" خيانة " ؟؟!!
قصة قصيرة
بقلم / سليم عوض عيشان ( علاونة )
======================
*** إهداء متواضع :
إلى بطل النص .. الشاب ..
ومن قبله .. إلى بطلة النص ... الأم .
*** أحداث النص وشخوصه .. حقيقية على أرض الواقع .. وليس من فضل للكاتب .. اللهم سوى الصياغة الأدبية فحسب .
( الكاتب )
------------------------------------
" خيانة " ؟؟!!
.. " خيانة " ؟؟ ... " خيانة " ؟؟!! .. إنها " خيانة " ...
يطلق الشاب هذه العبارة المدوية .. وهو لا زال يذرع الحجرة الضيقة جيئة وذهابا بحركة لولبية آلية .. يدور حول نفسه وهو ساهم واجم ..صامتاً سوى من حركات عصبية وخلجات وجهه .
لا يلبث أن يبدد الصمت مرة أخرى بصوته الجهوري المتهدج صاخباً هادراً كالطوفان الجامح :
- .. " خيانة " ؟؟ ... " خيانة " ؟؟!! .. إنها " خيانة " ...
لا يلبث أن يردف تلك العبارة بحركة تطويح اليدين الشديد ناحية الشمال وناحية اليمين بحركة هستيرية متسارعة ... ثم ينفجر هادراً .. ويجلس القرفصاء إلى الأرض وهو يجهش بالبكاء الشديد ويغطي وجهه بكلتا راحتيه .. ولا يلبث أن ينهض من مكانه بحركة مفاجئة هستيرية .. ويندفع ناحية الجدار .. ثم يضرب رأسه فيه بقوة وعنف ...
الشباب والرجال من حوله كانوا في البداية يجلسون صامتين واجمين .. يراقبون المشهد عن كثب .. ولكنهم ما لبثوا أن اندفعوا ناحية الشاب لمحاولة إيقاف شلال الدماء المنهمرة من رأسه بعد أن شج إثر الضربات المتوالية على الجدار .
يصرخ الشاب بحرقة وبصوت هادر مدوٍ :
- .. " خيانة " ؟؟ ... " خيانة " ؟؟!! .. إنها " خيانة " ...
يحاول التخلص من بين أيدي الشباب والرجال .. مندفعاً ناحية جدران الحجرة لكي يكرر عملية ضرب رأسه بالجدار من جديد . وهو ما زال يكرر العبارة بصوت مدوٍ هادر .. ولكن الرفاق من حوله يحاصرونه من كل جانب ويحولون بينه وبين تحقيق ما يهدف إليه ... ويشلون حركته رغم مقاومته الشديدة ومحاولاته المستميتة بالتخلص والإفلات منهم .
ولا يلبث أن يتهاوى إلى الأرض شيئاً فشيئاً وقد خارت قواه .. ويأخذ صوته في الخفوت التدريجي والتلاشي .. وهو ما زال يكرر العبارة .. ولا يلبث أن يذهب في سبات ضبابي كثيف .. ليأخذ مشهد الأحداث والشخوص حيزهم وأدوارهم ويبرزون من خلال الغلالة الضبابية الكثيفة ....
.. ستة شهور أو ما يزيد .. لم يرَ أحداً من أهله أو ذويه .. كان قد تم خلالها حرمانه – ورفاقه – من تلك الزيارات بموجب فرمان جائر وأمر تعسفي ظالم صدر بحقهم مارسته عليهم عنجهية السجان وتسلط سيفه الرهيب .
المعاناة داخل السجن ومن خلف القضبان كانت رهيبة وقاسية .. لا يخفف منها بعض الشيء سوى تلك الزيارات الشهرية من الأهل والأقارب التي لا تشفي غليلهم .
ولكن ما زاد الطين بلة .. هو ذلك الأمر التعسفي الجائر من إدارة السجن الظالمة بحرمان جميع السجناء من الزيارة الشهرية المقررة .. ولمدة ستة شهور متتالية .
إلى أن كان ذلك اليوم .. حيث تم السماح من إدارة السجن لذويهم بالزيارة ، بعد ضغوطات شديدة عليهم من المؤسسات الإنسانية ودوائر حقوق الإنسان والصليب الأحمر وما شابه .
ما قبيل الظهيرة .. كانت أفواج زوار السجناء قد بدأت بالتوافد على السجن الكبير الرهيب وسط الصحراء الجهنمية اللافحة ..
توافد ذوي السجناء من كل حدب وصوب .. من شتى البقاع ومختلف الأصقاع كي يطمئنوا على أسراهم بعد طول حرمان من الزيارة .
