أوراق من الحياة
من وحى أوراقى
حكاية حبيبة
لماذا ترفضين هذا الحب يا حبيبة؟
كتب مراد هذه الجملة فى ورقة وذهب إلى بيت عمه المجاور لبيته, ووضع الورقة فى صندوق حبيبة الموضوع على طاولتها المكتنزة المطعمة بلون الذهب الفاتح, فهو يعلم أنها فى كل مساء تقلب فى حاجتها الموجودة داخل الصندوق, فهى حاجات تعنى لها الحياة تربطها بذاك الماضى الجميل الذى كانت تحياه,فمازالت روحها عالقة فى ذكرياتها.
كانت حبيبة فتاة عاطفية جذابة تحس فى شخصيتها بأنها قادمة من الزمن الجميل, تحب رومانسية الأفلام القديمة وتشعر بأنها تنتمى إليها.
كان مراد يزور بيت عمه كل مساء ويجد حبيبة كما هى معتادة تجلس وحيدة تشاهد فيلما عربيا أبيض وأسود, وما كان مراد يملك إلا أن يسخر منها ويخبرها بأنها أفلام مملة لا مكان لها فى واقعنا.
كان يعز على حبيبة أن يكون هذا موقفه من الشىء الذى تحبه وهو أقرب الناس إليها فكم تمنت أن تعيش معه قصة هذه الأفلام.
ولكن شعورها به كان لا يسمح لها أبدا بأن تنزعج منه فكان لديها أمل بأن يتغير ويشاركها البطولة.
فهى تكن له المشاعر الجميلة التى تحاول دائما أن تصرح له بها فى نظرة إعجاب خجول أو ابتسامة عريضة على مداعبة سخيفة منه تبالغ فى تقديرها.
كان مراد يشعر بها ويفهم مرادها ورغم ذلك يتجاهل شعورها نحوه لأنه يرى فى طبيعتها ما ينافى طبيعته ولكن يبدو أنه أدمن لاشعوريا حبها له وتعلقه بها وأخذ يتدلل عليها إلى أن استهواه الأمر.
وفى ذات مساء حرص على أن يجلس إليها ويشاركها مشاهدة فيلمها المفضل"وداعا أيها الحب" فبكت حبيبة على نهاية البطلة المؤسفة وبالطبع ضحك مراد لبكائها وقال لها: أتصدقين هذا الهراء؟!
نظرت حبيبة إلى مراد نظرة لوم شديدة وجحدته بحدة غير معتادة على سخريته من عواطفها وعدم تقديره لمشاعر الوفاء الجميلة والتضحية التى قدمتها البطلة.
- وهل من الممكن أن يحدث هذا فى الواقع؟ أفيقى من أوهامك.
أخبرته بأنه شىء موجود وهو يتمثل فيها وأنها لو مكان البطلة فى الحقيقة لكان موقفها هو موقف البطلة.
مازال يشكك فى كلامها وينتقص من اندماجها مع الدور وقال لها أنها تحت تأثير انفعال الأحداث, أما إذا حدث لها شىء مشابه فى الواقع فلن تقابله على هذا النحو.
أثارت كلماته لها أحاسيسها لأن تواجه اتهامه لها برد عنيف.
أخبرته أنه لا يمكنه أن يفهم أو يقدر مثل هذا الحب لأنه إنسان أنانى لا يفكر إلا فى نفسه فقط ومزاجه.
شعر مراد بإهانة كرامته فاندفع ناحية الباب وفتحه بقوة وهم أن يخرج منه ولكنه عاد والتفت إليها ووعدها بأنها ستندم على ما صدر منها واتهامها له بالأنانية وقال لها:
سأوريك الأنانية على أصلها وأحرمك من وجودى فى حياتك.
وقبل أن يغلق الباب خلفه نادته بلهفة:
- مراد ... وهل تقدر على فراقى؟!
جاوبها فى حزم دون أن يلتفت إليها:
- نعم أقدر على فراقك.
قالت له فى جزع:
- ولكنى لا أقدر, لن أحتمل الموقف, ألا تعلم أنك النور الذى أبصر به؟! فكيف تحرمنى بصيرتى؟!
ودون أن يعيرها اهتمامه خرج وأغلق الباب بصوت أحدث فى نفسها فزعا غريبا أول مرة تعرفه.
وانهمرت الدموع من عينيها تبكيه وتبكى حالها معه, وعادت إلى غرفتها وتناولت صندوقها وأخرجت منه أشياءها التى تخبيها, وما كانت أشياؤها إلا حاجات تخص مراد, أخذتها منه بشكل أو بآخر لتحتفظ بها وترجع إليها كلما اشتاقت إليه.
كان الصندوق يحوى قلما له نسيه عندها ففرحت به كثيرا واعتبرته هدية من الله, وصورة شخصية لمراد أخذتها من حافظته دون أن يشعر, ويوجد فى الصندوق منديل له وبقايا عطره فى زجاجة, وكلها أشياء حصلت عليها بالتحايل دون أن تشعره وكانت تظن أنه لا يشعر.
أخرجت الأشياء من صندوقها وأخذت تتحسسها وتنظر إليها بدقة وكأنها آخر مرة تراها فيها وقلبها يخفق بشدة.
كان يأتى المساء عليها و لا يأتى مراد يشاركها بعض أوقاتها وينسج معها مشاعر الزمن الجميل فتلجأ إلى حاجاته وتنهمر دموعها عليها, ما كان يخطر ببالها يوما أنها تجمع أشياءه لتكون عزاءها عن فقدانه.
