إنه وجدى ...
و مازلت أقرأ له قصته التى لم تنته بعد، فمازالت تبحث عن نهاية منطقية فى حكاية ﻻمنطقية، تشبه فيلما سنمائيا أعد من أجل بطلة ما.
فمنذ أن أصبح ضريرا لم يفارق حجرته الخاصة، يجلس إلى مكتبه و يقلب بين كتبه يشعر بحنين إليها و اشتياق يعرف أنه سيطول، فكم من كتاب قرأه و تقمص دور بطله، إنه حقا يجيد لعب دور الضحية و لكنه فى هذه المرة جعل منى الضحية لذنب ﻻ أدركه.
هو سؤال أطرحه على نفسى: أيعانى هو اضطراب ما فى شخصيته جعله على هذا النحو؟!
إنه رجل غريب إذا رأيته لمحت فيه هذا، كأنه أعلن انفصاله عن دنيا الواقع و رحل فى دنى أخرى خلقها لنفسه، و جعل من بيته الكبير مكانا لعروض و مشاهد حياتية هو وحده فقط من يحركها.
و لكنى ألوم نفسى على تعلقى به لقد راق لى وجودى بجانبه و أدمنت مؤلفاته، و كيف ﻻ و هو رجل يحمل فى ملامحه من الجاذبية ما يجعله يحتل مكانة ما فى قلب أى امرأة تصادفه، فما بالى أنا أنى أحيا معه ليل نهار، بل إنى صرت أعد كيانى من أجله، فإن ابتسمت كانت ابتساماتى لفرحتى به و إن بكيت أبكى حالى معه، و ما بين ابتسامات و دموع تنمو قصتى معه.
هكذا باتت عاطفة ما تربطنى به وطدتها وسادتى الخالية إلا من صورته و التى لطالما حلمت بوجوده عليها.
شىء ما يعذبنى معه، و كم رغبت أن أسأله عنه و لكنى دائما ما أتردد أمامه، أخشى نظراته الحادة لى، تخترقنى لتقرأنى قبل أن أنطق بحرف.
,إن ما يعذبنى معه هو ثورته على كلما وضعت شيئا من عطرى، لماذا تستثيره رائحة عطرى إلى هذه الدرجة من الجنون و اﻻنفعال؟!,
ظننت أن هذا العطر سيجعله يحس أنوثتى التى ﻻ يمكن له أن يراها و إذا به ينهرنى و ينهرنى و يفتح ستائر النافذة ليطرد العطر من المكان، إنه يختنق به.
لو أن له ذكرى أليمة معه، ما ذنبى أنا حتى يأخذنى بموقف مخزى تعرض له فى ماض و لى؟! لقد انتقيت هذا العطر من أجله و حرصت أن أضعه كلما قابلته لأوهم نفسى بأنى على موعد مع الحبيب المنتظر، و فى نهاية كل لقاء كانت تلاحقنى خيبة الأمل فأعرض عنها، فمن يدرى ...!!!
و لكن إلى متى سأظل أتوه فى عينيك الصامتتين ترمقانى بجاذبية غريبة ما عهدتها فى حياتى؟!
إن حكايتى معه بدأت منذ أن قرأت له هذه الكلمات فى بطاقة كانت على مكتبه "ليس ذنبك يا حبيبتى أنك جميلة و أنك رقيقة و أنك أخذت ما تبقى لى من نور فما عادت عيناى ترغب فى رؤية غيرك فارحلى فى سلام و اطمئنى ستبقى صورتك آخر ما أرى و لن أرى بعد ذلك شيئا".
,بكيت بكاء شديدا لهذا الوفاء الذى بدا لى فى كلماته، و من وقتها و كلما رأيته أحدق فى عينيه ربما أرى صورة هذه الحبيبة التى أخلص لها حد العمى.
يالله ... ! لكم أتمنى أن أسلبه الماضى المؤلم الذى عاشه و عانى فيه فقدان الحبيب، أريد بشدة أن أكون له أملا ينسيه ذكراه المؤسفة، فربما لو استشعر مشاعرى نحوه و أدرك مدى تعلقى به لعاد إليه بصره و ما فارقه طول الحياة، يتأملنى و ﻻ يشبع من ملامحى حتى تتحد ملامحنا فى صورة واحدة و كأننا من دم واحد أو أقرباء فى عالم الأرواح.
