تنابلة السلطان وداعا

تشخيص وتحليل ومعالجة التنبلة وبناء مصر الحرة

البرادعي في ثوبه الجديد

رؤية شخصية

بقلم

أ.د. محمد نبيل جامع

أستاذ علم اجتماع التنمية بجامعة الإسكندرية

01227435754

20 يناير 2011

صدقت رؤية البرادعي وتحققت معظم مطالبه السبعة للتغيير بعد أن أعلن الحرب على أركان نظام الطاغية مبارك عام 2009 وذلك بعد إعلانها في فبراير 2010، كما أتذكر وهي: إنهاء حالة الطوارئ، الإشراف القضائي على الانتخابات، الرقابة على الانتخابات، توفير فرص متكافئة في وسائل الإعلام لجميع المرشحين، تمكين المصريين في الخارج من التصويت، كفالة حق الترشح في الانتخابات الرئاسية دون قيود تعسفية، قصر حق الترشح للرئاسة على فترتين، الانتخابات عن طريق الرقم القومي. وتوالت الأحداث وقامت الثورة وتحققت معظم هذه المطالب، ولكن تطورت الأمور بفعل الفرعون المخلوع وكهنته والداخلية والمجلس العسكري حارس نظامه والانتهازيين من دعاة الإسلام السياسي إلى ما نحن فيه اليوم قبل الذكرى السنوية الأولي للثورة بأيام من مهزلة فاقت نكسة 67 لتسرق أحلام الحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة الإنسانية لشباب وشعب بائس دفع من دماء الشهداء وعذاب المصابين والمعاقين وعلى يد حكامه ما فاق التصور في أرض الكنانة والسلام، مصر الحبيبة.

وفي سلسلة مبادراته ومفاجآته المتكررة فاجأ البرادعي جميع المشاهدين بتراجعه عن ترشيحه المحتمل للرئاسة مما أثار الرفض والحسرة من فئة من مؤيديه، من ناحية، والدعم والموافقة من فئة أكبر من مؤيديه من ناحية أخرى، وبينهما من ناحية ثالثة، فئة كبيرة إما غير مهتمة أو سعيدة بابتعاده عن ساحة السياسة كما يظنون (أراح واستراح).

وأود في هذا المقال أن أرسم الصورة الجديدة للبرادعي، تلك الصورة التي هي قديمة بالفعل ولكن لم يدركها حتى أقرب المقربين إليه بداية من "علماء السياسة" كحسن نافعة، وحتى رواد الإعلاميين كحمدي قنديل وأمثالهما.

البرادعي نموذج واقعي للزعيم. الزعيم لا يأمر جمعا من البشر ويسوقه كالخراف بحكم توليه مسئولية معينة فيطاع، وإنما يمثل الرأس والعقلية لجمهوره العريض ويساعد فقط في صناعة القرارات الصائبة لهذا الجمهور بالإضافة إلى أنه يستمع إلى الناس مستلهما فكرهم ومطالبهم لصناعة القرار الحكيم.

ويتميز الزعيم بأنه "رئيس" افتراضي، أي غير رسمي، وظيفته الأساسية الحث والإلهام. أما القائد، مثل المشير أو شفيق، فهو يقوم باتباع إجراءات تكتيكية من أجل إنجاز مهام معينة. ومن المفترض أن يكون الزعيم هو رئيس الدولة ويتبعه القادة على المستويات المختلفة. ويتميز الزعيم بقدرته على الإلهام وتوجيه الناس إلى المسار الصحيح ومن ثم يتبعه الناس دون حاجة إلى سلطة تدعمه حيث أنه يستمد تلك السلطة من خلال كسب عقولهم وعواطفهم.

وفي الوقت الذي يخلق فيه القائد من خلال الحركات السياسية، نجد أن الزعيم يخلق من خلال الحركات السيكولوجية. وما أعنيه هو أن القائد ينشأ عن أسباب ودوافع خارجة عن الناس وعن نفسه هو شخصيا بينما ينشأ الزعيم من خلال التفاعلات القائمة بين سيكولوجيته هو من ناحية وسيكولوجية جماهيره المؤمنين به من ناحية أخرى. وقد يكون هناك من الأشخاص من يمتلك سلطة القيادة ويمتلك في نفس الوقت خصائص الزعامة إلا أنه في مثل هذه الحالات قد يفشل هذا الشخص في مهام الزعامة نظرا لثقل أعباء القيادة ومسئولياتها. ولذلك فيستحسن أن يتفرغ الزعيم لمهام الزعامة وليس بالضرورة أن يكون قائدا حيث أن ذلك سوف يضعف من عظمته وكفاءته الزعامية. ويبدو أن البرادعي قد اتبع هذا المنهج واختار الزعامة ليتخصص في الإبداع فيها نظرا لما تحتاجه الأمة المصرية في الوقت الحالي من إبداع في فك معضلاتها التي أدت إليها الإدارة الفاشلة الانتقامية للمرحلة الانتقالية بعد الثورة. 

