لماذا يَتَطرف المصريون في كُرْهِ البرادعي
بقلم
أ.د. محمد نبيل جامع
أستاذ علم اجتماع التنمية بجامعة الإسكندرية
01227435754
22 يناير 2011
أولا: قال لي شاب تحدثت معه عن البرادعي، "والله والله أنا مصدق اللي بتقوله، بس نفسي أحب البرادعي"، وقال هذه العبارة بعاطفة شديدة كأنه يعاني من مرض عضال لا يعرف سره. هذا شاب يتناحر في شخصيته شيئان خطيران، عقله وعاطفته.
وقال لي رجلان كبيران أحدهما كان ضابط شرطة وفصل من الخدمة في شبابه والآخر سايس في الجراج الذي أركن فيه سيارتي، ولكنه فلاح ناصح يعمل بعض الوقت في المدينة. الأول عندما حادثته عن البرادعي قال لي "معقول؟ والله ما اعرف كده، ولم يصدق إلا عندما أقسمت له." والثاني (الفلاح) قال لي "يعني هو أحسن من عمرو موسى؟ والله إن كان الأمر كذلك سأخبر الفلاحين في قريتي عن البرادعي كل خير".
وأخيرا، هناك شاب علق على مقال لي بعنوان "البرادعي في ثوبه الجديد"، قال هذا الشاب: "ناقص تقول إنه من العشرة المبشرين بالجنة."
لماذا يكره هؤلاء جميعا، وهم من الجماهير الشابة والكبيرة، الدكتور البرادعي؟ يعاني هؤلاء جميعا من مشكلة سيكولوجية يطلق عليها علماء النفس، ويراجعني في ذلك أستاذنا الدكتور عكاشة، مصطلح "التثبيت"، والتي يمكن أن نطلق عليها بالبلدي "التقفيل"، أي يصبح الإنسان "قفلا". يعنى هذا العَرَض أن الإنسان يتطور من مرحلة إلي مرحلة ينتهي في النهاية بكونه إنسانا راقيا ذا ضمير حي (الأنا العليا) يقوده بل ويدفعه نحو العمل الصالح وتنفيذ القيم العليا رغبة في إرضاء الله سبحانه وتعالى وخدمة لوطنه وشعبه وأهله، إلا أنه في المراحل المتدنية، قد يقف الإنسان عندها و "يثبت" أي لا ينتقل إلى المرحلة الأرقى من نمو الشخصية، ويصبح "قفلا"، لا يستجيب لعقله أو لنصائح الغير أو للمنطق أو للحكمة أيا كان مصدرها. هنا نسجل أن السر الأصلي في كره البرادعي هو الفهم الخاطئ والمنطق الفاسد والمعلومات المضللة.
كان الدكتور البرادعي غير معروف للعامة، بل ولكثير جدا من الخاصة المثقفة أيضا، وكان معروفا لدي القلة على أنه مواطن مصري عظيم حصل علي جائزة نوبل ثم قلادة النيل خجلا من مبارك وحكومته التي رفضت ترشيحه لفترة ثانية، بعد اعتراض أمريكا، في وظيفته العالمية. وفجأة دخل البرادعي في الساحة السياسية المصرية رافعا علم التغيير وإنهاء فكرة التوريث، والذي اعتبر بطبيعة الحال هجوما على الفرعون مبارك وكهنته. وهنا تعرض البرادعي لما يعلمه الناس أجمعون الآن من أبشع وأقذع التهم والسباب والتهكم وأهمها العمالة وعدم الدين وأنه غريب ولديه جنسية أجنبية، وكان مبدأ المفاجأة والمبادرة الهجومية من جانب النظام الفرعوني مطبقا لقاعدة "الأولوية" Primacy، أو بالتعبير البلدي "الانطباع الأول" الذي لا يزول بسهولة لدي الشعب والعوام من الناس، وعُبئت عواطف الجماهير وكُبست عقولهم البسيطة بتلك البذاءات. ومع استمرار الإعلام الرخيص الدنيء والهجوم المستمر ترسخت تلك البذاءات في عقلية المواطن المصري وأصبح "مثبتا" لا يستطيع أن يتخلص منها، تماما كالطفل ذي السبع سنوات الذي لا يزال يمص إصبعه الإبهام الذي كان يستمتع به في مرحلة الرضاعة المسماة "المرحلة الفمية" من بناء الشخصية.
