*********************************************
في محاضرة له بتعز عن «الجذر الثقافي والتاريخي للديمقراطية في المخيال العربي»
الدكتور ياسين سعيد نعمان :الثورة لم تنتهِ بعملية سياسية
أعد المادة للنشر - طارق عبده سلام
الجمعة 22 فبراير-شباط 2013
أكد الدكتور ياسين سعيد نعمان - عضو اللجنة الفنية للحوار الوطني الشامل - الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني أن الثورة الشبابية السلمية لم تنته بعملية سياسية، ولكن صاحبتها عملية سياسية كان الهدف منها إنقاذ الثورة والوطن من الحرب الأهلية.. وأشار الدكتور ياسين إلى أن ثورات الربيع العربي شكلت محطة ذات دلالة خاصة في إعادة اكتشاف صلة العقل العربي السياسي بالجذر الثقافي التاريخي للديمقراطية في المخيال الشعبي، ومدى استعداد هذا العقل على إعادة بناء موقفه من الديمقراطية، في ضوء ما رتبته قرون الاستبداد من حاجة للحرية والعدالة والمساواة والحكم الرشيد.. وبين ياسين في محاضرة ألقاها أمس في تعز عنوان «الجذر الثقافي والتاريخي للديمقراطية في المخيال العربي» والتي نظمها برنامج دعم الحوار الوطني بالتعاون مع مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة أن الشعوب بحاجة إلى دولة عادلة تستمد قوتها من إرادة الناس.. وأوضح ياسين في الفعالية التي حضرها كل أطياف العمل السياسي بمحافظة تعز أن النخب السياسية جاءت إلى الحكم بواسطة المؤسسة العسكرية، وهذه النخب لا تؤمن بالتنوع الديمقراطي والتعددية فكل ماعدا فكرها باطل أو خيانة.
حيث بدأ الدكتور ياسين سعيد نعمان محاضرته بالقول:
إن ثورات الربيع العربي شكلت محطة ذات دلالة خاصة في إعادة اكتشاف صلة العقل العربي السياسي بالجذر الثقافي التاريخي للديمقراطية في المخيال الشعبي, ومدى استعداد هذا العقل على إعادة بناء موقفه من الديمقراطية في ضوء ما رتبته قرون الاستبداد من حاجة إلى الحرية والعدالة والمساواة والحكم الرشيد وما يقترن بعملية التحول تلك من مواجهة وقطيعة مع الموروث الثقافي والسياسي والأيديولوجي الذي ظل ينتج الموانع والحواجز أمام تحقيق انخراط هذا العقل في هذه العملية التاريخية الموضوعية لبناء الحكم الرشيد.
مبيناً أن هذا الموروث يعد من الضخامة من حيث تنوعه وامتداداته وتأثيراته لدرجة يبدو معها الجذر الثقافي التاريخي للديمقراطية وفي المخيال الشعبي العربي وكأنه مجدب تماماً من أي معطيات يمكن أن تشكل مشاتل لإخصاب فكرة المشروع الديمقراطي في هذا العقل الذي بات مثقلاً بهم الانتقال والتحول إلى الديمقراطية تحت وطأة الحاجة الشعبية التي انتفضت من داخل ركام الاستبداد بحثاً عن خروج آمن إلى فضاءات الحرية وبالقدرة على استيعاب عملية التحول تلك في الظروف غير المواتية التي ولدتها السنوات الطويلة لحكم الاستبداد وكذا حالة التشوه العامة للعناصر التي تشكل بمجملها البيئة الحاملة لهذه العملية المعقدة.
وقال: إن البحث والتنقيب في هذا الجذر التاريخي لابد أن يرشدنا إلى حقائق طمرتها أنظمة الحكم المستبد في ثنايا مخيال شعبي هو القادر بمفرده على إطلاقها في الوقت المناسب وعلى يد أجيال قادرة على إعادة إنتاجها لصالح مشروع بناء الدولة المدنية الديمقراطية. لقد برهنت ثورة الشباب على هذه الحقيقة.
أولاً: الشورى والديمقراطية:
بتتبع هذا الجذر الثقافي يمكننا الوقوف أمام بعض المحطات التاريخية لنستدل منها على أبرز التجارب السياسية التي كونت المخيال الشعبي في صلته بالديمقراطية وهو الذي تزاحمت فيه أسئلة كثيرة ظلت بلا إجابات حتى اليوم أو إجابات غير مكتملة.
وتابع: سنجد في هذه المحطات كيف أن الحكام استندوا في كثير من الأحيان على ما أسموه الخصوصية(كمجموع للإرث الثقافي والأيديولوجي والسياسي والاجتماعي) لإقامة نظم للحكم وظفت مصطلحات ذات قيمة هامة في المخزون الثقافي العربي الإسلامي مثل الشورى أو العدل لتبرئ ساحة الاستبداد وهيأت العقل لقبول فكرة “المستبد العادل”. وخلال عهود طويلة راحت تعيد بناء مفاهيم مغايرة وبمضامين مختلفة للشورى داخل الوعي العربي المقموع. ولم يكن الأحفاد أقل حذاقة في لعبة تغيير المضامين تلك تجاه مصطلحات العصر فرفع البعض شعار الديمقراطية ليوظفه كغطاء لحكم مستبد تماماً كما حدث مع الشورى في مراحل تاريخية. ومثلما أصبغت هذه الأنظمة المستبدة مضموناً مشوهاً للشورى, يتفق مع حاجتها إلى المصطلح مع نفور من مضمونه الحقيقي, فقد استمرت هذه الخبرة التاريخية المتراكمة مع الديمقراطية فيما بعد.