كان وجدى جارا لى يعمل فى مسرح خيال الظل، و كنت دائما ما أتبع أخباره و أستطلع حاله.
هو رجل متعجرف ذو كبرياء عال، ﻻ يلتفت لى إلا لمحات خاطفة يسحقنى فيها بوسامته، إنها وسامة من طابع فريد ﻻ يليق بها إلا أن تكون فى حواديت الخيال.
الشىء الوحيد الذى كان يطمئنى معه و يعطينى أملا، أنه ما كان أبدا يلتفت إلى امرأة مهما بلغت من جمالها، رغم توددهن إليه خاصة زميلاته فى العمل.
و ربما هذا ما زاد تعلقى به، إحساسه بنفسه و إيمانى بهذا الإحساس، هما ما قرباه منى و جعلاه بمثابة وجدى و هيامى.
و عندما أغدق المساء كآبته علينا، سمعت من وراء جدارى الملاصق لجداره أنين رجل يكاد يجن من شدة بكائه، لم أصدق نفسى، إنه يبدو لى فى حالة انهيار تام، إنه يقبل أن تنزل دموعه و يأن كصبى جريح لم ينضج بعد، أكيد أنه أمر خارق للعادة هو ما جعله يبكى هكذا.
كان الأمر فوق احتمالى و ما كانت إلا لحظات حتى اندفعت إليه يمزقنى خوف دفين عليه، و طرقت على بابه طرقات مضطربة و إذا به يقف أمامى مبلل العينين بدموع ندية عالقة بين جفنيه، و لكنه ما كان ينظر لى، كان ينظر فى اتجاه آخر، ظننت أنه ﻻ يرغب فى رؤيتى و شعرت بجرح كرامتى يؤرقنى، فقلت له بصوت مخنوق:
- أعتذر عن إزعاجى.
- من ...؟!
غريبة ... إنه ﻻ يعرفنى ... كيف هذا؟!
- من أنت؟!
- ألا تعرفنى.
- ﻻ يمكننى أن أراك.
و ذهلت عن نفسى: معقول أنه فقد بصره، إنه أمسى ضريرا، لذلك كان يبكى و يأن ... آه يا حبيبى ليتنى أملك أن أعطيك عينى لترى بهما حسرتى عليك.
- لم أنت صامتة؟! ... تكلمى.
- لا أبدا.
- أنت مضطربة من أمر ما.
- ﻻ أدرى ما أقوله.
- هيا تكلمى.
- ربما أزعجتك بكلماتى.
- ﻻ عليك ... إنى مصغ إليك.
غريبة إنه يهتم لى، إنه تغير و ها هو يصغى لى، ماذا أقول له؟ رباااه ...!!!
- أصدقك القول.
- نعم.
- لقد سمعت أنينك.
- و ماذا ترغبين؟! أتيت هنا لتشفقى على.
- ليست شفقة و لكنى شعرت بالفزع.
- الفزع ... مم؟
- من أمر بكائك، و أنينك الغير معهود.
- و هل يحق لك أن تقتحمى حياة الآخرين هكذا.
- أعتذر إليك .. سأمضى فى طريقى حتى ﻻ أرهقك معى.
- انتظرى ...
- ﻻ أستطيع.
- انتظرى ... رجاء.
- ماذا تريد منى؟!
- أتسمحين بالدخول؟
- أخشى أن أقتحم حياتك.
- أرغب فى وجودك.
و دخلت إلى هذا الصرح الكبير الذى تمنيت أن أسكنه، وجدته بيتا مخيفا غير مريح يشبه بيتا كبيرا مهجورا خاليا من أى حياة، رغم أناقته و كل سكينته.
دعانى إلى مكتبه و جلست إليه، وجدت عليه بطاقات و أوراق مبعثرة على سطحه، كان وجدى وقتها يقف بجوار النافذة الموجودة بالغرفة، ينظر خارجها، ينظر إلى حديقة البيت، لماذا أشعر بأنه ينتظر شخصا ما، أو حدثا ما؟!,
قررت فى نفسى أن أقرأ أوراقه ﻷتعرف حاله طالما أنه ﻻ يرانى، و بخطوات هادئة تحركت إلى الكرسى الجلد الخاص به المواجه للمكتب و أمسكت ببعض أوراقه و قراءتها و رأيت فيها أشياء غامضة كأن يحكى عن فتاته التى لم أعرفها يوما، و ﻻ أدرى كيف خبأها عنى و أنا التى أتحرى أخباره بدقة.,
و فجأة وجدته يلتفت ناحيتى يبدو لى أنه رأنى و بخطى سريعة اتجه إلى غاضبا يحدثنى بانفعال شديد:
- كيف تجرؤين؟!