ويتميز البرادعي كزعيم بالخصائص التالية:

<!--الإخلاص والتقوى من خصائص البرادعي حيث يلهم الآخرين بسلوكه وقدوته وسعيه نحو تحقيق رؤيته، ومن أجمل ما قيل عنه قولة أيمن نور "البرادعي مرشح الضمير وليس مرشح المشير". وليس أدل على ذلك من تواضعه واغروراق عينه عندما يصور عذاب المواطن الفقير في الوقت الذي كان فيه أول من طالب مبارك بالتنحي، قائلا كلمة "ارحل" في وجه الطاغية المخلوع.

<!--يتميز البرادعي، ذلك الزعيم الحق، بخصال النزاهة والأمانة والاستقامة، تلك الخصال التي تجعل أعماله الخارجية تجسيدا لقيمه الداخلية. رجل داخله كخارجه، رجل يُوثَق به لأنه لا يتحول عن قيمه الداخلية حتى ولو أدى ذلك إلى مكاسب نفعية. التعامل الأمين، وردود الأفعال المتوقعة، والعواطف المنضبطة، وغياب نوبات الغضب والانفجارات الغليظة كلها من خصائص هذا الرجل.

<!--ولا ننسى الشهامة كخصلة من خصال البرادعي حيث يرجع الحق لأصحابه، ويتحمل مسئولية الفشل ويرجعه لنفسه مما يجعل الآخرين يشعرون بالثقة في أنفسهم والرغبة في المزيد من التوحد مع الجماعة والسعي نحو تحقيق الرؤية والهدف، فهو من النوع الذي يقوم بتعميم الفضل وإرجاعه للآخرين وتحمل اللوم والانتقاد.

<!--التواضع والوضوح واتباع نموذج الزعامة الخاضعة الواثقة، كما كان المهاتما غاندي، ولا ننسى أيضا تلك الدرجة الوقورة من روح الدعابة والمرح اللتين يتميز بهما البرادعي واللتين تنميان روح المودة بين الزعيم والجماهير وتحفز الناس على اعتناق رؤية الزعيم والتوجه نحو تحقيقها.

<!--الإبداع والابتكار والمبادأة بمعنى أنه يفكر في مستقبل وأحداث أبعد مما يحدث اليوم. الإبداع والابتكار يمكنانه من القدرة على التفكير بطرق مختلفة ويمكننانه أيضا من الخروج من الصندوق الذي يحوي مختلف الحلول الوقتية، كما يمكننانه كذلك من القدرة على رؤية الأشياء التي لا يتمكن الآخرون من رؤيتها، ومن ثم يمكنه توجيه الجماهير إلى توجهات جديدة. وهكذا فيمكننا أن نقول أن الزعيم هو نتاج ذاته وسلطته المستقلة التي تتمثل في إبداعه وطريقة حياته التي تنعكس على التأثير على جميع مناحي الحياة. هذا في الوقت الذي نجد فيه أن القائد ليس نتاجا لذاته وإنما هو نتاج للآخرين، وبذلك فهو ليس ذا سلطة مستقلة، وإنما يمتلك سلطة محددة لغرض محدد فقط.

<!--يتميز البرادعي بامتلاكه لرؤية واضحة لهدف محدد ووعي دقيق كما يدرك معنى النجاح وكيفية تحقيقه. ولا تكفي الرؤية لدي الزعيم بمفرده ولكنه لابد وأن ينشرها ويعمل على تحقيقها بكل إصرار وعزم وعاطفة وحماس تؤدي إلي عدوى الانتشار. هذا ويتميز الزعيم بخبرته الهائلة في توقع الأوضاع المستقبلية وتشكيل البيئة المستقبلية المشجعة على تحقيق تلك التوقعات. ويقوم الزعيم ببناء تلك التوقعات بنفسه ولكنه قد يستعين بآخرين لتحقيق تلك التوقعات نظرا لأهميتها الحتمية. وغالبا ما يقوم الزعماء بسرد قصة أو حلم مستقبلي لجماهيرهم لكي يثيروا لديهم الرغبة في التوجه نحو ذلك الحلم أو تلك التوقعات المستقبلية وذلك لتوضيح رؤيتهم ورسالتهم. ويُمَكن هذا السرد الجمهور من إمكانية فهم كل فرد للقصة فهما خاصا به يؤدي إلى إمكانية تباين السبل لتحقيق الغاية المشتركة تاركا الحرية لدي الأفراد لاختيار السبيل الأنسب بالنسبة لهم، هذا بالنسبة للزعيم، أما بالنسبة للقائد فهو يرى سبيلا واحدا يأمر أتباعه باتباعه وإلا فالضلال. وعلى ذلك، تكون مهمة القائد أن يجعل الناس يفعلون ما يريده هو، أما مهمة الزعيم فهي أن يجعل الناس يفعلون ما يريدون هم أن يفعلوه. ويتميز البرادعي بمعايشته وخبرته الطويلة في المجتمعات الراقية مما يمكنه من سرد هذه الرؤى والأحلام المستقبلية.

