصراخ الواقع على أطبال أذنيه :
- أنا ماشي........
ثم رجع تاركا خلفه أرتال من الحزن على وجوه الأبوين تقاطرت عيون أمه بالدموع وهى تحاول الوقوف فتكومت وتمرغ وجهها فى التراب وأخذت تولول بصوت عالي (قالوا بنيه تهد الدار عليه وقالوا وليد وسع البيت )غابت طلعته عليهم وتورم الحنين بين عروق الأب و انطفأت شموع لم يرى نورها ......
كانت مسبحة العمر سريعة ،غابت عن الابن رضوض أخبارهم وتلوت سبل الوصال ، حتى شاخت ذكرياته واندست بين ضلوعه شيخوخة ما وعيها ،فتبلط رأسه بالشعر الأبيض وانتفخت شرايين وجهه ويديه .....انكفأ على الموقد يشعل النار ،هاج داخله الحنين وانفلقت حباته فأنبتت داخل قلبه سنابل وأزهار ، ارتعد جسده الهزيل وهو ينفث حمما من فمه الفارغ وهو يتأوه ....وزوجته تتقرفص بجواره تتحسس بيدها موضع (الكنكه) على الموقد ،تزحف على مؤخرتها بعد أن تورمت ساقيها من قسوة المرض . لم يعد يملكان إلا هذا الوحيد النافق في الأرض ،يحفر القبور للموتى ليطعم العاجزين ،نظر إلى شعرها المجعد النافر وعراقيبها النحيلة ...وصاح فيها ...نفق العمر وما وجلت رضاهم ، دك ساعديه المرتعدة بالأرض هاما بالوقوف ليستدرك أن له أبوين تركهما في رعونة شبابه
.تلاعبت الرياح بجسده الواهن فتراقص في الهواء وتلعثم بجلبابه وهوى على الموقد فأوقد الجمر خده وهو لا يقوى على الوقوف ،اخذ يرفس من لسع النار صرخ يستغيث بوحيده النافق في الأرض ،نظر الابن من الحفرة التي حالت بينه وبين أبيه ، فشب على أطرافه ليراه ملقى على الموقد والنار تشوي خده ،انسلخ من الحفرة ونفض يديه من غبار مشبع برائحة الموتى.
انحنى والتقط جلبابه واندس فيه ثم نظر إليهم ،تأفف وبصق على الأرض وارتجل دربا من ذهب فيه لا يأتي أبدا..........