أصابنى الرعب و فزعت من أمره و قلت له و أنا فى اضطرابى:
- هل ترانى؟!
و إذا به يلتزم الصمت و يتجه عنى و يقول لى فى حدة:
- بالطبع ﻻ ... أتسخرين منى؟!
- ﻻ و الله، و لكن ...
- و لكن ماذا ... ؟!
- شعرت و كأنك ترانى.
- نعم .. أراك بإحساسى، أنسيت أنى أملك البصيرة.
- تملك البصيرة ...!
- إن الله عندما أخذ منى بصرى ترك لى بصيرتى .. إنه ميزان العدل الإلهى .. ألا تعرفينه؟!
- أعرفه.
و بدأ حاله يرق لى و زال عنى فزعى شيئا فشيئا و أعدت الأوراق إلى مكانها بهدوء، و قلت فى نفسى ربما حركة ما لم ألحظها هى ما لفتت انتباهه رغم شدة حرصى و لكن كل شىء جائز.
لقد اطلعت على أكثر أوراقه دون أن يحس، فلماذا انتبه عند الورقة الأخيرة؟! و التى كتب فيها: "إن حكايتى معك لم تنته بعد و لكنها مازلت مستمرة و سأشكلها كيفما أشاء طالما أنك طوع أمرى، و كيف ﻻ تكونين و أنا فارسك المنتظر".
لم أفهم عباراته رغم أنها استوقفتنى، شعرت و كأنه يوجه رسالة لإنسانة ما، و تسألت هامسة: ترى لمن يوجه رسالته؟!
ربما سمع وقع أنفاس همساتى لذلك انتبه.
تركنى أجلس مكانه دون أن يعترض، و جلس هو فى الكرسى المواجه لى و سألنى:
- هل قرأت أوراقى؟
- أعتذر ... لم أقصد.
و فى صوت حانى سألنى:
- هل أزعجتك؟
استغربت قليلا نبرته الحانية و بدأت أهدأ و قلت له:
- يسعدنى ذلك .. لم أعرف يوما بأنك كاتب ، تكتب القصص.
- هى أول قصة لى استوحيتها بعد إصابتى.
أردت أن أسأله عن سر إصابته المفاجئ و لكنى استحييت حتى ﻻ أجرحه، قلت أدع الأمر للأيام فقد أجد عندها تفسيرا مناسبا.
- و من كتب عنك هذه الأوراق المنطرحة هنا.
- أنا من كتبتها.
- أنت ...!!! كيف ...!!! يبدو لى الخط منسقا.
- أعرف ذلك ... ألم أقل لك؟!
- أى شىء ... ؟!
- أن الله أخذ منى البصر و لم يأخذ البصيرة.
- و هل بصيرتك ألهمتك لأن تكتب على هذا النحو من الدقة؟!
- هى كذلك ... أو تشكين بالأمر؟!
- ﻻ أبدا و إنما أثار دهشتى.
- ﻻ تنسى أن العجز هو ما خلق بداخلى كثيرا من التحدى.
- ربما.
- ما رأيك؟
- فيم؟
- أتكتبين عنى؟
- نعم.
و من وقتها بدأت أعشق جلساته المسائية و أعيش قصته المجهولة.
و بدأت رحلة شكى فيه منذ أن دخلت عليه فجأة و إذا هو ينظر إلى نظرة حادة ثم يحيل نظره، كان وقتها يقلب بين يديه بعض اسطوناته ليختار واحدة، و اتجهت إليه خائفة مضطربة، فجل ما أخشاه أن يغضب منى و لكن دائما ما يكون بيننا موقف يثير فى نفسى الريبة و أحتاج منه ﻷن أفهم، أكره نفسى عندما أكون ساذجة رغم أنى أحببت سذاجتى معه ﻷنها تقربنى منه و تجعله راضيا عنى قلت له فى صوت يشبه الهمس:
- أيمكنك أن تختار بين اسطوانتك؟!
