قلب المؤمن

القلب شجرة تسقى بماء الطاعة, وثمراتها أنواع الطاعات، فالعين ثمرتها البكاء من خشية الله، والأذن ثمرتها الاستماع للقرآن والعلم، واللسان ثمرته الذكر والقول الحسن, واليدان والرجلان ثمرتها السعى فى فعل الخيرات وعمل الطاعات، ومساعدة خلق الله, فإذا جف القلب، سقطت ثمراته، وحرم من منافعها.

فإذا أجدب القلب فأكثر من الأذكار, وطف على مجالس أهل الورع والحكمة، ولا تكن كالعليل، يقول: لا أتداوى حتى أجد الشفاء، وأضمن ذهاب المرض فيقال له: لا تجد الشفاء حتى تتداوى ولا تضمن ذهاب العلة إلا بعد الأخذ بالأسباب، فالجهاد ليس معه حلاوة، ما معه إلا رءوس الأسنة، وإراقة الدماء، فجاهد نفسك فى الطاعة فهذا هو الجهاد الأكبر.

مثال القلب كالمرآة، ومثال النفس كالنفس؛ كلما تنفست النفس على المرآة تسودت، واختفت نضارتها، وقلب العاجز كمرآة العجوز الفانية التى ضعفت همتها أن تجلوها, وأهملتها فلا تنظر فيها, حتى انطمس وجهها.

وقلب العارف كمرآة العروس الحسناء، كل يوم تنظفها, وتنظر فيها، فلا تزال مصقولة.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقلب ابن آدم أشد تقلبًا من القدر على النار إذا غلت".

 فكم من مؤمن كان قلبه فى جمع مع الله تعالى، أتته الفرقة فى نفس واحد, وكم من عابد بات فى طاعة الله، ما طلعت عليه الشمس حتى دخل فى القطيعة.

وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: "يا مثبت القلوب والأبصار، ثبت قلبى على دينك وطاعتك".

فالقلب بمثابة العين، والعين لا ترى بها كلها، بل بمقدار العدسة منها.

وكذلك القلب؛ لا يراد منه اللحمانية، بل اللطيفة التى أودعها الله فيه، وهى المدركة, وجعل الله القلب معلقًا فى الجانب الأيسر، كالدلو، فإن هب عليه هوى الشهوة حركه, وإن هب عليه خاطر التقوى حركه، فتارة يغلب عليه خاطر الهوى, وتارة يغلب عليه خاطر التقى, حتى يعرفك مرة منَّه، ومرة قهرَه, فمرة يغلب عليه خاطر التقى ليمدحك, ومرة يغلب عليه خاطر الهوى ليذمك, والقلب بمثابة السقف للمنزل، فإذا أوقدت فى البيت نارًا، صعد الدخان إلى السقف فسوده.

كذلك نار الشهوة إذا أشعلت فى البدن، صعد دخان الذنوب إلى القلب فسوده, حتى يكون غلافًا على صفحة قلبه.

وإذا أردت يا أخى أن تصقله، وتعيده إلى صفائه ورونقه، وترفع عنه الصدأ, فعليك بأربع خصال تعينك على جلاء قلبك وصقله.

وهى:

1 ـ كثرة الذكر، وتلاوة القرآن.

2 ـ لزوم الصمت، وقلة الكلام.

3 ـ الخلوة لمناجاة الملك العلام.

4 ـ قلة الشرب والطعام.

وقد قيل أربعة يُـمِتْن القلوب:

1 ـ مجالسة الأغنياء.

2 ـ ومحادثة النساء.

3 ـ وقلة الذكر.

4 ـ وكثرة الطعام.

وإذا أردت تنظيف الماء، قطعت عنه الخبائث التى تنجسه، وجوارح الإنسان كالسواقى تجرى إلى القلب، وتصب فيه. فإياك أن تسقى قلبك بالردىء؛ كالغيبة والنميمة, وفحش القول, وسماع المحرم، والنظر إلى ما لا يحل، وأكل السحت الحرام، وغير ذلك, فإن القلب لا يحجبه ما خرج منه، وإنما يحجبه ما حل فيه.

واستنارة القلب وضياؤه بأكل الحلال، والمداومة على الأذكار والتدبر فى تلاوة القرآن, ومجالسة أهل العلم والإيمان، وحفظه عن النظر إلى الكائنات المباحات, والتعفف عن المحرمات والمكروهات، والخوف من الموبقات، فاحفظ ضياء قلبك يا أخى, ولا تطلق صائد بصرك إلا لمزيد علم أو حكمة، ومن أراد أن ينظر إلى أمثلة القلوب، فلينظر إلى الديار التى فى بلده، فدار خربت وبقيت مزبلة للأقذار، ودار خربت وأصبحت مباءة للحيات والهوام, ودار خرج منها الضوء وحل فيها الظلام, ودار تنعق فيها البوم والغربان، ودار عامرة بأهلها تفوح منها الرياحين والأزهار، وتتلألأ فيها الثريات والأنوار.

فانظر فى قلبك لتعرف من أى هذه الأنواع، حتى تكون على بينة من أمره, وإذا طلبت قلبك عند الصلاة، أو عند تلاوة القرآن، أو عند الذكر، أو عند الخلوة فلم تجده حاضرًا، فابك على نفسك، واحث التراب على رأسك ، واطلب من الله عز وجل وقت السحر أن يرزقك قلبًا خاشعًا، واعلم أن من مرض قلبه بالمعاصى والنفاق، لم يلبس لباس التقوى، فلو صح قلبك من أمراض الهوى والشهوة، لتحملت أثقال التقوى.