استعارت العنوان وسجلت تحته مفهومها الخاص الدال على نفور أيضاً من الديمقراطية. ومع كل محاولة يبذلها الناس للعودة إلى أصل الكلمتين(الشورى والديمقراطية) وتصحيح مضامينها كانت الأنظمة تمعن في تمسكها بالمصطلح وتسرف في إعادة بناء معنى مختلف له في الوعي من خلال تشديد العلاقة بين حكمها المستبد وهذا المعنى المشوه والمغاير.. وصار المخزون الثقافي لايحتفظ بما يفيد الشورى التي قصدها المشّرع العظيم بقوله تعالى((وأمرهم شورى بينهم)) سوى تلك العبارة التي أطلقها صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر في بداية خلافته ((أيها الناس لقد وليت عليكم ولست بخيركم فإن رأيتموني على حق فأعينوني وإن رأيتموني على باطل فقوموني)) وشيء قريب من ذلك لعمر بن الخطاب.. أما ماعداه فجله مخزون يبرهن على حجم الضر الذي تعرضت له الشورى في توظيف الحاكم لها.
وقال ياسين: منذ أن أسس معاوية رؤيته التاريخية السياسية لمسألة الحكم على قاعدة جديدة للشورى يلبي حاجة ملكه, ومنذ أن وظف الشورى لنفي الشورى, وأقام منهجاً لتوليد مفاهيم تسلطيه للشورى, فقد سار الحكام من بعده على نفس النهج.. وفي حين حافظ الحاكم على البيعة كشرط لتولي الحكم فإن نبالة الفكرة كانت قد كشطت بحد السيف, وبقيت بلا مضمون بعد أن صار الناس لايبايعون إلا مكرهين, وتابع بالقول: ضبطت البيعة ملطخة بدم سعد بن عبادة الأنصاري الذي اختاره الأنصار في لحظة من لحظات الارتباك والفزع بعد وفاة رسول الله خليفة له لولا أن تدارك عمر الموقف لتمضي الأمور بعد ذلك في اتجاه مختلف.. لقد كانت لحظة فارقة تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتبارها من شئون الدنيا, حتى إذا ما تباعد الزمن بين عهد الرسول وصحابته الراشدين بأخلاقه وقيمه وشوراه وبيعته من ناحية والعهد الذي بدأ بالفتنة وما رافقه من تشريع لبيعة الإكراه اتسعت فيه الفجوة بين رؤيتين للحكم والشورى لاتمتان لبعضهما بصلة.
واستطرد بالقول: لقد اغتالت بيعة الإكراه فكرة البيعة من أساسها, ولم يقتصر الإكراه على البيعة بذلك النموذج من الشورى الذي أسسه معاوية بل امتد ذلك إلى تسيير شئون الحكم, حيث استلزم الأمر انتزاع المشورة والرأي في أحيان كثيرة بحد السيف أو بأكياس الذهب, والوسيلتان ترمزان إلى الإكراه في كل الأحوال فالسيف يسلب الروح والذهب يسلب الإرادة.
وعلى مقربة من هذا المفهوم الرسمي, كان هناك نموذج نظري للشورى تلوح به المعارضة في وجه الحاكم من داخل أقبيتها التي تتخفى فيها هرباً من بطش الحاكم.. نموذج يستدل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والراشدين من بعده فيأتي من يبرر عزوف الحاكم عن السير في ذلك الطريق بالقول: من يستطيع أن يكون رسول الله أو عمر أو أبا بكر؟! فالشخصية لاتتكرر وبما أنها لاتتكرر فإن النموذج لايتكرر هو الآخر لأنه يكتسب تطبيقاته من طبائع الناس.. لكن هؤلاء لايقولون لنا جواباً مقنعاً عن أسباب تكرار الشخصية في نماذج الاستبداد.. ومع ذلك فالمعارضة هي الأخرى لم تكن أحسن حالاً من الحاكم في ممارستها للشورى ولم تؤسس سنة يمكن الركون إليها في دحض سنن الحكام وإدانتها من خلال نموذج تطبيقي يعيد للشورى صورتها التي عرفها الناس به أيام الرسول والراشدين..
مضيفاً أن تلك الصورة التي كانت تجسد الشورى بقيم العدل والمساواة.. فيجد فيه الناس مستقبلهم في ظل هذا الدين.. ولذلك فقد كان التحول الخطير الذي أحدثه معاوية, ومن قبله النزوع إلى الاستسلام لضغط العصبية الأموية, نقطة افتراق بين شورى العدل وتلك الشورى المصممة لتلبية متطلبات نظام الحكم الجديد.
إن هذا يطرح أمامنا سؤالاً حول القوة الهائلة التي استلزمها نموذج من جاؤوا بعد الراشدين لتحقيق هذا الافتراق ودفع النموذج الراشدي إلى الخلف ليصبح جزءاً من الذاكرة تم من المخيال الشعبي.. قد يقول البعض إن الفتنة قد مهدت لذلك, وإن الذين كانوا أنصار النموذج الراشدي وحملته بسبب موقفهم من إيلاف الحكم, قد خذلوه في أهم لحظة من اللحظات الحاسمة بمساومات ومجادلات عقيمة, وإن الإطار السياسي والثقافي الذي انتقل فيه هذا النموذج من حاكم إلى آخر طوال أربعين سنة, بدأ يتمزق مبكراً عندما بدأ قناطير الذهب والفضة تتكدس بأيدي البعض وتنشئ ميزاناً للقوة ذات توجهات وملامح عصبية داخل المنظومة السياسية والفكرية للمشروع العالمي العظيم, مما أعطت للثروة والعصبية وزناً في إعادة صياغة مضمون الشورى, فلم يعد مثلاً رأي عمار بن ياسر أو سلمان الفارسي أو أبي ذي الغفاري بمنزلة رأي عبدالرحمن بن عوف أو الزبير أو طلحة بن عبيد الله أو مروان بن الحكم عندما يتعلق الأمر بتقرير موقف له صلة بمصير المسلمين. لم تعد قوة الإيمان ونقاوة الضمير وعفة النفس في مركز اهتمام عند الحاكم بعد أن بدا أن هناك ما هو أكثر أهمية في تعديل ميزان القوة.. مشيراً أنه من الملاحظ أن نمط حكم معاوية تشكل في بيئة مختلفة بالقرب من تخوم الامبراطورية البيزنطية.. ففي هذه البيئة تشكلت المرجعية الفكرية والسياسية لحكم معاوية بما في ذلك نموذج “الشورى” الذي شكل انقطاعاً عن نموذج الشورى الراشدي من الزاوية التي بات فيها الأمر وراثياً ذا نزعة عصبوية. ولما جادل معاوية خصومه حول التوريث, كان كأحد كتاب الوحي, ملماً بما سكت عنه القرآن وبما سكت عنه الرسول, فما سُكت عنه ترك أمره للمسلمين ينظمونه حسب حاجتهم وظروف عصرهم.. وتثار حول ما سكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أسئلة ذات طابع جدلي عميق تتعلق بمفهوم السنة وهي هل إن السنة هي ما قاله وما عمله الرسول فقط؟! إذا كان الأمر كذلك فما هو الحال بخصوص ما سُكت عنه ومادلالة ذلك؟
وقال: ألا يمكن أن يستدل من عزوفه عن تنظيم شئون الأمر من بعده على أنه سنة تلزم من سيتولى من بعده الأمر على السير على هداه؟ غير أن معاوية وهو صاحب رسول الله وأحد كتاب الوحي لم يكن ممن يغفلون القيمة المعنوية لعلاقة من هذا النوع السامي في بناء مرجعية مركبة: أسرية, إيمانية, فكرية لشرعية حكمه وتوظيفها في مقارعة خصومه لتوطيد حكم عشيرة الأمويين من أبناء قصي القرشي, فما الذي يمكن استنتاجه, بناءً على دوافعه مِنْ جعل هذا الأمر في قريش حصراً منذ السقيفة إذا لم يكن قد قصد به توريثه..
