" ياهل المغنى دماغنا وجعنا دقيقة سكوت لله ...... "

" بيرم التونسي "

 

رحم الله عمنا بيرم التونسي يوم أطلق هذا النداء منذ القرن الماضي شاكياً المغنى و أحوال أهل المغنى في زمانه ...... ولو قُدّر له أن يعيش حتى يومنا هذا  ليشهد هذه " السَلَطة " العجيبة من المغنى و أهله لأدرك أن المغنى في أيامه كان بألف خير مقارنة مع النعيق المعيب في هذا العصر العجيب .... بل لعلّه كان سيخرج علينا بقصائد أشدُّ نقداً  لهذه الضفادع البشرية التي وجدت الفرصة لكي تنُقَّ فلا تتوقف وتقفزَ فلا تستريح ....

 

تحفل الساحة الغنائية في أيامنا العجيبة هذه بالعديد من الأصوات ... فمنها ما تطرب له الآذان وتشهد له الأذواق السليمة ... وأخرى مستفزّة تُطلق الآهَ من حناجرنا وجعاً وغضباً ...... فمغنية تموء كالقطط .... ومغنّ يثوغ كالخروف فلا نعرف إن كان يبكي أو يغني ..... و مخلوق آخر كلما صاح ( غنى !! )  يُشعرني أنه  مصاب بإمساكٍ مزمن ويستنجد بكل قوى الدنيا لإنقاذه و إخراج مكنوناته الفريدة ... ولا أجد غرابة أن يُجمع علماء الشريعة الإسلامية يوماً ما على اعتبار صوته من نواقض الوضوء !!

 

في خِضمّ هذه المعمعة أُصيب الناس بالحول الفني و " تزغللت " أبصارها ، فمنها من يرى أن ظاهرة الغناء الحديث لا ضير منها ، ومنها من ينتقدها ويشرّح عيوبها ، و آخرون لا يبالون. 

 

لمعرفة أصل الداء ... يمكن تلخيص ظاهرة الغناء الحديث في نقاط خمس:

 

1. بدأت هذه الموجة في أوائل الثمانينات من القرن الماضي وخرجت من عباءة أحد الملحنين المشهورين في وقتنا الحالي ربما دون قصدٍ منه .... أو دون أن يدرك أنه أخرج إلى عالمنا العربي ( المليء بالهموم ) همّاً جديداً أو وحشاً جديداً خرج عن نطاق سيطرته بعد أن أفلت عقاله ..... ثم راحت هذه الموجة في بداياتها  تقدم ما يسمى بأغاني الـ  " ديسكو آراب " ظناً منها أنها كانت تضيف لمسة جديدة للأغنية العربية، فراحت تخلط الحابل بالنابل ، و أصابت مستمعنا بهلوسة سمعية لم يكن قد اعتاد عليها من قبل، كما راحت تؤدي أغنياتها كما يفعل الغرب شكلاً ومضموناً ضاربة بعرض الحائط أصولَ الغناء ومنهجيته فكان أمرها مثيراً للاشمئزاز و الضحك معاً.

2. و مما ساعد على استمرار وتطور وتوسع انتشار هذه الفئة بشكل سرطاني مخيف وجودَ ممولين سفهاء عرب من أهل الجود والإحسان الذين أداروا ظهورهم لدماء الشهداء التي كانت تُسفك في فلسطين وجنوب لبنان ليصبوا أموالهم في خندق الأغنية الجديدة التي أطلقوا عليها لاحقاً لقب الأغنية الشبابية والتي كانت تؤدى ( بداية ) بأصوات جميلة ومعروفة تم احتكارها بعقود بآلاف الدولارات من أجل أن يغني هذا الفنان المطرب على مزاج هذا الممول السفيه الذي لا يفقه ألف باء الموسيقى من كوز الذرة و لا من علم الغناء شيئاً ...

3. ثم تطور الأمر لاحقاً إلى الاستعانة بأصوات لا علاقة لها بالغناء إلا في الحمّام ... فقد تحول الأمر إلى سوق نخاسة من يدفع فيها أكثر فله قصب السبق ..... وكانت مصر  في البداية حقل التجارب لموجةٍ من بعض الأصوات الشنيعة التي كانت ، ومازالت ، تملأ أسماعنا رغم أنوفنا ....

4. ثم توسع نشاط هؤلاء الممولين السفهاء المشتعلين غيرة على الفن الحديث ليشمل سوق نخاستهم سوريا ولبنان و الأردن و غيرها فقد غدت بلادنا عند هؤلاء السفهاء كرة تتقاذفها أرجلهم و أهواؤهم في كل اتجاه.

5.  ثم جاءت الفضائيات لتزيد الطين بِلّة  ..... فالسوق هنا أكبر و الخيارات أكثر وأدسم ... فالبضاعة رابحة بالتأكيد لأنها هذه المرة أنثوية محضة ... فالأغنية مهما ساءت كلماتها وساء مغنيها فإن أقوى أركانها من سواعدٍ وسيقانٍ وأفخاذٍ و أردافٍ وصدورٍ لمروجاتها كفيلة بإنجاحها و إيصالها لحصد جائزة نوبل كل ساعة !! وليسقط بعدها الغناء الأصيل و الفن الراقي إلى الحضيض فلا حياة في هذه الغابة إلا للأقوياء مالاً و ( لصاحبات الإمكانيات الخاصة ). 

نحمد الله تعالى أن نشيدنا الاسلامي كان ومازال متصدّياً ، بروّاده الأوائل ومن سار على نهجهم ،  لهذا المدِّ التسونامي الرديء والرخيص فقال وما زال يقول له: إننا أيضاً هنا نتصدى لكل رديء بجميل أصواتنا وقوة كلمتنا وجميل لحننا وصدقِ ونُبل أهدافنا لنسمو بالإنسانِ من حضيض السفهِ إلى قِممِ الرقيّ .....

 لقد خلق الله تعالى الإنسان مفطوراً على النقاء .... فالفطرة السليمة تستسيغ الصوت الجميل وتعشقه ... وأما ما خرج بالفطرة عن نقائها فهو منبوذ شاذّ يأباه العقل ... أليس الفرق شاسعاً بين تغريد الطيور ونقيق الضفادع ( البشرية ) ؟

 إن أناساً كالشاعر بيرم التونسي وغيره لم ينتقدوا أو يحتجّوا من فراغ ..... فهم كالمهندس المعماري الذي يصاب بالهلع و السكتة القلبية لرؤية مخططِ بناء صممه طبيبٌ بيطري ....

 

 

محمد جمال الدين السباعي

[email protected]

حلب  4 / 9 / 2006

10/2/2008

2/11/2010

 

المصدر: من أوراقي
mjamalsibaee

إذا الأقوالُ أتبعها فعالٌ *** يحقُّ لنا إلى الدين انتسابا

  • Currently 37/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
13 تصويتات / 309 مشاهدة
نشرت فى 28 مايو 2011 بواسطة mjamalsibaee

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

محمد جمال الدين السباعي

mjamalsibaee
»

عدد زيارات الموقع

60,309