وقد سمى الله تعالى الشهوة مرضًا بقوله: (فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ)، وسمى النفاق مرضًا، فقال تعالى: (فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا).

ولك فى علاج القلب المريض طريقان:

الأول: استعمال ما هو نافع لك وهو الطاعة.

والثانى: اجتناب ما هو ضار بك، وهو المعصية، كالمريض يأخذ الدواء، ويبتعد عن الطعام، حتى يتم علاجه، فإذا فعلت ذنبًا وأعقبته بالتوبة والندم والانكسار، كان ذلك سبب صلتك بالله تعالى. وإن فعلت طاعة كالحج مثلاً فأعقبتها بالعجب والفخر والكبرياء.. كان ذلك سبب القطيعة عنه، والعياذ بالله, ولا موصول إلا من وصله الله، ولا مقطوع إلا من قطعه ربه ومولاه.

عجبًا لك يا أخى.. كيف تطلب صلاح قلبك من الله، وجوارحك تفعل ما شاءت من المحرمات والذنوب؟, فمثالك كمن يتداوى بالسم، أو كمن يتعاطى الدواء والثعابين تلدغه، أو كمن أراد تنظيف ثوبه بالبول والنجس، ويلقى عليه السواد.

فمن أشغل قلبه بالله تعالى، وعالجه مما يطرأ عليه من الهوى والشهوة, كان أفضل ممن يكثر من الصلاة والصوم، وقلبه مريض، قال تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ).

ومن شغل قلبه بالدنيا، وملأه بحبها، كان كمن بنى منزلاً حسنًا، وجعل فوقه مرحاضًا يرشح عليه، فلا يزال كذلك حتى يتلطخ البناء بالقذارة، ويرى ظاهره كباطنه، كذلك أنت فى حضرة الله سبحانه وتعالى، وقلبك ملوث بالمعصية، تأكل الحرام، وتنظر المحرم، وتضمر السوء، وتعتقد أنك من العباد الصالحين.

فمن يفعل المحرمات، ويرتكب المعاصى، يظلم قلبه، وتنطمس بصيرته، فبادر يا هذا إلى طهارة قلبك وتنقيته بالتوبة، والأذكار، والندم، والاستغفار، وإن لم تتب فى حال صحتك، ربما ابتلاك الله بالأمراض والمحن، حتى تخرج من الدنيا نقيًا من الذنوب, مغسولاً من الخطايا، كالثوب إذا غسل بالماء.

فداوم على التوبة والاستغفار، وليكن قلبك مشغولاً بالذكر، فيُتبع لك الأنوار، فلا تكن كمن يريد أن يحفر بئرًا ليخرج الماء، فيحفر ذراعًا هنا، وذراعًا هناك, فلا ينبع له ماء أبدًا, بل احفر فى مكان واحد، وجد فى طلبك حتى ينبع الماء, واعلم أنه ما خرب القلوب إلا قلة الخوف وعدم الخشية من الله عز وجل، والقلب العامر الحسن، هو الذى لا يشغله عن الله قبيح ولا حسن. وإذا أردت شفاء قلبك من مساوئه وغفلته فاهجر عالم الأشباح، واخرج إلى صحراء التوبة, والبس ثياب الندم، وارفع راية الذلة، واترك مضاجع النوم، وحول حالك من الغيبة إلى الحضور، ومن اللهو إلى الجد، واطعم الفقراء والمساكين، وعود قلبك الشفقة والرقة، وأكثر من البكاء، وداوم على الدعاء خوفًا وطمعًا، فعسى أن يوهب لك الشفاء.

ولكنك يا أخى تهتم بالطعام، وتبحث عن أجوده، وتحشو بطنك منه, وتتفاخر بالجمال والسمن, فمثالك كالخروف الذى يسمن للذبح والطعام, ألا فقد ذبحت نفسك، وأنت لا تشعر، إنما الأنوار مطايا القلوب والأسرار، النور جند القلب، كما أن الظلمة جند النفس, فإذا أراد الله أن ينصر عبده على شهوته، أمده بجنود الأنوار، وقطع عنه مدد الظلم والأغيار.

 النور له الكشف، والبصيرة لها الحكم, والقلب له الإقبال والإدبار، الأكوان ظاهرها غرة، وباطنها عبرة, فالنفس تنظر إلى ظاهر غرتها، والقلب ينظر إلى باطن عبرتها, فرغ قلبك من الأغيار، تملؤه بالمعارف والأسرار.

يا عبد الله .. دينك هو رأس مالك فى الحياة, فإن أضعت رأس مالك، فاشغل لسانك بذكره، وقلبك بمحبته، وجوارحك بخدمته، واحرث وجودك بالمحاريث, واعرض قلبك على العلماء العاملين حتى يجىء البذر، وينزل الغيث فينبت, ومن فعل بقلبه كما يفعل الفلاح بأرضه، استنار قلبه بنور الإيمان والحكمة.

 

المصدر: من كتاب تحفة العروس لابن عطاء

ساحة النقاش

الدكتور/ محمد محمود القاضي

mohamedalkady
موقع شخصي يهتم صاحبه باللغة العربية ودراساتها، والثقافة الإسلامية، والثقافة العامة، والتأليف للطفل. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

244,010