وأضاف ياسين إن رسول الله لم يجعل الأمر في قريش ولم يوص بذلك وتركه للمسلمين.. يبرز هنا حال المسلمين وقد انقطع عنهم الوحي ليضعهم أمام مسئوليتهم لأول مرة بعد غياب القائد..
تؤكد الأحداث أن خيارات صحابة رسول الله قد استحضرت الحاجة في اللحظة ذاتها بالاستناد إلى قيم الدين الجديد مع عدم إغفال المكانة والمنزلة والتراتبية للأفراد والمجاميع والقبائل. كان الإيمان حاضراً, وكان السيف حاضراً, وكانت الوجاهة حاضرة وكانت العشيرة حاضرة, لكن حضور هذه العناصر لم يكن مفككاً أو معروضاً في مواجهة بعضه البعض بل كان حاضراً في صيغة مكتملة تدعم بعضها في مواجهة بدائل محتملة..
وعن انتقال الخلافة قال: ومع المدى أخذ هذا التكامل يتخلخل ومن بين هذه الشقوق يتسرب نموذج ما بعد الراشدي الذي لم يعد صاحبه في حاجة إلى أن يبحث في مسألة التوريث من الناحية الشرعية أو الأخلاقية, فبعد مقتل عثمان الخليفة الثالث اتضح بما لايدع مجالاً للشك أن هذا الأمر العظيم لايمكن أن يقوم على عصبية بعينها مهما كانت قوتها ومكانتها ذلك أنه سرعان مابدأت هذه العصبية تتحلل إلى عصبيات أصغر, وكان لابد لهذه العصبيات الأصغر من أن تلجأ إلى القوة والمال كي تحكم وتسود.
وعن تفاعل المخيال الشعبي مع الدعوات المعاصرة قال: من الطبيعي أن يتفاعل هذا المخيال الشعبي الحامل لشورى العدل والمساواة مع الدعوات المعاصرة ورياح التغيير التي راحت تطرح العلاقة بين الحاكم والمحكوم على نحو جديد.. وقال ياسين: انتقل من هذه المقدمة إلى التجارب الحديثة التي حملها المخيال الشعبي للانتقال إلى المشاركة الشعبية أو الديمقراطية.
وثانياً: وضع الثورات المعاصرة وبعض نماذج الحكم المعاصر:
ولابد من الاستدلال هنا على محاولات خلق الصدام داخل الفكرة بتناول سريع لبعض نماذج الحكم المعاصر.. فبعض النخب جاءت إلى الحكم بواسطة المؤسسة العسكرية وغالباً ما جاءت بفكرة أيديولوجية صدامية.. ولتسويق هذا الاستيلاء على السلطة يتم على نحو سريع تسمياتها “ثورة” تتولى كل شيء بالنيابة عن الشعب, فهي تقوم بالثورة نيابة عن الشعب وتستولي على السلطة باسم الشعب, وحينما يطالب الشعب بإشراكه في إدارة شئون حياته ويتطلع إلى الحريات وإلى الحقوق التي وعدته بها الثورة لايجد سوى البنادق مصوبة إلى صدره.. وأكد ياسين أن الثورة في حقيقة الأمر هي تصحيح لدور ومكانة وقيم الإنسان في سيرورة الحياة, وهذا يعني أنه مالم يكن للثورة أدواتها السياسية التي تعظم قيم الحرية والمساواة والعدل ودوافعها التي تضع الإنسان في مصاف الحقيقة المطلقة التي تنتظم في مسارها كل الحقائق الأخرى فإنها تصبح عملاً فوضوياً عبثياً يستهلك وقت الشعوب ويطمس حقيقة تخلفها بشعارات النصر الوهمي ويقتل حوافز التغيير عندها باستحقاقات الولاء لمن صنعوا هذا النصر .
علينا أن نبحث بشيء من الموضوعية عن الأسباب التي جعلت : ثوراتنا “ ترفع شعار الحرية والديمقراطية وحق الشعوب في الحكم ثم تنقلب عليها في الممارسة وينتهي بها المطاف إلى أبواب السجون وأقبية التعذيب ليس هناك خلل في الفكرة التي نشأت مع الحاجة لإصلاح حال الأمة على قاعدة رد الاعتبار لحريتها المهدورة والمصادرة ، يكمن الخلل في أن هذه الحرية قد توقفت عند حدود الاستيلاء على الحكم من قبل النخب الوطنية أي عند مفهوم ناقص للحرية مفهوم اجتزأ القشرة السطحية للحرية عن لبها وراح ينشرها فوق أنظمة مستبدة ترفع الراية الوطنية .
