تنابلة السلطان وداعا

تشخيص وتحليل ومعالجة التنبلة وبناء مصر الحرة

ثقافة الثورة والإدارة العسكرية

"برجاء نشر هذا المقال"

بقلم

أ.د. محمد نبيل جامع

أستاذ علم اجتماع التنمية بجامعة الإسكندرية

0127435754

[email protected]

بعد موقف الجيش الرائع من أحداث الثورة في يناير وفبراير الماضيين، وبعد أن أوكل إليه الرئيس السابق، حاسبه الله، إدارة البلاد، كنت أتوقع من المجلس العسكري أن يقدر الفرق بين ثقافة الثورة التي وعد باحتضانها وتحقيق مطالبها، وثقافة الإدارة العسكرية التي ينتمي إليها. وإذا كان الأمران مختلفين، فسوف يكون حكم البلاد، أو إدارتها كما يحلو التعبير للمجلس العسكري، حسب الثقافة الإدارية العسكرية نوعا مما أطلق عليه جون ديوي "العجز المكتسب" Trained incapacity، والذي يعني ببساطة "مناسبة الشيء لمناسبة غير مناسبة،" أي أن تدرب لتكون مناسبا في موقف غير مناسب. وببساطة أكثر عدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب. ولذلك فإني أتساءل هل فعل الرئيس السابق، حاسبه الله، ذلك وظلم المجلس العسكري بتوكيله إدارة البلاد؟ وإذا صح هذا الافتراض ألم يكن من الأوقع أن يقوم المجلس العسكري بتشكيل مجلس رئاسي يشارك هو فيه لحكم البلاد كما اقترح البراد عي من قبل؟

قد أتهم بإثارة تساؤل غير مناسب في وقت غير مناسب. ولكن ألا يثير ما نرى من فشل مؤكد في إدارة البلاد، رفع مثل هذا التساؤل؟ مع اعتذاري عن هذا الرأي الصريح، فإننا نرى فشلا في إنجازات المائة يوم بعد الثورة التي سردها رئيس الوزراء د. عصام شرف، وهو ربما يعتقد حقا أنها إنجازات محمودة حتى في إدارة ما يمكن أن نسمح بتسميته فترة انتقالية، وهي تسمية لا تعطي عذرا للفشل الذي أراه. فشل يتمثل في تراخ غير مسبوق لفعل ما يجب فعله، أدني ما في ذلك ما نسمع فيه كل يوم من اهتمامات غير جوهرية (كقضية الحوارات) وتأجيلات لقضايا حيوية مثل تأجيل محاكمة العدلي وستة من كبار معاونيه بقتل المتظاهرين إلى الخامس والعشرين من يوليو القادم، وتأجيل محاكمة مدير أمن البحيرة والضباط معه إلى التاسع والعشرين من سبتمبر...إلخ، حتى أن نسمات الحرية التي عانقت وجوهنا بعد الثورة تكاد تخبو لدرجة مخيفة أحيانا، ثم لا ننسى أن الطبقة الحاكمة في عصر مبارك هي التي لا زالت تسيطر على أجهزة الدولة بمكاسبها وفلسفة حكم مبارك، حاسبه الله.

وقد يقول البعض أيضا ألم تعلم أن إدارة الجنرال أيزنهاور لأمريكا وإدارة المارشال تيتو ليوغوسلافيا وإدارة الجنرال ديجول لفرنسا كانت إدارة ممتازة؟ أقول نعم؟ ولكن هؤلاء أشخاص عسكريون يحكمون في ثقافة مدنية ودول قوية المؤسسية. ونحن من الآن لا نعترض أبدا على حاكم عسكري في المستقبل بعد أن تبنى مصر الديمقراطية المؤسسية الحديثة، مثلما لا نعترض أبدا على أحد من الإسلاميين السياسيين ولكن أيضا بعد أن تبنى مصر الديمقراطية المؤسسية الحديثة.

ولكي نعرف الفرق بين الثقافة الإدارية العسكرية وثقافة الثورة، يجب أن نعرف تحليل الثورة من جانب علماء الاجتماع، والمتخصصين منهم في السلوك الجمعي، بل والمتخصصين من بين هؤلاء في الحركات الاجتماعية والتي منها الثورات. يقول هؤلاء العلماء أن الثورات تمر في مراحل خمس متتابعة متراكمة تماثل تماما دورة حياة المخلوقات:

<!--مرحلة وجود ظروف مؤدية للتوتر الشعبي مثل القهر والظلم وعدم العدالة والمعاناة، وقد حدث في مصر وخاصة في عهد مبارك، حاسبه الله.