ثانيا: هناك نفر آخر من المثقفين والإعلاميين والسياسيين بل ومن أتباع تيارات الإسلام السياسي أنفسهم يكرهون البرادعي لأن نظافته ونزاهته وأمانته وقيمه السامية وحبه الخالص للناس والوطن تذكر هؤلاء بأوجه النقص فيهم حيث أنهم لا يمتلكون تلك الخصائص، فهم مثل اليهود الذين كانوا يحسدون المؤمنين على إيمانهم حسب قول المولى سبحانه وتعالى "وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ ... الآية 109 البقرة". هؤلاء القوم يظنون أن البرادعي لو أصبح مثلهم سوف تستريح ضمائرهم لما يحيك في صدورهم من آثام أعمالهم.
ثالثا: ثم لا زال هناك فريق من المثقفين والسياسيين أيضا يمثلون ما يسمي بـ "أعداء النجاح". الغيرة تأكل قلوبهم مثل ضرائر النساء الجاهلات. هذا ينطبق أيضا على جميع الناجحين، وربما يوضح المثل على ذلك أيضا ما واجهه الدكتور زويل من زملائه في كليات العلوم هنا بمصر حيث انتشرت نبرة "مصر بها العشرات من أمثال زويل، وهو قد تخرج من جامعة مصرية"، والأمر نفسه ينطبق على نجيب محفوظ، مع أن الأول قال "في مصر علماء عظام"، والثاني قال "هذه الجائزة كان يستحقها توفيق الحكيم وأهديها أنا إلى يحيى حقي، حسبما أتذكر".
رابعا: وفي النهاية تأتي الطائفة الأعظم مقتا وتطرفا في كره البرادعي، وهي طائفة تتمتع بأعلى مواقع السلطة وأقوى مراكز النفوذ وهم الطفيليون الماصون لثروة مصر والممتلكون لمقدراتها والمتمتعون بنعمها المادية والمعنوية، وهي طائفة تبدأ من الفرعون المخلوع وأسرته وحاشيته ورجال الأعمال أصحاب الرأسمالية المتوحشة وكبار موظفي الدولة سواء في المؤسسة العسكرية أو الشرطية أو المؤسسات البيروقراطية الحكومية أو وسائل الإعلام المختلفة. وتمقت هذه الفئة البرادعي لما يمثله من تهديد لأوضاعهم السيادية وضياع لممتلكاتهم ومصالحهم ومصالح ذويهم وأتباعهم أمام قيم الثورة، العدالة والديمقراطية والحرية والكرامة. وبطبيعة الحال قامت هذه الفئة بتسليط أعتى أسلحتها وأموالها وأبواق إعلامها لإهدار الصورة الحقيقية للدكتور البرادعي وتشويه صورته. وقد دَربت هذه الفئة مجموعة من الببغاوات المأجورين يدورون في أرجاء الدولة يرددون تلك البذاءات تماما مثل "حميدة الهابلة" التي كانت تدور في قريتنا في الخمسينات تسب القاصي والداني.
الخلاصة: كيف يمكن تصحيح الصورة المشوهة للدكتور البرادعي الزعيم الحالي للثورة المصرية؟ الحاسدون، وأعداء النجاح، والطفيليون، أي الفئات الثلاث الأخيرة، مفقود الأمل فيهم لأنهم كبار شبه مثقفين، أقفال قلوبهم، منزوعو الضمير، ولن يستجيبوا لعملية التصحيح هذه. ولكن من حسن الحظ فإن الشباب، المنتفعين الأوائل بالثورة الحبيبة، يمثلون 60-70% من الشعب المصري، وفيهم يشرق الأمل بتصحيح مفاهيمهم عن الدكتور البرادعي. المنطق والمفاهيم الخاطئة يؤديان إلى استدامة الكره واستمراره. على شبابنا الطاهر وخاصة المنتمين منهم إلى التيارات الدينية، ونحن معهم، أن نتبع أمر الله سبحانه وتعالى باستبدال الكره بالمحبة، فلو كان الحبيب المصطفي فظا غليظ القلب لانفضوا من حوله. ويأمرنا صلى الله عليه وسلم بالتواد والتراحم والتعاطف لأننا جسد واحد. الحب يا أبنائي الشباب تجدون فيه حلاوة الإيمان، وهو السبيل لدخول الجنة بإفشاء السلام. الحب في الله سبيل إلى حب الله ثم إلى الجنة، والمتحابون بجلال الله هم في ظله سبحانه يوم لا ظل إلا ظله. ماذا فعل الدكتور البرادعي إلا أنه يحب مصر وشعبها وفقراءها، ويحب لها العزة والكرامة والقوة والحرية والعدالة. ينبع الكره، والعياذ بالله، من عقولنا ومفاهيمنا المغلوطة، فعلينا أن نصححها بإعادة النظر فيها قبل أن نَظلم أحبابنا ونُخدع بأعدائنا. انتظروا من البرادعي الكثير فهو كنز لمصر بمقدار من كان مبارك كنزا لإسرائيل.
ساحة النقاش