أما لماذا تمسكت هذه النخب بهذا المفهوم المشوه للحرية فذلك انما يعود إلى عاملين :
الأول : أن هذه النخب بطبيعتها أو بحكم نشأتها لا تؤمن بالتنوع والديمقراطية التعددية فكل ماعدا فكرها باطل وكل ماعدا اطروحاتها السياسية خيانة وكل ماعدا المنتسبين إلى تنظيماتها مشكوك في وطنيتهم ،
الثاني : هو أن مصير الحاكم بعد خروجه من الحكم يقدم مبرراً كافياً لتمسك هذه النخب بالحكم باعتباره الملاذ الآمن لها من البؤس والملاحقة لاسيما وأن تقاليد تداول السلطة لا تترك امام الحاكم غير خيار واحد وهو الكرسي أو القبر أو المنفى فالطريقة التي يأتي بها الحكام العرب إلى الحكم تجعل مصيرهم بعد الخروج من الحكم شبحاً يقض مضاجعهم .
واستطرد بالقول : ويبدأ الحكام الذين تأتي بهم مثل هذه الثورات الى تقسيم مجتمعاتهم بين موالين وخصوم ويتفرغون زمن حكمهم في مطاردة الخصوم والأعداء وتصفيتهم ليبرهنوا على منعه وقوة فيكون معيار نجاح الحاكم وقوته صموده في وجه هؤلاء الأعداء صموده بالقمع لا بالبناء والعدالة وإطلاق الحريات ولذلك فقد نجح هؤلاء الحكام في القمع واخفقوا في بناء انظمة حكم مستقرة تجدد نفسها بالعدل والحرية والمشاركة الشعبية .
مبيناً انه من جديد يتوارى مضمون شعار النموذج الثوري القائم على العدل والمساواة الذي رفعته الثورات وتخلت عنه إلى المخيال الشعبي ويبقى حاضراً ما جسده الواقع من قمع وفساد واستبداد.
وعن فشل الثورات أشار إلى أن فشل هذه عن اكتشاف كنة المعرفة التي اختزنتها أوابد الحضارة القديمة التي تملأ البلاد العربية وعجزت عن إقامة جسور التواصل معها فكرست الانقاطع الذي سجلته عهود الجمود وراحت تقلد الشكل الخارجي لها وساومت به العقل فكانت ثورة في شكلها الخارجي وجموداً في مضمونها .
ونوه ياسين أن الثورة :
عجزت عن ان تحقق ثورة في العقل وفي المعرفة حتى أن هذا العقل اخذ ينكمش داخل صينية الطعام الذي سمحت به دولة الثورة، حُوْصِرَ العقل العربي داخل الحاجة البيولوجية لصاحبه كانعكاس لحاجة دورة الحياة في ابسط صورها، أما وقد تعقدت على هذا النحو الذي عليه الانسان المعاصر فذلك امر يضع العقل العربي في مواجهة حقيقة مع نفسه اولاً، وقال : حريته تبدأ من داخله لا من خارجه الحرية من الخارج وهم حتى لو جاء من يهب الحرية للعقل من خارجه وهو مغلق على مفاهيم الولاء التي انتجها الفساد وكرستها الفاقة وتوغلت في النفس عبر مرجعيات ايديولوجية اكسبتها صفة الجمود فلن يكون ذلك اكثر من «طارق على تابوت ليوقض من بداخله» ، على حد تعبير تشيخوف.
وتابع: الأشد إيلاماً في الوضع العربي هو أن مساحة الحرية التي استخدمت لتسوية الحاجة مع الخارج كانت كبيرة لدرجة اضحت معها المساحة المتبقية عنوانا للهزل المعنوي الذي ضرب مجتمعاتنا في العمق فترى المجتمع يتخبط داخل قيد كبير بحلقتين محكمتي الإغلاق احدهما بيد الخارج والثانية بيد النظام الحاكم وداخل هذا القيد يصبح الحديث عن الحرية شيئاً مبتذلاً بلا معنى .
وعن أسباب استأثار الخارج بهذا القدر من المساحة فذلك لأن الضعف العام الذي تولده مصادرة الحريات وتعظم وظيفتها في تسوية حاجات الناس سواءً مع الحاكم او فيما بينهم يقود في نهاية المطاف إلى تراجع معنوي تجاه مسألة السيادة الوطنية فمسلوب الحرية لا يهمه كثيراً من الذي سلب حريته بقدر مايغدو مهتماً بقضاء حاجته.
ولذلك فإن الحنين لذي يبديه كثيرون لأيام الاستعمار أو الأنظمة المستبدة السابقة أياً كانت انما يعكس هذا الهزال المعنوي الذي تخلفه مصادرة الحرية وعندما يجد هذا الجيل أن حاضره لم تغيره الثورات وأن المشاريع الوطنية في التحرر والتقدم قد توارت داخل ادراج اجهزة الأمن واستبدلت بهراوات التأديب والملاحقات أي أن الواقع يقدم صورة مناقضة لما تعرضه كتب المنجزات فإنه لم يكن أمام هذا الجيل سوى أن يخوض عملية التغيير وينطلق من واقعه هذا ليصلحه لا أن يقف خارجه ليصفي حسابه معه اصلاح واقعه بالثورة عليه هو بوابته إلى المستقبل .
مبيناً أن ذلك امر يستدعي أن يعيد بناء حلم آبائه الأوائل الحلم قبل أن تبتلعه التجارب الفاشلة التي ادارتها الأجهزة الأمنية بنائه داخل مخيلة تستوعب متغيرات العصر بأبعادها المختلفة .
والديمقراطية التي تقوم على التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة هي احد هذه المتغيرات التي لايمكن اصلاح الواقع بمعزل عنها ومثلما كان كفاح آبائهم من اجل التحرر قد اخذ مداه داخل منظومة من المفاهيم التي اشعلها الحماس نحو الحرية واخمدها فيما بعد سوط الحكم الوطني الموصول بالحلم المتعثر فإن كفاح الأبناء من اجل الديمقراطية يجب مداه داخل الحقيقة التي افرزها تعثر هذا الحلم وهي أن الأنظمة لايمكن أن تكون حرة نيابة عن الشعب .