وفى مساء, وما أتعسه من مساء! عاد مراد إلى حبيبة يبدو فى غاية السعادة من أمر ما لمحته فى بريق عينيه, وكان يحمل معه باقة صغيرة من الورد وعلبة حلوى فخفق قلبها وهو يقدم لها الهدايا ومما زاد فى خفقانه إقدامه ناحيتها ولهفته عليها حتى أمسك بيديها وعرفت أنه يخبئ فى نفسه شيئا لها يريد أن يخبرها عنه.
حدثها عن تغير حاله الذى لم يكن فى الحسبان وهى تسمع وفى إحساسها لهفة لأن يخبرها بما يكنه لها فقد انتظرته طويلا وعانت فى انتظاره متسائلة:
- لماذا يشوقنى بطول حديثه لى وكان يمكنه أن يختزل الكلمات فى كلمة واحدة يعلن فيها حبه؟!
وكانت المفاجأة أكبر مما توقعت, نعم أخبرها عن مشاعر جديدة سكنت نفسه غيرت منه وبدلت حاله إلى حال, وبعد أن كان يرفض الحب المثالى ولا يؤمن بوجوده ها هو يحب ويرى فى حبه المثالية, ظل يحكى لها عنها وعن رقة شعورها وأناقتها فى التعامل معه حتى استطاعت أن تستحوذ على كيانه فأصبح وأضحى وأمسى وبات لا يفعل شيئا إلا التفكير فيهما.
- إنى لم أكن أتصور أن أحب بهذا الشكل الأفلاطونى.
ودون أن تدرى وجدت عينيها تنهمر دموعا وهو يحتضنها فرحا بها ويقول لها هدئ من روعك, أعرف أنك ستفرحين لى ولكنى لم أكن أعلم أن فرحتك بى ستصل إلى هذه الدرجة من الحنان, وعندما سمع نبضها يعلو ويهبط احتضنها بشدة إلى صدره وهنا وتغيرت معالم وجهه ونظرة عينيه وحدث نفسه:
- هكذا ثأرت لكرامتى.
ثم تركها ورحل أياما وهى لا تملك إلا البكاء على الأطلال وبالطبع لم تنس حبيبة أن تضع باقة الورد وعلبة الحلوى فى الصندوق لتكتمل محنتها وتتذوق المرارة على أصولها كما وعدها وقد أوفى بوعده لها, وبلا شك فقد ذبلت باقة الورد وذبلت معها حبيبة, وبدأت تفقد شيئا من بصرها ولم يتبق لها غير بصيص ضوء ترى به, وحتى تحافظ عليه من الضياع فقد أجبرت نفسها على أن تتوقف عن البكاء ولكى تتمكن من ذلك توقفت أيضا عن مراجعة أشيائها فى الصندوق, وما عادت طبيعتها رومانسية كما فى الأيام الخوالى.
وانتقلت أخبارها إليه فلم يصدق نفسه وشعر بوخزة فى ضميره وقرر أن يذهب إليها ويرى حالها إلى أين آل, والتقى بها جالسة على كرسى كبير بجوار المدفأة المطفاة تنظر فى الفراغ الماثل أمامها كما تنظر فى الرماد المتبقى فى أرضية المدفأة.
ورق قلبه لها بمجرد أن وقع نظره عليها ورأها ولكنه لم يعرفها, وجد إنسانة أخرى, وجد جسدا بلا روح, وجد ملامحا باهتة, وجد حياة خالية من الحياة.
لم يكن يخطر بباله أن يصل بها الحال لتصبح مومياء فى تابوت الحب.
ألقى عليها تحيته, ولم تلتفت إليه فمازالت شاخصة لا تصدق أمرها, فاقترب منها وأمسك بيدها اليسرى بين يديه ورفعها إلى شفتيه ولكنها كانت يد يابسة عجزت أن تتحرك وظلت متشبسة بمكانها, فألقى بشفتيه عليها وأسند خده إليها لتسقط منه دمعة حارة جعلت يدها تتلوى فى يديه.
وظل يخاطبها والعذاب يعتصر نبراته وهى لا تستجيب وتكشف له أن حاله هو أيضا قد تبدل, أصبح ذاك البطل الذى كانت تتمناه حبيبة, أصبح يؤمن بالحب والتضحية, فهو يحبها ... نعم إنه يحبها.
لقد علمته معنى الحب وضحت بنفسها لتصنع منه البطل الذى تنشده, وهو أيضا مستعد أن يقدم تضحيته من أجلها, من أجل أن تعود إليها حياتها ويلتقيان فى أروع قصة حب لم تقدم يوما على شاشة السينما.
اعتذر إليها كثيرا وأخبرها بمدى التغير الذى أصابه, أمسك بيدها وقربها منه لتلمس فيه هذا التغيير وتستشعر أحاسيسه, فربما تدب فيها الحياة وتنطق ولو بكلمة لتريحه من عذاب الضمير ولكن دون جدوى, وكأنها تحولت إلى تمثال أصم استراح للخلود وزهد فى الدنيا.
واستمرا على هذا الحال أياما وليالى دون أن يملا اللقاء أو المناجاة.
ولكن يا ترى أتعود حبيبة إلى نفسها وتبنى مع مراد كيانها؟ أتعود إلى بطلها الذى صنعته من إيمانها؟!
ربما أن الصدمة التى تعرضت لها أحدثت بها خللا لا يمكن تفاديه... فوأسفاه على جروح لا تندمل.
قصة قصيرة بقلمى
حنان