<!--يقوم الزعيم بعمل ما يجهله، أو ما يتجاهله، أو ما يغفل عنه الآخرون، ومن ثم فهو يترك الأمور الروتينية لأتباعه مع سد الفجوات التي تتخلل أدائهم، وفي اعتقادي إن هذا هو ما يتوجه إليه البرادعي الآن.

<!--يسعى الزعيم نحو تحقيق  الكمال حتى بالنسبة للأمور الصغيرة التي يتجاهلها الآخرون. وبتعبير آخر، فإن الزعيم بَنًاءٌ بمعنى الكلمة، أي أنه يركز على وضع قالب الطوب أثناء بناء القلاع بينما يقوم الآخرون ببناء القلاع دون الاهتمام بوضع القوالب، وهذا مما جعل البرادعي يصمم على سبيل المثال على مطالبه السبعة ثم على الدستور أولا قبل الانتخابات بنوعيها.

<!--يؤمن الزعيم في سلوكه وتعامله مع الجماهير بالتواصل والاتصال والعلاقات الإنسانية والتحفيز والإرشاد والنصح والرقابة والتنسيق والخبرة والمهارة والقدرة على الإدارة والتقييم واتخاذ القرار، وقد أثرت خبرات البرادعي وإدارته لأكثر من 2500 عامل بالهيئة الدولية للطاقة النووية وزيارته لأكثر من 150 دولة من هذه القدرات الزعامية الهائلة.

<!--العاطفة والحب والشغف خصائص مهمة في خطاب البرادعي كزعيم في حين أن الهوس والعصبية والاستحواذ هي من خصائص القائد في خطابه. العاطفة مبهجة ومفرحة ومنعشة في حين أن العصبية مرهقة ومستنفذة، العاطفة جذابة في حين العصبية منفرة. العاطفة تتجاوز أنفسنا بينما توهن العصبية أرواحنا وخبراتنا. العاطفة إنسانية في حين أن العصبية تعبر عن غلظة القلب. أنظر إلى حوار شفيق مع الأسواني وقنديل وساويرس الشهير ثم انظر إلى رد البرادعي في حواره مع مجدي الجلاد ردا علي أسئلة الجهلاء المتداخلين بأسئلة مثل "من أي سوق جمعة اشتريت نظارتك القديمة هذه؟"، "هل تعرف كيف تزغط الوز؟"، "تعرف إيه عن الإسلام يا برادعي؟"... وغير ذلك من بذاءات على شاشات التلفاز الفضائي، والرجل يرد بكل حب وتواضع كما لو كان يرد على سؤال جاد مثل "ما هو مفهومك عن النظرية النسبية؟"

هذا ويجب التأكيد على أن الخصائص الجسدية مثل الطول أو الوسامة أو حتى الذكاء ليست من المتطلبات الحتمية للزعامة، فلم يكن غاندي وسيما أو جهوري الصوت أو غير ذلك، وكذلك مانديلا أو حتى نابليون نفسه.

الخلاصة: بعد النجاح العالمي الباهر للدكتور البرادعي، ظل هذه السنين يتأجج قلبه عشقا لوطنه وأهله وشعبه وهو في سنين الغربة الطويلة، وبحكم عمله العالمي، وبحكم العالم بعد أن أصبح قرية صغيرة بفعل العولمة لم يكن البرادعي بعيدا قيد أنملة عن مصر موطن عشقه، فما أن أنهى مهمته العالمية رافعا بها مقام مصر والعرب والمسلمين قاده ضميره الحي إلى محاولة إنقاذ مصر من عصر الظلام والانهيار والتردي الذي استمتع به الطاغية مبارك وأسرته وكهنته ومنافقوه ومنتفعوه على جثث وأشلاء ومعاناة الشعب المصري الصابر فكانت الثورة المستنيرة بتدخلاته التي أطلقت شباب مصر الطاهر ليقود هذه الثورة وإلى إقصاء الطغاة الأكابر ولكن دون أن يكتمل إقصاء أذيالهم الذين يتعاونون مع الانتهازيين من أصحاب التيار "الإسلامي" وتصبح مصر في مأزق رأى من خلاله البرادعي أنه لابد من وقفة ووضع إستراتيجية جديدة لاستكمال الثورة وتحقيق مطالبها، وهي مهمة لا يستطيع أن يقوم بها إلا أمثال البرادعي في ثوبه الجديد، ثوب الزعيم.

المصدر: أ.د. محمد نبيل جامع

ساحة النقاش

أ.د. محمد نبيل جامع

mngamie
وداعا للتنبلة ومرحبا بمصر الحرة: يهدف هذا الموقع إلى المساهمة في التوعية الإنسانية والتنمية البشرية، وإن كان يهتم في هذه المرحلة بالذات بالتنمية السياسية والثقافية والإعلامية نظرا لما تمر به مصر الآن من تحول عظيم بعد الثورة الينايريةا المستنيرة، وبعد زوال أكبر عقبة أمام تقدم مصر الحبيبة، ألا وهو الاستبداد »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

100,560