الشعوب الحرة هي وحدها التي تستطيع أن تقيم انظمة حرة بالمعنى الذي يجسد تفاعلاً وثيقاً بين الحرية والديمقراطية حيث تكون الديمقراطية التي ترتب مسؤولية الاختيار الواعي للحاكم من قبل الشعب هو الوجه الآخر للحرية أو هي بالأصح هي اداة ممارسة الحرية .
وثالثاً : الثورات والتحول نحو البنى الحديثة
في هذا المحرر اشار إلى الثورات والأسباب تتعلق بالبنى الاجتماعية والثقافية لنخبها السياسة ولأسباب اخرى تتعلق بالظروف التي احاطت بها ومنها أن القوى التي تصدت لقيادتها لم تكن على وئام كامل مع عناصره الرئيسية قد ابقت على جسور قوية مع البنى القديمة وكثيراً ما استعانت بها في صراعها السياسي داخل المؤسسات الوطنية لتعزيز مواقعها فيها .
لقد كان الانتقال إلى العمل الحزبي وغيره من مؤسسات المجتمع المدني في ظروف الانقسام القبلي والطائفي والعرقي والديني محاولة لمقاومة تداعيات هذا الانقسام باستقطابات مؤسسية ذات بعد وطني وقد تحقق قدر من النجاح على هذا الطريق على الرغم من ان هذه البنى التقليدية عنيدة بطبيعتها فهي تأخذ من هذا الوطني عند الضرورة مايكفي لحمايتها فقط ، أي انها لا تأتلف معه بالصورة التي يعاد فيها انتاجها على نحو وطني ألا عندما تكون ضعيفة بحيث لا يكون امامها مناص سوى الذوبان والاندماج الكامل لكن هذا النجاح الذي تمثل في تفكيك جزء من حلقات هذه البنى لم ينجز مهمته حتى النهاية فغالباً ماتعثر عند الحلقات الانتقالية لأن الجديد كان رخوا واحياناً لم يسفر العنف الذي استخدم لتحقيقه ألا عن اكساب البنى القديمة مزيداً من المنعة .
في وجه التحول احنت رأسها للعنف واختبأت داخل البنى الجديدة الرخوة وعملت على المقاومة من الداخل .
وجرى توليد بنى شكلها الخارجي «وطني» ونظام عملها الداخلي يتجه إلى مزيد من تعميق الانقسام الاجتماعي
وتكمن الأسباب في: (1) أن اقوى المنتجة لم تكن بالمستوى الذي يمكنها من تحفيز العلاقات الاجتماعية على تكوين عطاء وطني واسع للكتلة السكانية..( 2) إن غياب الديمقراطية والحريات كان كفيلاً بإقصاء العناصر الايجابية التي ولدها العمل السياسي والفكري في هذا الاتجاه حيث حل بدلاً عنها الأسلوب الآوامري ومعه جرى تعسف عملية التحول برمتها .
وأكد ياسين أن ماضر بالمشروع الوطني هو ادارته بأدوات تقليدية مهترئة أو بأدوات حديثة مستهترة وقهرية .
لقد غابت عن ادارة هذا المشروع أهم شروطه المتمثلة في التعددية الفكرية والسياسية والتنوع الثقافي والمشاركة الشعبية والتحول بوسائل اقتصادية ، وتوظيف الأدوات الإدارية في إطار قانوني وحقوقي متناسق .
رابعاً: مع المدى واصل المخيال الشعبي تجسيد حالة الافتراق بين نبالة الفكرة وتوظيف الاستبداد لها وسيظل هذا المخيال مخزناً لنبالة الفكرة وسيشهد حالات الصخب والحماس عند النخب في حديثها عن الديمقراطية وسيدرك انه مجرد حماس يخفي قدراً هائلاً من الخيبة حتى أن المتحمس نفسه لايعرف إلى أين يتجه بحماسه إلى الديمقراطية كهدف ام إلى الخيبة كعنوان للمأزق .
وبين المحاضر أن والواقع العربي مجدب من التجارب التي يمكن أن يستعان بها لصياغة موقف كفاحي مناسب، فتجاربه هي تاريخ الحكم المستبد والفكرة المستبدة معاً بل إن الفكر العربي منقسم انقساماً خطيراً حول هذه المسألة وأن اكثر القوى حيوية لم تكن تعترف بالديمقراطية التعددية كمنهج للحكم إلا عند ماتجد نفسها مهمشة ومطاردة، لقد كان فكرها إزاء هذه القضية مضطرباً ومشوشاً ولم يتم تصحيح موقفها الفكري ألا حينما وصلت جميعها إلى مأزق حقيقي بسبب اقصائها من المعادلة السياسية من قبل غيرها من الانظمة المستبدة، ولم تعثر في تراثها الفكري على شيء يعول عليه يدعم غيرتها على الديمقراطية، كان عليها باختصار أن تتعثر بالاستبداد القادم من الاتجاه الآخر لحركتها لتكتشف جوهرها ، وأن تبدأ من الصفر وأن تجتهد في بناء موقف فكري حقيقي من الديمقراطية والحريات والتعددية السياسية والفكرية وأن تجدد نفسها على قاعدة الاعتراف بأن الحقيقة متنوعة ولا ينفرد بها احد دون سواه وان الفكرة التي تحتمي وراء القوة ولا تملك الحجة الكافية لحماية نفسها من داخلها تنهار امام نقيضها عند خط المواجهة الأولى .
وتابع بالقول في هذه الأثناء وفي خط متناسق مع اخفاقات الثورات العربية عنصر مال النفط العربي يأخذ مكانه كلاعب رئيسي في ميدان السياسة ويملأ الفجوات الضخمة التي خلقتها الثورات وراءها وهي تنتقل من مرحلة إلى أخرى من مراحل الصراع وصار اللاعب رقم 1 في مواجهة الايديولوجيات ثم المشاريع الوطنية واختطف منها يريقها واستحوذ على المبادرة حتى اصبحت له كلمته في تقرير طبيعة الأنظمة السياسية العربية من خلال التعبير عن رضاه أو عدم رضاه عن نخب الحكم وأسلوب تعاطيها مع القضايا السياسية والاجتماعية لبلدانها أو غيرها من القضايا المشتركة.
