جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
- ليلة
شواء الكبار -
_________
الشمس الدافئة لازالت مُتشبثةً بحقيبةٍ زرقاءَ العيون، العصافيرُ تُنشِدُ لحناً مختلفاً آنذاك، أما الغيمةُ السوداء التي اعتلتْ الصدارةَ ذات يومٍ فقد توارتْ للتوّ .
رجلٌ قصيرُ القامة، خفيفُ الوزن كفراشةٍ أطلّت برأسها بزمنِ ولوج الربيع، شعرهُ الأسودُ المائل إلى كستناءٍ شرقيّة ينساب على راحتي كتفيهِ قبلَ أن يرفعهُ قليلاً إلى الخلف، ارتدى قميصه المُطرز بالأبيض والسماوي الجامح، هبطَ فجأةً عن صهوةِ جواده المُجمّر، التصفيقُ كانَ حاداً ، بينما كان الولدُ يرنو بعينيه الثاقبتين كرصاصةٍ أسطورية إلى شباكٍ مازالت عذراء .
في غرفةٍ مجاورة رجلٌ آخر , أشقر المُحيّا بعينين زرقاوين وقامة فارهة يشرحُ درساً من نوعِ آخر، رموشهُ المغبرّة كجنديٍّ عائدٍ لتوّهِ من معركةٍ تتارية، تنسدلُ على جِفنيه كستارةٍ صينية
- ما بالكَ يا عزيزي ... أرى الخوف يداعبك ...
- لا ... لا ياسيدي ... لم يبلغ الخوف أروقة جسدي بعد ، ستجدني هناك على أحسن حال ، لن ينلْ مني المرض مُبتغاه ...
- إياك من الولد القصير القامة ...
- لا أخشى أحداً ياسيدي، دعني فقط ألتقطُ أنفاسي ...
نظر أحدهم بطرفِ عينه إلى الرجل ذي الرموش المغبرّة، اِبتسمَ بخبثٍ دونَ أنْ ينبسَ بحرفٍ واحد .
لم يُسعِف الوقتُ المتبقي تلك الشمس الدافئة، فانزلقتْ خلف رابيةٍ خضراء، أعلنتْ نهاية نهار طويل ...
( أنتم اليوم على موعدٍ مع كتابةِ التاريخ يا أولاد ، لا أريدكم أن تسقطوا كما حدثَ للبقيّة، المعركةُ لاتزال مُستمرة ) قفزتْ العيون من مكانها، تشبثتْ بالثغرِ المُتسمّر أمام لوحٍ خشبي أصابهُ الهرم، أعراضُ الشيخوخةِ تظهرُ على جباهٍ مختلفة الألوان ، الأسمر، الحنطي، والأشقر ... كانت ترقبُ ما سوفَ يدوّنه الرجلُ الآتي من أعالي البحار ...
- منذ عقود لم نحتسِ مرارة الهزيمة، كنّا دوماً نعتلي صهوات الخيل ، أتذكرون ...
كتبَ عبارةً يتيمة على اللوح الخشبي ( الألوان الإغريقية لا تُهزم ) ... ثُمَّ غادرَ بصمتْ ...
الرجلُ ذو اللون الحنطي كان حاضراً أيضاً، تحسسَ شنَبهُ الذي يُشبهُ شنبَ قطٍّ بريّ، قسماتُ وجههِ لمِ تشِ بانفراجةٍ ما ، لكنهُ حاول أن يطوي غِلّهُ , وخوفه , في حقيبةٍ سوداء ( يبدو بأننا سنُغادر ) كانَ يُحدّثُ نفسه، لكنَّ كلماته تتعرّضُ للخيانة، اقتنصها شابٌ جميلُ الوجهِ كانَ جالساً بالقُرْبِ منه ...
- يا إلهي يبدو بأنّهُ رفعَ الرايةَ البيضاء ... قالها بصمتٍ دونَ أن يلتفت إليه أحد .
المعارك تشتعلُ فجأة على كلّ الجبهات، الوقتُ يقسو هنا، ينتحرُ هناك، الأسلحةُ تتراقصُ كغانيةٍ سمراء، الألوانُ تتساقطُ في أمكنةٍ مختلفة، رُبّما تحاول أن تُقلّدَ أوراقَ أيلول الأصفر، أرضُ الميدان تمتلئُ بالدموعِ , وبالدماء ... وحدهُ كان السماويُّ في إجازةٍ إجبارية .
ترنحتْ الأقدامُ كثيراً، برقٌ خاطفٌ يهزُّ عرشَ الجميع ، الشِباك التي كانت عذراء منذُ لحظاتٍ فقط بدأت ترقصُ على أنغام زقزقةِ عصافيرٍ غربية، يقفزُ معها الرجل الأشقر ، ينتعِلُ بقاياهُ ويلِجُ النفقَ الأسود ، لم يكنْ حال الأسمر أكثر ارتياحاً، ارتابَ إطارُ اللوحة الخشبي، الزجاجُ يتهشّم فوقَ سحابٍ آتٍ منْ زمنِ الاستحالة الأبدي، وكأنَّ اليأسَ يثنيهِ عن الطيران , الغيمةُ السوداء تُعلنُ قدومها على عجل، تحركَ الشابُ صوبَ هزيمةٍ آتيةٍ مع حبات المطر المتساقط على فترات، الجبهاتُ تشهدُ مناوشات مُقتضبة، رقْصَةُ ( الغجرية ) تلثمُ ثغرَ السماء .
حسناءٌ على مقربة منهُ , ثغور فناجين القهوة ترتشفُ الرُعبَ، تحلمُ بأنْ تُغادرَ تلك الغيمةُ دونَ عِناد ، الرقصاتُ تتوالى ، الأرضُ تهتزّ لذاكرةٍ أصابها داءُ البرص، في تلك اللحظة كانت حفنةُ رجالٍ من عصرٍ آخرَ تحتسي كأسَ نبيذٍ على جُثّةِ هزيمةِ ألوان قوس قزح ، انزوتْ خجلى خلفَ خريف العمر ، دموعٌ توزّعتْ على أطيافِ رجالٍ كانوا يوماً ( طوال القامة ) تركوا العنان لدموعهم لتروي الثرى المتعطش لهزيمتهم .
قال الرجلُ الأشقر وهو يغادر مسرح المعركة بعد أن سلّم أسلحته :
- شباكنا تزوجتْ ثلاث مراتٍ دُفعةً واحدةْ، لقدْ انتهينا ... ضحكَ آخر كانَ يستمع لكلامه فقالَ في سرّهِ ( يالها من شباكٍ عاهرة ) ...
- لا تحزنْ ياصديقي , نحنُ أيضاً صمتنا أمامَ أزيز الرصاص .
أحدهم كان يصغي على حافةِ قبرٍ بلا ( شاهدة أو تاريخ ) ...
- يبدو بأننا مازلنا لا نعترفُ بالهزيمة ، إننا ضعفاء أكثر مما تتخيلون .
- إنها ليلةُ شِواءٍ ثَمِلةْ، الفودكا تسهرُ معنا ... تلك الحسناءُ الشقراء تحزِمُ حقائبها، لملمَ الجميعُ أشياءهم، وحدَهُ الديكُ يُفْلِتُ منْ حفلِ الشواء الكبير .
في الطريق إلى قاعةِ المطار كتبتُ على ورقةٍ صفراء بللتها الدموع ( إنّها ليلةُ شواء الكبار ) ... قرأتها طفلة صغيرة مازالت في عامها الثالث، ثم ابتمستْ ...
_______
وليد.ع.العايش
17/7/2018م