بقلم: د. محمد جمال حشمت
إجابة هذا السؤال سهلة ميسرة لأي مواطن مطحون في مصر لم يمارس أي عملٍ سياسي في حياته ولم يفكِّر أن يقلِّد الأثرياء، بل فقط يريد أن يعيش مستورًا يكفي نفسه وأولاده؛ يبيت آمنًا ويصبح آمنًا على نفسه وحياته.. أي شاب هرب من المشاركة في انتخابات اتحاد الطلبة بكليته؛ إراحةً لدماغه من القيل والقال ومتابعة الأمن وكثرة السؤال، ورغم ذلك تخرَّج منذ سبع سنوات ولم يجد عملاً بمؤهله حتى اليوم وصار التفكير في الزواج حلمًا صعبَ المنال!!
هذا السؤال لا يصح أن أجيب أنا بشخصي الضعيف عليه؛ لأني معارض للنظام، بل وبيننا مطارق الحداد؛ فمنذ انتخابي للبرلمان عام 2000م وهناك رصد وتربص ومتابعة للأقوال والأفعال، حتى وصل الحال إلى تزوير أصوات النواب- الذين جاءوا أصلاً بالتزوير- في البرلمان لإسقاط العضوية، ثم وسط حشود عسكرية تحولت دائرتي (دمنهور وزاوية غزال) إلى ثكنة عسكرية، وجاءوا بقاضٍ مرتشٍ تولَّى القضية، حتى إن شرفاء القضاة لم يقبلوا استلام مكافأة إشرافهم على الانتخابات رغم ارتفاع قيمتها عن باقي الانتخابات!!.
وهنا سمعتُ بأذني- لأول مرة- من بعض القضاة دَور مؤسسة الرئاسة فيما حدث من تزوير، ولم أستوعب وقتها كيف لمؤسسةٍ هي أرفع المؤسسات أن تتدخَّل في سير انتخابات لنائب لا يمكن أن يكون له دور فاعل مؤثر بأية حال، غير أني اقتنعتُ بعد علمي أن المصيبة في اسمي الذي يحمل العَلَم "جمال""!!."
وقد تأكدت الرؤية بعدما حدث في انتخابات 2005م على يد قاضٍ منتدَبٍ لإحدى الوزارات واتصال به من الرئاسات لتأكيد ما تم الاتفاق عليه من مهماتٍ بعدما انتهت النتيجة على فارق كبير من الأصوات، فكان لا بد من التدخل الذي تكشَّفت خيوطه أمام كل القضاة الشرفاء الذين تسبَّبوا في فضيحةٍ وخسارةٍ هي بكل الحسابات قد حفرت قبرًا لنظامٍ فاشلٍ بكل ما يحمل من سياسات، ثم بعد ذلك يُطلب مني أن أجيب عن سؤال: ماذا قدَّم النظام؟ كيف وأنا متهم بعداوة هذا النظام، وهو شرف لا أدَّعيه؟! بل نترك الإجابة للسان العراة.
والعراة هو وصف عبقري لأحد شيوخ القضاة الشرفاء في مصر المستشار أحمد مكي نائب رئيس محكمة النقض عندما علَّق على فرض الحراسة القانونية على النقابات المهنية بأيدي القضاة، ووصفه بأنه فضيحة قانونية (المصري اليوم 8/11/2008م) عندما قال: "إن الأوطان إذا ابتليت بحكمٍ استبدادي أصابته شهوة البقاء" في السلطة فإنه ينقلب على مؤسسات بلده ويفكِّكها ويحظر الأحزاب ويُضيِّق على النقابات والجمعيات ليصبح كل فردٍ أمامه "عاريًا وعاجزًا" ينتظر إحسان الإدارة" "انتهى.
هكذا صرنا أمةً من العراة العاجزين ننظر إلى الحاكم ليمنَّ علينا ببعض حقوقنا التي قصَّرنا في الدفاع عنها، وهنا تلعب العصا والجزرة دورهما التاريخي طالما أنه لا منفذ إلا من خلال الحاكم وزبانيته؛ فأنت بدونهم يا ولدي محروم.. محروم.. محروم!.