إن النجاج الذي حققه في معركة كسر الإرادات كان قد فتح أمامه الباب على مصراعيه لترتيب أوراقه في كل الساحات التي امتد إليها، وكان عليه ان يؤسس فكرة الخاص وأدواته الإعلامية المتنوعة والبراقة التي حملته بهدوء إلى عقل المواطن العربي في ظروف الاحباط التي نتجت عن الهزائم وانكسارات الثورات وجرى بصورة متسارعة تسييل المشروع النهضوي الوطني العربي في ارصدة مالية خاصة لزعامات الأنظمة الاستبدادية والقوى التي مولت تصفية نخب الفكر (الثوري) واضطهادها حتى حاصرها الجوع واليأس فلم يجد بعضها ما يبيعه سوى فكرة القديم، تخلص منها كما يتخلص الغريق من ملابسه ليتمكن من السباحة للوصول إلى الشاطئ.
واضاف ياسين (المال العربي) يقوم بتجسير العلاقة بين هذه الثورات والسوق الرأسمالية فإنه كان يقوم بوظيفة أخرى تعتمد فكرة النقيض الحضاري للغرب ليتقي بذلك رياح الديمقراطية باعتبارها منتجاً دخيلاً يتناقض مع الخصائص الثقافية والدينية لهذه البلدان.
لم يكن القيام بهذا الدور المزدوج مهمة سهلة كان على العرب في ظروفهم هذه ان يبحثوا بجدية عن اجابة مسئولة من موقعهم في هذا العالم الجديد . هل هم جزء من هذه الحضارة السائدة أم انهم نقيض لها .. أم انهم حضارة مستقلة أم انهم لا هذا ولا ذاك وانما هم مجرد شعوب تتلمس طريقها داخل عالم متحرك يتقاذفهم الموج نحو شواطئ مجهولة.
لكل زمان حضارته السائدة التي لا يستطيع احد ان يقف خارجها.. لكن ان تصبح جزءاً من هذه الحضارة السائدة لا يعني ان تفقد خصوصيتك فالحضارة المؤهلة للبقاء هي التي تقوم على التنوع في إطار اشمل من المشترك الذي يجعل الحضارة قيمة عالمية وهذا هو جوهر المسألة في هذا المأزق العربي الذي جعل فكرة النقيض تبدو وكأنها قد غدت مبرراً للقمع الذي يتعرض له مستقبل هذه الأمة.
إن السمتين الرئيستين لهذه الحضارة السائدة هما التطور العلمي والتكنولوجي من ناحية والديمقراطية من ناحية أخرى ولا يكمن المشكل في التطور العلمي لم نعد نتميز بشيء عندما يتعلق الأمر بنظام الحياة الذي تشكل على قاعدة الاختراعات التي تقدمها هذا الحضارة للبشرية، أما عندما يتعلق الأمر بالجانب الآخر من القواعد التي تشكل نظام الحياة هذا فنحن نسعى إلى أن نصبح جزءاً من السوق الرأسمالي العالمي ولكننا نريد ان نقف بهذا الانفتاح عند حدود الاقتصاد وهي عملية انتقائية يصعب على الطرف الضعيف في معادلة الشراكة أن يقرر مسارها وحدودها للاقتصاد وجهة السياسي الذي لا يمكن ان نغض الطرف عنه وتشكل هذه الانتقائية التي يمارسها النظام الرسمي والتي سعى المال العربي إلى صياغتها بصورة إرادوية غير واقعية.
خامساً: ان أهم ما يمكم أن يثار هنا هو أن هذه العملية الانتقائية قد حاولت الاعتماد على توظيف مضمون ايديولوجي للديمقراطية بجعلها صفة ملاصقة للتغريب وإخفاء الجوانب الأساسية التي تعالج الحكم والسلطة ودور ومكانة الشعب في هذه العملية والمصيرية.
واشار ياسين إلى أننا بتفكيك الديمقراطية كأداة لممارسة الحرية لن نجد فيها من الزوائد الايديولوجية ما يثير الخلافات الكبيرة، فهي ليست معنية بتقرير الطبيعة الاجتماعية للنظام السياسي لكنها هي أداة الوصول إلى ذلك عبر اختيارات الناس الواعي، ان الديمقراطية هي أداة ترشيد وتسوية التنافس بين البرامج والسياسات وعناوينها المؤسسة في ساحة العمل السياسي وتهيئة المجتمع سياسياً وثقافياً لقبول النتائج المترتبة على اختيارات الإرادة الجماعية عبر شبكة من الوسائل والأدوات المدنية التي تعمل بكفاءة ونزاهة، ولكي تكون كذلك فأنها لابد ان تكون أداة الموضوع لا الموضوع ذاته، وفي المرحلة الأولى من الممكن ان تكون هي الموضوع عندما يكون الصراع من أجلها هدفاً بذاته وفي هذه المرحلة المبكرة تنفرد الديمقراطية بموضوع الصراع مع الايديولوجيات الأخرى الرافضة للديمقراطية كأداة لتسوية معادلة الحكم بالاستناد إلى الإرادة الشعبية .
وقال : ولا ينبغي الاعتقاد أن مفهوم الديمقراطية على درجة كبيرة من النقاوة داخل المخيال الشعبي يسمح بفرز الغث والسمين، فعلى الرغم من ان المساحة التي احتفظ بها هذا المخيال لشورى العدل كذا والأهداف الكبرىة للثورات الإصلاحية وثورات التغيير طوال العهود الماضية كانت كافية لتفاعل فكرة التغيير وتصحيح الموروث السياسي والفكري الناشيء عن الأنظمة الاستبدادية إلا أن ما اعتمل في محيط هذه المساحة وفي حرمها من تجارب وخديعة وخيبة جعل المسألة تبدو أكثر تعقيداً من كونها مجرد عملية فرز لارتباطها بإعادة الفكرة من الصفر فالنظام الاستبدادي يتجه أول ما يتجه نحو إرادة الإنسان ليصفي حسابه معها حتى يسهل عليه بعد ذلك مصادرة الحريات ، وفي غياب الحريات صعب الحفاظ على مخيلة متماسكة لا يتسرب إلى نسيجها ذلك النقيض الذي يعمل بانتظام ودأب على تدمير مخزونها وتدمير ذاكرتها وتدمير مقاومتها وأخيراً تدمير قدرتها على فرز الخبيث والطيب.
