نقد المعارضين السلفيين المحدثين للحقيقة المحمدية الصوفية
إن العلة الأساسية في الهجوم الشديد على التصوف من قبل كثير من السلفيين المحدثين في هذه النقطة بالتحديد، هي اعتبار المتصوفة جميعًا ذوي فكر واحد، وعدم التفريق بين معتدل وغال، والتأكيد على أن أصحاب التصوف الفلسفي هم المعبرون الحقيقيون عن التصوف، وكل من سواهم فإنما أخفى مذهبه، ولم يبح به للعامة.
وبناء عليه، فالصوفية جميعًا -في رأي المعارضين المحدثين- تعتقد في محمد أنه هو الله سبحانه ذاتًا وصفة، وأنه هو الظاهر والباطن، وأنه هو الوجود المطلق، والوجود المقيد، أنه كان ولا شيء قبله، ثم تعين في صور مادية سُمِّي في واحدة منها بجماد، وأخرى بحيوان، وهكذا حتى اندرج اسمه كل مسمى، وصدقت ماهيَّـتُه على كل ماهية .
ذاك هو محمد الصوفية، أما محمد خاتم النبيين، فقد بيَّن الله سبحانه وتعالى حقيقته في قوله تعالى : " قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ "(1).
ترى هل يصدق على كل بشري أنه هو ذات الله، واسمه الأعظم؟ إن الدين الصوفي يستلزم هذه الزندقة، بل يستلزم إطلاق تلك الصفات والأسماء على فرعون وأبي جهل وغيرهما من طواغيت الكفر، فيصف كلاًّ منهم بأنه : هو الوجود الإلهي في تعينه الأول؛ إذ كلهم بشر! (2).
ولكن ما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة يؤكد أن أول خلق الله هو القلم أو العرش، فمتى خلقت أسطورة الحقيقة المحمدية الصوفية الفلسفية؟! ونحن نعلم بالتواتر القطعي أن عبد الله بن عبد المطلب تزوج بآمنة بنت وهب، وأنهما أنجبا طفلاً سمي محمدًا، وأنه نشأ نشأة الخير والطهر والشرف والكرامة .
ولقد أفرد الوكيل عشرات الصفحات في شرح ما تقدم وبيان ضلال القول بالحقيقة المحمدية وزندقته، لدرجة أنه استشهد بآراء المستشرقين في بيان حقيقة شخصية الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وأنهم : " يدركون - على عداوتهم للإسلام – هذا الحق،ويظل الصوفية – ومنهم أحبار
(1) سورة الكهف: الآية: 110.
(2) عبد الرحمن الوكيل: هذه هي الصوفية، ص 75- 76، عبد الرحمن عبد الخالق: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة، ص78-81.
******************
كبار يختالون أنهم أئمة الإسلام – مصرين في جحود أصم على عداوة ذلك الحق" (1).
ويذكر عبد الرحمن عبد الخالق درجات معتقد المتصوفة في النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وهي عنده على ثلاث :
1- من يقولون بوحدة الوجود، وأن الله هو ذات الموجودات فيجعلون الرسول هو المخلوق الأول ومنه وعنه صدرت الموجودات جميعاً وهو الإله المستوي على العرش وهذا هو معتقد ابن عربي ومن على شاكلته.
2- من يقولون: إن نور الرسول هو أول موجود فعلاً ومنه انشقت الأنوار وخلق الخلق جميعًا، لكن لا يقولون: إن ذات الرسول مستوية على العرش.
3- من يقولون: إن نور الرسول أول موجود وهو أكرم الخلق، ومن أجله خلق الله الكون جميعًا دون أن يصرحوا بأن العوالم قد خلقت من نوره، وإنما يقولون: خلقت لأجله.