<!--ظهور التوتر، حيث يمكن أن تتواجد الظروف ولكن الشعب "جبلة" لا يشعر بهذا التوتر. وفي مصر توتر الحجر قبل البشر، وتوترت التربة قبل الهواء... فالتوتر قائم.

<!--ظهور أو خلق أيديولوجية عامة بديلة لأيديولوجية الحكم الأبوي وقدسية الأسرة الحاكمة والرأسمالية المتوحشة، وزنا السلطة والثروة، وتشجيع قيم النفاق والوصولية والفهلوة والأنانية وتهميش الشعب والتعالي عليه. وقد ظهرت هذه الأيديولوجية العامة والتي رددتها جماهير الشعب في ميدان التحرير "حرية تنمية عدالة اجتماعية".

<!--ظهور العامل المشعل "القشة التي تقصم ظهر البعير" ، وقد كانت خالد سعيد في مصر وأبو عزيزة في تونس. واشتعلت الثورة في الخامس والعشرين من يناير والثمانية عشر يوما المستنيرة من عمر مصر الحبيبة.

<!--المرحلة الأخيرة هي مرحلة اعتلاء السلطة الشرعية والضبط الاجتماعي. والمشكلة قد حدثت في هذه المرحلة الأخيرة، حيث اعتلى السلطة الشرعية جهة لم تولد من رحم الثورة. وقد حدث أنها المجلس العسكري. وهنا ينقطع الحبل السري الذي يغذي الثورة بغذائها قبل أن يكتمل جنينها.

المقصود بذلك أن المجلس العسكري اعتلى السلطة الشرعية الثورية وهو ليس القائم بالثورة، فهو لم يعاني كثيرا من أوجاع المراحل الأربعة الأولى من دورة حياة الثورة، بالإضافة إلى وجود الفروق الجوهرية التالية بين ثقافة إدارة الثورة وثقافة الإدارة العسكرية:

<!--التغيير الديناميكي والتعلم بالتجربة في ثقافة الثورة، مقابل الاستقرار والانضباط والانصياع في ثقافة الإدارة العسكرية.

<!--الإيمان بالشرعية الثورية كأساس لنظام الثواب والعقاب، مقابل الإيمان بالقوانين العسكرية كأساس للانضباط والعقاب.

<!--الإيمان بثقافة الانقلاب العسكري كوسيلة للثورة مقابل التحول الأيديولوجي (السياسي والاقتصادي والاجتماعي) كوسيلة للثورة. وهذا أمر يطول شرحه والفرق بينهما يتمركز حول وضوح الأهداف فقط (مثاليات) في الانقلاب العسكري مقابل وضوح الأهداف والوسائل في الثورة الحقيقية.

<!--ثقافة الإدارة العسكرية جزء من ثقافة الإدارة الوطنية، ولذلك لا نجد الأداء السياسي والاقتصادي والاجتماعي يحتل مراتب أو أولويات عليا في أجندة ثقافة الإدارة العسكرية، على عكس ثقافة الإدارة الثورية التي تولى آلام الشعب الأولوية الأولى.

<!--يعتمد الاتصال في ثقافة الإدارة العسكرية على "اسمع البيان، نفذ، ثم تظلم"، بينما يعتمد الاتصال في ثقافة إدارة الثورة على "شارك، نفذ، ثم راقب وحاسب." وكل نظام صالح في حالته ولكنه لا يصلح في الحالة الأخرى.

ما الحل إذن؟ أن نعترف بالأخطاء ونحاول تصحيحها، وننقي أهداف الثورة ومطالب الثوار من هذا الضجيج السياسي والقضائي والإعلامي ونسعى لتحقيقهما، ثم نسرع فعلا من الفترة الانتقالية وعودة القوات المسلحة لدورها الأساسي وبناء جيشها بما يتلاءم مع مصر الحديثة، وتحقيق الدولة المدنية بكامل مؤسساتها القضائية والتنفيذية والتشريعية والعسكرية والإعلامية.

المصدر: أ.د. محمد نبيل جامع

ساحة النقاش

أ.د. محمد نبيل جامع

mngamie
وداعا للتنبلة ومرحبا بمصر الحرة: يهدف هذا الموقع إلى المساهمة في التوعية الإنسانية والتنمية البشرية، وإن كان يهتم في هذه المرحلة بالذات بالتنمية السياسية والثقافية والإعلامية نظرا لما تمر به مصر الآن من تحول عظيم بعد الثورة الينايريةا المستنيرة، وبعد زوال أكبر عقبة أمام تقدم مصر الحبيبة، ألا وهو الاستبداد »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

96,914