لم يصل الحال بمصر في وقتٍ من الأوقات مثلما هو الآن؛ انفصال تام بين مؤسسة السلطة وبين الشعب، كلٌّ يرى الحياة بنظرة مختلفة ويمارس حياته بشكلٍ مختلف؛ السلطان ومن حوله يرون أن ما قدموه للوطن من خدمات يفوق إحساس وادعاءات هذا الشعب العاجز، وأنه ليس في الإمكان إلا ما كان، والشعب يرى أنه فقد حبه لوطنه وانتماءه ورغبته في العمل بسبب هؤلاء؛ لأنه وجد نفسه غريبًا في بلاده مطاردًا ومتهمًا بلا سبب، بل محرومًا من حقوقه الأساسية، وكلما طالب بحقه وجد كذبًا في الردود وعنفًا في المعاملة واتهامًا دائمًا بالتمرد!.
فانقسم الناس أمام هذا الاتهام إلى ثلاثة فرق؛ أولها استسلم وأقرَّ بصحة رؤية السلطة، ودار في فلكها؛ يأكل من ورائه ويتمتع بخيره وحمايته، مضافًا إلى قوة الفساد مخصومًا من قوة الشعب، لكنه ما زال عاريًا عاجزًا وإن ادَّعى غير ذلك، ثانيها رفض الظلم وطالب بحقوقه انطلاقًا من مبادئه وأفكاره أيًّا كانت، فتم حرمانه واتهامه ومطاردته، لكن لأنه محروم من حقوقه الأساسية فما زال عاريًا، ولأنه غير قادر على التغيير فما زال عجزه باديًا!، وإن كان امتلك رغبة وإرادة التغيير، لكن دون وحدة هؤلاء جميعًا سيظلون عراة عاجزين.
أما الفريق الثالث- وهم الأغلب- فقد تركوا الظالم لعدل العادل، والقوي لمَن هو أقوى منه، وظنوا أن بُعدهم عن ميدان الصراع والاكتفاء بالحياة الذليلة التي يحيونها وقبلوا العيشة المرة وارتضوا الهوان أمام السلطة تماشيًا مع المثل "اللي اتجوز أمي أقوله يا عمي"، "والباب اللي يجيلك منه الريح" سدّه واستريح" "أو حتى سيبه مفتوح لو عجزك بادي"!!"
وهم المثال الحي للعراة العاجزين في هذا الوطن المكلوم بأبنائه حكامًا ومحكومين!، أولئك جميعًا يدركون ماذا قدَّم هذا النظام طوال مدة اغتصابه للحكم في مصر بلا تفويض حقيقي من الشعب، وفي مناخ السلام الذي سعى إليه بشكله الحالي طوال ثلاثين عامًا، وما زال أهل سيناء لا يشعرون في ظله بالمواطنة، ولا المصريون بالرخاء والأمن!، فماذا قدَّم نظام الرئيس مبارك الذي لن يستطيع أن يقرأ سطرًا من هذا المقال ولن يجرؤ أحدٌ أن يُطلعه على مضمونه:
1. قدَّم تغييبًا لوعي الأمة كي تفقد التمييز بين أعدائها وأصدقائها، كما قدَّم إفسادًا لعاطفة الأمة؛ فلا تملك القدرة على نصرة المظلوم في أي مكان في الداخل أو الخارج، بل تآمر مع المعتدين (انظر سلوك الإدارة والشرطة في التعامل مع الشعب، وانظر الموقف من احتلال أفغانستان والعراق وما يجري في فلسطين).