وطرح المحاضر امكانية النظر إلى الديمقراطية كعملية موضوعية تراكمية من الزاوية التي يدعم فيها المخيال الشعبي بالعوامل التي تمكنه من مقاومة تدمير الاستبداد لحوافز تمسكه بتلك المساحة من الحرية التي شحنت بشورى العدل وبنضالات الأجيال المتعاقبة وتضحياتها من أجل الحرية في مواجهة الاستبداد والتجارب التي التهمت المشروع الوطني ومن ثم إعادة بناء الفكرة بناء عقلياً منهاجياً من خلال المؤسسات المدنية التي سيعول عليها في الانتقال بها من الحالة الوجدانية إلى الواقع العملي مع ما يرتبه ذلك من تغيرات جوهرية في الحامل الاجتماعي للفكرة ليتحول المخيال الشعبي تدريجياً من حاضن تاريخي إلى منتج سيساي للأدوات التي ستخرج بها إلى أرض الواقع.
وتساءل ياسين وقال: إذا كان المخيال الاجتماعي بما يترسب في أعماقه من إكبار لشورى العدل والنضالات وتضحيات الأجيال المتعاقبة من أجل العدالة الاجتماعية والحريات قد اسهم في جعل الديمقراطية قضية حية ومقبولة اجتماعياً وقاوم بأفق اشمل جمود الاستبداد فإن دور المؤسسات المدنية يكمن في الوقت الراهن في بلورة قاطرة تاريخية تقود عملية البناء العقلي للفكرة في الوسط الشعبي بحيث لا تظل رهينة المساومات لأنظمة لا ترى في الديمقراطية غير انتخابات شكلية في محيط من القمع ومصادرة الحريات والاستبعاد الاجتماعي.. ولابد من قيام المؤسسة المدنية القادرة على المبادرة التاريخية بتحويل هذه الحاجة الكامنة إلى قوة دفع لعجلة التغيير.. ويجب ان تكون هذه المؤسسة كفوءة ومرنة بما يكفي لامتصاص الصدمات الناشئة عن مقاومة التحول الديمقراطي لأن انظمة الاستبداد لم تعد تلك الأنظمة التي تقاوم مطالب التغيير بصورة فجة فهي تراوغ بوسائل وأساليب تجعلها قادرة على امتصاص هذه المطالب دون ان تكون ملزمة برفضها فتعلن مثلاً التزامها بالديمقراطية وتقاومها من داخلها فالمقاومة من داخل الفكرة هي انجح وسيلة للقضاء عليها.
سادساً: فإن الأسئلة الكثيرة التي توضع أمام العقل لن تنفك تبعث فيه الحوافز وتستثير فيه الإدراك بأهمية ان يتخلى عن الحيادية التي رافقته فيها قرون من الإهمال والتجهيل أو الانحياز السلبي لبلاط السلطة ولابد ان يكتشف بعد ان ينفض عن نفسه غبار الإهمال ويلملم اجزاءه المقموعة جسامه المهمة التي عليه أن يضطلع بها باعتباره القوة التي تتسلم ذلك الميراث الذي حمله المخيال الشعبي عهوداً طويلة وسط موجات من الاستبداد والظلم والجمود.
وبقدر ما كان هذا المخيال أميناً في التمسك بروح الفكرة وقدم من أجلها التضحيات فإن من المؤمل ان يكون العقل الجديد اميناً في تحمل ميئولية الفكرة وكفؤة في الدفاع عنها وإدراتها كي لا تنتزعها منه القوة كما حدث مع الشورى حينما انتزعته قوة السيف وقناطير الذهب من يد الأمة وكما حدث مع الثورات التحررية التي رفعت شعار حرية الشعوب لتنتهي داخل ادراج الأمن واقبية السجون وارصدة البنوك.. وحتى لا يتكرر ذلك مع الوجه الجديد للفكرة فلابد من الانتباه إلى حقيقة ان دورة الحياة وتضحيات هذا الجيل التي قصد بها تصحيح ذلك المسار التاريخي لم تعد تحتمل مناورات القوة على النحو القديم فقد برزت إلى السطح صور ونماذج أخرى للقوة بملابس ناعمة المظهر كي تواكب المسيرة ولم يعد يكفي ان يبقى المخيال الشعبي مجرد مخزن للأفكار والمثل المضطدة ينتقل من جيل إلى جيل بلا هدف أو غاية توالت معه انتكاسات وضياع الفرص ومحاولات بناء الأوطان بإرادات مقموعة.. اليوم نستطيع أن نقول إن العقل تسلم الميراث في ظروف جرى التمهيد لها بواسطة الثورات الشعبية الشبابية السلمية واليمن الذي تخطى فتنة الحرب الأهلية التي كان من الممكن ان تلتهم ثورته السلمية سيمضي على قاعدة التغيير باتجاه بناء دولته المدنية الديمقراطية عبر حوار شامل يشارك فيه الجميع دون استثناء وبمشاريع سياسية تعكس بتنوعها وتباعدها عمق المشكلة التي وصل إليها البلد ولا طريق أمام هذه المشاريع سوى ان تتحاور، لقد عانى اليمنيون كثيراً ويستحقون هذه الفرصة التاريخية ليبدأوا من جديد على طريق لا أقول معبدة ولكن أكثر وضوحاً.
بعد ذلك دارت نقاشات وطرحت استفسارات وتسأؤلات من قبل الحضور وقد اجاب عليها الدكتور ياسين وقال: نحن في برنامج اللقاءات مع مختلف المحاضرات الهدف الأساسي ان نشخص في كل لقاء جزءاً من المشكلة ليس المشكلة كلها وفي هذا اللقاء حرصنا ان نجيب على السؤال : هل ونحن نتحدث عن بناء الدولة الديمقراطية المدنية الحديثة لليمن نتحدث بواقعية أو أننا نتحدث بالمثالية ولذلك فهو تاريخ وحلقات متواصلة من الثقافات، التضحيات، النضال ورابطها بالنسبة لنا في اليمن هو الدين الإسلامي وعلينا في هذه الحالة ان نتحرك في إطار هذا الرابط لإنتاج ثقافة سياسية واعية كي ترشدنا للطبيب الذي من شأنه ان نستطيع بناء هذه الدولة.