الزيارة وكما هي العادة .. تكون قاصرة على فردين فحسب لكل سجين .. لا يمكن تجاوزها بأي حال من الأحوال ... ولمدة نصف ساعة على الأرجح .. تكون عرضة دوماً للتخفيض وليس للزيادة .. وذلك حسب أهواء ومزاجية السجان .. والمسؤولين ؟؟!!.
الشوق كان يقتل جميع السجناء بلا استثناء .. يحدوهم الأمل بلقاء أهليهم وذويهم بعد طول حرمان من تلك الزيارات واللقاءات الشهرية .
اللقاء كان يتم في العادة بين السجين وذويه وبينهما حاجزاً زجاجياً صلباً كاتماً للصوت .. فيجلس السجين في الداخل على مقعد خشبي متهالك .. بينما يجلس الزوار في الجانب المقابل من الحاجز الزجاجي السميك .. على مقاعد خشبية متآكلة .
وسيلة الاتصال الوحيدة بين الجميع هي تلك " السماعة " .. في كلا الاتجاهين .. والتي يتم التواصل من خلالها بينهم .
عندما وصلت " الأم " .. و " الزوجة " في الجانب المقابل .. كانت الفرحة تسيطر على كيانه .. وكاد قلبه أن يقفز من بين ضلوعه ..
.. الأم العجوز تندفع ناحية ابنها تريد أن تحتضنه .. تضمه إلى صدرها .. إلى قلبها تريد أن تقبله .. تفتح ذراعيها عن آخرها لاحتضانه وهي تبكي بحرقة .. ولكن الحاجز الزجاجي الرهيب يحول بينها وبين رغبتها .. فتجلس متهالكة على المقعد المتهالك قبالته .. وتجلس الزوجة إلى جانبها .
تستحوذ الأم على " السماعة " ... وتأخذ بالبكاء والحديث إلى ولدها في نفس الآن . بصوت متهدج تخنقه العبرات المنهمرة من عينيها كالمطر .. بينما راح الابن السجين يحاول تهدئتها وطمأنتها والاطمئنان عنها .. وعن الجميع .
تسأله الأم مليون مرة عن حاله .. عن صحته .. وعن شئونه .. فيحاول أن يطمئنها إلى أن كل شيء بخير ...
تواصل الأم الحديث .. تواصل البكاء .. وتواصل القبض بأيدٍ من حديد وبقوة على " السماعة " .. تريد الاستحواذ عليها وعدم تركها ولو لبرهة وكأنها تريد أن تشفي غليلها من ذلك الحرمان الطويل من عدم رؤية ولدها والحديث إليه .
الزوجة .. التي كانت تجلس إلى جانبها .. كانت تجلس ساهمة واجمة .. صامتة إلا من بكاء ودموع غزيرة .. وأنين يمزق نياط القلوب .. وبعض المحاولات الفاشلة للاستحواذ على " السماعة " لكي تتحدث لزوجها ولو ببضع كلمات .. وسماع صوته ولو لبضع لحظات .. ولثوانٍ قليلة فحسب .
الأم من ناحيتها... كانت تحول بين الزوجة والاستحواذ على " السماعة ".. ولو لبضع ثوانٍ ... فتنكمش الزوجة على نفسها من جديد .. وتلجأ للصمت والدموع .. بعد أن باءت كل محاولاتها بالفشل الذريع .
الوقت يمضي بسرعة .. الدقائق تنقضي كالبرق .. والأم ما زالت تتكلم وتتكلم .. تسأل وتسأل .. تبكي وتئن .. تكرر الأمر ذاته لمليون مرة أخرى من جديد .
تبوء كل محاولات الزوجة بالفشل الذريع من جديد.. .. وتذهب كل محاولاتها أدراج الرياح للاستحواذ على " السماعة " والتحدث لزوجها أو مجرد سماع صوته .. فتعود للتقوقع .. الصمت .. البكاء .. والانطواء .
الثواني تتسارع .. الدقائق تنقضي بسرعة غريبة .. صوت السجان عن بعد عبر مكبرات الصوت يعلن عن قرب انتهاء موعد الزيارة .
تنتفض الزوجة بعصبية بشكل غريب .. تحاول الانقضاض على " السماعة " واختطافها عنوة من يد الأم العجوز .. للاستيلاء عليها .. تزداد الأم العجوز تشبثاً بها .. تطبق عليها بقوة رهيبة وهي ما زالت تردد الحديث .. السؤال .. البكاء والدموع .