2. قدَّم إذلالاً لكرامة البشر الذي يتحمَّل مسئولية حكمهم بعد أن سيطر بقواته العسكرية على الحياة المدنية في وطن العراة!؛ لا فرق في ذلك بين أستاذ جامعي أو قاضٍ أو نائب أو طبيب أو عالم أو معلم أو مهندس أو مواطن عادي؛ كلهم لا كرامة ولا حقوق لهم عنده (راجع الإهانات والتعديات على كل هؤلاء وحرمانهم من حقوقهم حتى اضطر بعضهم إلى الغضب والتعبير عنه).
3. قدَّم انهيارًا لمنظومة القيم التي عاش بها ولها المصريون على مختلف عقائدهم، وسهَّل الطريق لكل من يحقِّق هذا الهدف في الجامعات (منع التدين وحماية صور الانحراف من عري وزواج عرفي وإدمان)، في الإعلام (إفراط في الإباحية ومنع للثقافة الدينية الفاعلة وتحجيم لظهور قوى المعارضة القوية)، والصحافة (نشر صور وقصص وحوادث الفساد بشكلٍ يُصيب القرَّاء باليأس والإحباط، ويعوِّد المتابع على تحطيم والخوض في كل المحرمات والمقدسات)، وفي التعليم الذي لم يعد له قيمة ولا وزن داخل وخارج الوطن؛ حيث تحوَّلت الوزارة المعنية وكافة الوزارات إلى بوقٍ ينشغل بتنفيذ طلبات الحاكم ورؤيته والترويج له والدفاع عنه، وانهارت مقومات التعليم ومخرجاته على يد مرتزقة مشغولة بجمع الأموال والمناصب لتستر بها عريها وتداري بها عجزها، وفي الشارع تعدَّت آثار انهيار منظومة القيم والأخلاق وحدودها الآمنة، فكانت البلطجة والتحرش الجنسي وفوضى المرور ومواكب المسئولين وانتشار التسول والعشوائيات تعبيرًا عن هذا الانهيار الذي أفقد المصري هيبته وكرمه ونخوته وقوته أمام الخوف والضعف والعجز؛ لأنه يعلم أنه ما من أحد سيحميه إذا استعاد هذه المقومات الأخلاقية، وهنا بدا كأنه عارٍ لا يستره شيء ولا يركن إلى شيء!.
4. قدَّم أسوأ نماذج الإدارة على كل المستويات عندما تبدو الدولة ومؤسساتها في الصورة، ولم تنجح أية إدارة إلا بعد تفرنجها وتسليم مفاتيحها للأجانب، حتى جمع القمامة يشهد التاريخ لنظام الرئيس مبارك أنه فشل في جمع قمامة الوطن إلا على أيدي الأجانب، مرورًا بالمستشفيات الكبرى الدولية المتخصصة، وانتهاءً بالمشروعات القومية الناجحة، مثل مشروع المترو في بداية عهده، والمشروعات الاستثمارية المشتركة؛ مما أهان المصري في وطنه، وهو المتميز في أي مكان يذهب إليه!، وهذا يؤكد أن عوامل داخلية هي التي أفرزت هذا الضعف والتخلف؛ لكثرة التداخلات الرسمية الأمنية، فلم يعد للمبدعين مكان أو أفراد أو مؤسسات تحتضنهم وتحتويهم تنمية واستثمار لإمكانياتهم المبدعة، فصاروا كالأيتام على موائد اللئام.
5. قدَّم أسوأ ما يمكن أن يقدِّمه حاكم لأمته، وهو الاستهتار بالعدالة والتحايل على القانون والسخرية منه ليل نهار، وعدم الامتثال للأحكام القضائية بل تلاعب بالقضاء كما تلاعب من قبل بالبرلمان، وأكد ما قاله الدكتور جمال حمدان- رحمه الله- من أن "السلطة الوحيدة في مصر هي السلطة التنفيذية، أما السلطة" القضائية فهي محلل قضائي، وأما السلطة التشريعية فهي مبرر نيابي، والنتيجة الطبيعية لذلك هو تفشي الظلم والفساد وانتشار المحسوبية واستعمال البلطجة لاسترداد الحقوق وانهيار صورة الدولة ومؤسساتها، ولم يَبْقَ غير استعمال القوة العسكرية المدنية (الشرطة) لفرض هيبة الدولة المفقودة نتيجة ممارسات إدارة الحاكم، ولأنه سيطر من قبل على القانون والقضاة (برلمان وقضاة)، فكان من الطبيعي أن يزوَّر شعار الداخلية من ""الشرطة في خدمة الشعب" إلى "الشرطة والشعب في خدمة القانون" والجميع في خدمة" الحاكم ونظامه!!.