- و ما المانع طالما أنها اﻻسطوانة نفسها ﻻ تتغير، عندى أكثر من نسخة.
- معقول .. إذن لم تختار بينها طالما أنها اﻻسطوانة نفسها.
- أبحث عن واحدة بالذات، أهدتها لى هى، عندما أحن إليها أعزى نفسى بسماع اسطوانتها التى أهدتها لى فى عيد الحب.,
أخذتنى كلماته من أى استفسارات أخرى كانت لدى و تحولت التساؤلات بداخلى و التى كان من المفترض أن توجه إليه إلى علامات استفهام و تعجب أطرحها على نفسى:
إنه يحن إليها ... يالله ... و مازال يسمع أغنيتها ... أى أنها مازلت تسكنه ... و متى تبرح قلبه لتترك لى شيئا من حنينه؟!,
إنى بجواره و مازال يعيش معها ... رباه!!! ما أقساه من إحساس! ما أصعبك أيها الحب عندما تكون من طرف واحد! و ما أقساك عندما يكون الطرف الآخر مرتبطا بغيرك! ... نعم إنها علاقة معقدة.
و بدأت أقرأ له ما نسخته من قصته كالآتى:
"أتذكرين يا حبيبتى بطاقتى الأولى لك و التى رسمت فيها تلك الرسمة التى يتداولها العشاق: قلب ينفذ من خلاله سهم، لتعلمى كيف نفد حبك إلى قلبى و كيف تركه جريحا بلون وجنتيك الناعمتين".
و سرحت فى خيالى أتمنى أن أراها تلك المحبوبة التى ملأت عليه فؤاده، لم أكن أعرف من قبل أن امرأة بعقله، ظننت أنه معرض عن النساء
عجرفة و ليس ذوبانا فى امرأة أخرى.
و أمسيت أجلس إليه أكثر من اللازم و كأن المساء بات لى ديوان قصائده التى أقرأ فيه أخباره، و علقت مشاعرى بقصته أحببت فيه وفاءه لها رغم أنها تركته و رحلت، و كم من مرة حاولت أن أسأله فيها عن سر هجرها له و قبل أن أنطق بكلمة كان ينهرنى و كأنه يعلم بسؤالى، إنه كان يعلم كل خطواتى نحوه، و ﻻ أدرى لم لم يطلعنى على هذا السر رغم أنه أطلعنى على بقية الحكاية، ربما فيه شىء يجرح كرامته أو رجولته فخبأه فى نفسه.
أردت أن أتقاسم معه سره ﻷخفف حمله الثقيل الذى يشق على صدره بدرجة مقننة و لكن دون جدوى، و انتبهت من سرحانى على ضحكاته تقهق بصوت عال، و كانت المرة الأولى لى منذ أن صاحبته عبر مأساته أراه فيها يضحك بهذا الشكل السخيف، إنى ما كنت أرى إلا ابتسامته المترددة فما له يضحك ضحكات غريبة تثير فى نفسى اﻻشمئزاز.
و عندما صارحته بأنى أرفض أن أراه يضحك بشكل هستيرى و كأنه مجنون غاب فى نوبة من نوبات جنونهىبدأت أصابعه كالعادة تدق على الكرسى الهزاز بسرعة علمت معها أنه سيغضب منى و ﻷتدارك الموقف سألته فى ابتسامة خاطفة:
- ما الذى أضحك هكذا؟!
فكان جوابه لى أنه قال و نبرة غير مريحة تعتلى صوته:
- طرأ على بالى أمر فضحكت منه.
قلت له فى هدوء:
- و هل يمكننى أن أعرف الأمر الذى جعلك تضحك على هذا النحو المخيف؟
و فى برود رد على قائلا:
- بالطبع يمكنك أن تعرفيه.
- حقيقة ...!!!
- ﻷنه أمر يخصك.
- يخصنى ...!!!
و بدأ يضحك ثانية بالطريقة نفسها التى أثارت أعصابى ﻷن أطلب منه فى حزم أن يتوقف عن الضحك و يخبرنى، و لكنه استمر فى ضحكه، فسألته فى غيظ شديد:
- لم تضحك همذا؟!
فقال لى:
- ما هو شعورك لو أنك فجأة اكتشفت أنى لست ضريرا، أو أنى حكايتى ﻻ أساس لها.
فرغت عن فيه و همست: غير معقول ...!!!
بقلمى .................................