تلوح الزوجة بيديها للزوج من خلف الجدار الزجاجي السميك .. وكأنها تصدر إليه إشارة معينة .. تعني بالتأكيد أن يدّعي الزوج لأمه بأنه قد حدث خلل مفاجئ في " السماعة " .. لكي تسنح لها الفرصة لتتحدث لزوجها ولو لبضع ثوانٍ .. وبضع كلمات .
تصل الإشارة والرسالة للزوج .. الابن .. فيسارع إلى تنفيذ الفكرة فيدّعي لأمه بأنه لا يسمع صوتها بالمطلق من خلال السماعة لديه .. وأنه وكما يبدو قد حدث خلل ما من جانبها بالإرسال .
ترفع الأم عقيرتها بالصراخ وبصوت هادر وكأنها تحاول أن تسمعه صوتها حتى ولو بدون واسطة السماعة اللعينة تلك ... وهي تئن وتبكي .. يخبرها الابن بأنه لم يسمع من حديثها أي حرف .. ولم يصله من ناحيتها أي كلمة .
يطلب من أمه أن تعطي " السماعة " لزوجته لكي تحاول إصلاحها .. فإن لديها خبرة جيدة في صيانة وتصليح مثل تلك الأجهزة ..
تبتسم الزوجة ابتسامة المنتصر .. تتناول " السماعة " من يد الأم .. رغم تشبث الأم بها بشكل غريب ... تقوم الزوجة بحركات وهمية وكأنها توحي بأنها تحاول إصلاح الخلل .. بينما تأخذ بالحديث لزوجها ..
تغتنم الزوجة الثواني المتبقية من زمن الزيارة وهي تتحدث إليه مطبقة على " السماعة " بيدين من فولاذ .. خشية أن تقوم الأم باختطافها من بين يديها .. وهي ما زالت توحي للأم - من خلال تلك الحركات المسرحية المفتعلة التي تخدع الأم الطيبة - .. بأنها ما زالت تقوم بمحاولة إصلاحها ..
يتحدث الشاب لزوجته بعض الوقت يطمئنها ويطمئن عليها .. وتتحدث إليه الزوجة تطمئنه وتطمئن عليه .
الأم .. ما فتئت تنظر حولها .. تنتقل ببصرها ناحية الزوجة مرة .. وناحية الابن مرة أخرى .. دواليك .. وثمة تساؤل غريب يدور في ذهنها .. ودمعة حائرة تترقرق في عيونها .. وكأنها تتساءل في سرها :
" .. ما الأمر " ؟؟!! .
الثواني الأخيرة تمر بسرعة غريبة ... صوت السجان المتغطرس عبر مكبرات الصوت .. يعلن للجميع انتهاء الزيارة ... وإصدار الأوامر للجميع بالمغادرة فوراً وإخلاء المكان ..
مجموعة من السجانين تندفع ناحية المكان .. لكي تقوم بتنفيذ الأمر بالقوة .. فيقومون بطرد الجميع من المكان بقسوة وعنجهية ..
تندفع الأم ناحية الجدار الزجاجي السميك .. تحاول احتضان ابنها وهي تجهش بالبكاء والعويل والأنين .. يوقفها الجدار الزجاجي الرهيب .. وتوقفها ذراعيّ السجان .
يدفعها السجان إلى الخارج بفظاظة ووحشية .. وهي تحاول التخلص من بين ذراعيه القويتين .. والتملص منه .. يتمكن الحارس السجان بمساعدة الحراس الآخرين من حملها بالقوة .. وإلقائها خارج الصالة .. وهي ما زالت تقاوم .. تصرخ .. تبكي ... تنظر ناحية الابن .. وكأنها تستنجد به ... كي يساعدها ...
يضرب الابن الحاجز الزجاجي .. بقوة بقبضة يده .. ويلقي بالسماعة إلى الأرض بقوة فيحطمها .. وقد سيطر عليه الشعور بالذنب .. بأنه قد خدع أمه الطيبة وخانها ..
يصرخ صرخة مدوية .. تهز الأركان ... وتدوي في المكان :
- .. " خيانة " ؟؟ ... " خيانة " ؟؟!! .. إنها " خيانة " ...
- .. " خيانة " ؟؟ ... " خيانة " ؟؟!! .. إنها " خيانة " ...
لا يلبث أن يردف تلك العبارة بحركة تطويح اليدين الشديد ناحية الشمال وناحية اليمين بحركة هستيرية متسارعة ... ثم ينفجر هادراً .. ويجلس القرفصاء إلى الأرض وهو يجهش بالبكاء الشديد ويغطي وجهه بكلتا راحتيه .. ولا يلبث أن ينهض من مكانه بحركة مفاجئة هستيرية .. ويندفع ناحية الجدار .. ثم يضرب رأسه فيه بقوة وعنف ...
و .....