6. قدَّم هذا النظام البائس لشعبه حاضرًا موغلاً في الفقر والتخلف والمرض طبقًا لإحصائيات مركز المعلومات بمجلس الوزراء والتعبئة والإحصاء محليًّا والمؤسسات الدولية عالميًّا، والأسوأ من ذلك أنه لم يتحرك خطوةً في الاتجاه الصحيح نحو تدارك الأخطاء وإصلاح الأوضاع لرسم صورة مشرقة لمستقبل.. وطن قد يطول فجره لكنه لا يقطع الأمل لدى الشباب الذي شاخ في عز شبابه وأصيب بيأسٍ وفتورٍ وأمراضٍ كانت تُصيب الكبار فقط حتى وقت قريب!!.
نظام أسرف في استعمال مصطلحات الفكر الجديد والمستقبل والعدالة الاجتماعية ودعم الفقراء واكتشاف المواهب وحماية المرأة والطفولة والنمو الاقتصادي والحياة تسير في عكس الاتجاه.. نظام استسهل الكلام وواجه الشعب بوعود معسولة منذ بدء وجوده، لكن المفارقة أن كل ذلك تم وسط الحراسة المشددة أثناء التحركات العادية والزيارات الرسمية!.
7. آخر ما قدَّم النظام لوطن العراة هو ما يهدد بقاءه واستمراره، وهو اختيار الأسوأ لتولي المسئولية - وخيرًا فَعَلَ- خاصةً بعد أن صار الأمر في أيدي عقول أمنية تربَّت على أن حياتها، واستمرارها رهين بكلمة "كله تمام" يافندم" دون مناقشة!، حتى الأمن السياسي كنت أتصور أنه ذو اتجاهين "ينفِّذ التعليمات بعد أن يرفع تقارير حقيقية تقدِّم الرأي والنصيحة بما يجب أن يتم"، لكنهم" للأسف لا يملكون إلا تنفيذ الأوامر، وإن لزم الأمر رفع تقارير بما يريده السادة الرؤساء ويروه بحكمتهم وخبرتهم!!، حتى الدراسات الجادة التي تقدمها بعض الجهات في مصر "جامعية أو قومية أو نيابية" لا أحد يأخذ بها؛ لأن مستوى الأبحاث أعلى من مستوى طالب المشورة أو أن الأهواء والأهداف المحددة سلفًا تمنع الاستفادة منها، ودليل ذلك هو المشروع النووي المصري الذي قدمت فيه دراسة عبقرية من كافة المتخصصين في الوطن عام 1987م تحت اسم التقرير رقم 8 من إصدارات مجلس الشورى المصري الذي خطَّط لبناء المفاعلات المصرية بأمان خلال عشرين عامًا (2007)!!، لكنَّ أحدًا لم يلتفت إليه، وصار الأمر في سخريةٍ ومرارةٍ في حكومة المنتجعات يتردد بمقولة: كيف لنظام فشل في جمع قمامته أن يبنيَ برنامجًا نوويًّا؟!!
أخيرًا.. كان يجب أن نستكمل المقال بإجابةٍ على سؤال آخر، وهو: ماذا قدَّم شعب العراة لحكَّامهم طوال هذه الفترة، ونُنهي بمقالةٍ عما يجب أن يتم الآن.. إجابة عن السؤال: ماذا يجب أن يقدِّم كلٌّ من الحاكم والشعب المصري للآخر؟، لكن نَعِد بذلك إذا كان في العمر بقية، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
———-
ساحة النقاش