هذا وبالرغم من اختلافهم إلا أنهم متفقون ومجمعون تقريبًا إلا ما شذ منهم أن ذات الرسول هي الذات التي منها تفيض كل العلوم وتنزل كل الرسالات، فالرسل لا ينزل عليهم الوحي إلا من الرسول، ويعبرون عن ذلك بقولهم إن الرسل جميعًا، والأولياء أيضاً لا تفيض، ولا تنزل عليهم العلوم الإلهية إلا من ذات الرسول في الأزل والأبد (2). <!--[if !supportFootnotes]-->
(2) عبد الرحمن عبد الخالق: الفكر الصوفي، ص 280- 282، وقارن الوكيل: هذه هي الصوفية 87- 92.
******************
أما عن المؤثرات الخارجية لهذه النظرية، وكيفية صوغ الصوفية المسلمين لها فيرى الدكتور محمد جميل غازي(1) أن الذين يعتقدون في مثل هذه العقائد في الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يتأثروا فقط بالفلاسفة بل إنهم تأثروا أيضًا بما قاله النصارى في عيسى، ولقد استطاع المتصوفة نقل هذه النظرية بالرغم من غموضها الفلسفي، وصعوبة التدليل عليها بدليل منطقي يقبله العقل، وبمجافاة هذه النظرية عن عقيدة الإسلام الواضحة !(2).
وجملة القول أن هذا التعميم لا يخلو من نظر، فالتصوف الإسلامي بما يحمله من عواطف الحب لله ولرسوله، والبحث عن طرق القرب والوصال، واستهداف أن يكون الصوفي عبدًا ربانيًا يلزمه باتباع أحب خلق الله إلى الله محمد (صلى الله عليه وسلم) في أقواله وأفعاله، دون السقوط في مهاوي الإطراء أو الخروج بشخصيته عن سمتها الذي عرفنا الله به في وصف خلقه، ووصف رسالته، وكل جوانب حياته.
وإذا انقلب الحب لله تعالى وللرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، من تلك العاطفة التي تضبطها مبادئ الشرع إلى نظريات يحاول أصحابها التوفيق بين الفلسفة التي علموا وبينها، مما يغير من شخصية الرسول (صلى الله عليه وسلم) وطبيعته، ومهمته، وحقوقه؛ جرَّ هذا إلى معتقدات أخرى توسع الهوة بين ما هو روح التصوف الإسلامي، وما هو دائر على ألسنة أصحاب التصوف الفلسفي من وحدة الأديان، وختم الولاية، والمغالاة ونحو هذا مما سبق .
<!--[if !supportFootnotes]-->
(1) ولد بقرية كفر الجرايدة بمحافظة كفر الشيخ بمصر، في سنة 1355هـ/ 1936م ، أتم حفظ القرآن الكريم كاملاً في طفولته، ثم التحق بمعهد " طنطا الأزهري "، ثم أكمل دراسته بنفس المعهد؛ وفي هذه المرحلة أخرج الشيخ كتابًا أطلق عليه " جولة مع المفكرين "، التحق بكلية اللغة العربية، ثم انتقل للعمل بالقاهرة، حصل على درجة الماجستير في الآداب، ثم الدكتوراه في عام 1972م، زار العديد من دول العالم؛ داعيًا ومعلِّمًا، كما ترأَّس الشيخ مجلس إدارة المركز الإسلامي لدعاة التوحيد والسنة بعد أن أسسه، كما تم اختياره عضوًا بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، من مؤلفاته: "الصوفية؛ الوجه الآخر" و "محنة الأحمدين" له العديد من المقالات والبحوث في المجلات والصحف، انتقل إلى رحمة الله في الثاني عشر من شهر أكتوبر سنة 1988م/1408هـ، ودفن بمقابر المركز بمدينة نصر بالقاهرة .
(2) د/ جميل غازي: الصوفية والوجه الآخر، ص 38 وما بعدها، عبد الرحمن عبد الخالق: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة، ص76، ينظر د/ عفيفي: نظريات الإسلاميين في الكلمة، ص 65-71.
ساحة النقاش