وقال ياسين: هذا الوضع بالنسبة لنا علينا ان ندركه من داخل ثقافتنا ليس من خارجها وأكد الأمين العام للحزب الاشتراكي ان لا أحد يستطيع ان يجيب بشكل مطلق وكامل ستظل كثير من الاجبات محكومة بحاجة الناس.. الناس عندما يتجهوا في كل المراحل للتضحية هو البحث عن اجابة لحاجة الإنسان نفسه وبعد كل هذه التجارب وصلنا إلى اننا بحاجة إلى دولة عادلة دولة تستمد قوتها وقيمتها من إرادة الناس يكفي ان اتحدث عن نخب، النخب جربت سواء صيغتها الثورية وجربنا ولم نستطع ان نحقق حاجة الناس.
وبين الدكتور ياسين : إن علينا تصحيح المسار التاريخي لكل الفترة الماضية ومن لم يستطع ان يلتقط القيمة المعنوية والحقيقية للثورة الشبابية الشعبية السلمية لا يعني شيئاً وقال إذاً عند ما نتحدث اليوم بهذا الوضوح نستمع إلى بعضنا البعض لا نريد ان تسجل لا مواقف ولا أي شيء لا مواقف ضد التاريخ ولا نريد ان نسطح الواقع نريد نوعاً من التناسب في العلاقة مابين التاريخ وثقافتنا وحضارتنا والواقع.
وأكد ياسين أننا أمام محطة ويجب علينا ان نجيب على السؤال عندما وصلنا بالقناعة إلى ان نختار توجهنا نحو بناء الدولة الديمقراطية للمدنية الحديثة العادلة لكل الناس لا تتناقض لا موضوعياً ولا ثقافياً ولا حضارياً مع تاريخنا.
وقال : هذا النوع من النقاشات ليس ترفياً بل يستخلص تجارب تاريخية لم يمسها البحث وما نحن فيه وإلى ما نتطلع عليه.
وتابع بالقول : الآن نرى الثورة لم نقل انتهت بعملية سياسية ولكن صاحبتها عملية سياسية وكان الهدف الرئيسي من العملية السياسية هو انقاذ هذه الثورة من الحرب واقولها بكل اخلاص لابد الثورة ان لا تسلم نفسها لحرب اهلية وتنتهي بإطاحة الأطراف المختلفة.
وأشار ياسين ان الثورة رسمت في الساحات جرى ترسيم الثورة في الساحات واصبح العالم يتطلع إلى القوى التي بيدها السلاح وإذا كان هدف الثورة هو التغيير فلابد ان تقوم العملية السياسية أيضاً على التغيير ورسمت بالتغيير في 21 فبراير عندما خرج الناس في انتخاب الرئيس كما قلنا ولكن خرجوا ليقولوا نعم للثورة الشعبية الشبابية السلمية بإقبالها الضخم وأهدافها التقديرية.
والعالم ماذا قال لليمنيين : ليس امامكم أيها اليمنيون سوى ان تتحاوروا وتعلقوا السلاح وهل أنتم قادرون على ان تستحضروا تاريخ الحضارة اليمنية والابحار .. ودعا ياسين إلى ان الحوار يجب ان يحقق هذه الثقافة الجديدة التي لا مناص أمام اليمنيين إلا أن يتجهوا نحوها لا ثقافة القبلية ولا ثقافة القوة.
وأكّد ياسين ان ثورة الشباب أعادت الحيوية للمجتمع وحققت أشياء كثيرة.
محافظ تعز شوقي أحمد هائل ألقى كلمة أشار خلالها إلى أن الهيئة التحضيرية للحوار المحلي في تعز اثبتوا انه بالفعل غلبوا مصلحة الوطن وتحاوروا حواراً عقلانيا معبراً عن سعادته بحضور كافة الاطياف في تعز من أحزاب ونقابات بفضل من ياسين سعيد نعمان الذي يعمل على جمع كافة الفئات.
وأشار المحافظ شوقي أن تعز ستكون القدوة في عملية التغيير وفي الحوار المحلي داعياً من الجميع ان يستوعبوا متطلبات المرحلة .. متمنياً من جميع الأحزاب ان يجعلوا في قلوبهم حب الوطن وهو ما سيقودنا إلى احداث حركة التغيير وقيادة اليمن إلى المستقبل.
المحافظ من الحكومة الألمانية إلى مزيد من الدعم وتطوير السلطة المحلية في اليمن خاصة وان لهم تجربة في الاتحاد بين الالمانيتين.
السفير الألماني بصنعاء هو لجرجرين دعا من جانبه إلى ضرورة الإسراع في الحوار الوطني.. مشيراً إلى أن الوقت حان لحل كل القضايا .. منوهاً إلى ان مضمون الحوار الوطني شأن يخص اليمنيين أنفسهم.. مبيناً ان هدف الحوار خلق أجواء يتعايش فيها الجميع ويتمتعون بكل الحقوق والعدالة والحرية.. واستعرض السفير بعض الأسئلة حول ما يخص الدستور وقارنها ببعض المواد في الدستور الألماني.


  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 114 مشاهدة
نشرت فى 2 مارس 2013 بواسطة modahesh

رئيس التحرير/عادل مداحش

modahesh
1ـ يهتم في الشأن اليمني و ما يدور فيه من أحداث في مختلف المجالات . 2ـ يناقش قضايا الفكر الإسلامي و تجديد الخطاب الديني . 3ـ يدعو للحوار و التعايش مع الأديان السماوية . 4ـ يناقش قضايا اجتماعية وسياسية بشكل عام . 5ـ يدعو للتمسك بأصالة الماضي العريق للولوج »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

2,772