أمير المفرجي:
يرى الكثيرون من متتبعي أحداث المشهد السياسي العراقي في حالة تطور الأزمة السياسية العراقية والمطالبة بسحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء على أنها أزمة شخصية وصراع داخلي من أجل الاستحواذ على السلطة والفوز بكرسي الحكم . وإذا كان هذا التحليل هو قريب لحقيقة ما يجري في عراق ما بعد الاحتلال، فإن هذا القراءة البسيطة والمبسطة لا توضح بموضوعية الأسباب الأولية لهذا الصراع السياسي "الشخصي" في حكم الدولة العراقية الجديدة، والتي يمكن أن تنطبق عليه المقولة الغربية المشهورة "ما نراه هو سوى جزء من الجسم العائم من جبل الجليد" والذي هو أصغر بكثير من الجزء المغمور المخفي في أعماق المياه، أي أن ما نراه ونفهمه ليس سوى غيض من فيض من حقيقة الأسباب والمآسي التي دفعت بالعراق وشعبه إلى الوصول إلى هذا الوضع المزري من التشرذم السياسي والاقتتال الداخلي على السلطة.
حيث وبالإضافة إلى أهمية العامل الشخصي ودوره الأساسي في إدارة هذا الصراع، ثمة عوامل دولية وإقليمية أخرى وتحديداً أمريكية وإيرانية، تُحرك وتُسيطر على العملية السياسية وتعمل في نفس الوقت على تجانس أو اختلاف رموزها من القادة العراقيين. وبالرغم من تباين طبيعة وأهداف المشروعين الاستعماريين، الأمريكي والإيراني، إلا أنهما يتحملان في نفس الوقت المسؤولية في تمزيق العراق وتفتيته.
لقد كان للمشروع الأمريكي ودور العامل النفطي الاقتصادي في الأزمة السياسية العراقية الدور الكبير في تقسيم رموز المشهد السياسي العراقي وثرواته طائفيا، كما كان للمشروع الإيراني القومي للسيطرة على جزء من المنطقة ونزعته المذهبية الطائفية دور آخر مكمل في مسلسل تعقيد واحتقان المشهد السياسي العراقي والذي كانت آخر حلقاته أزمة سحب الثقة من نوري المالكي الأخيرة.
وانطلاقا من تسلسل فقرات أحداث المشهد العراقي منذ احتلال العراق، ومن ثم علاقة النظام السياسي والاقتصادي "النفطي" العراقي الجديد ورموز الهرم السياسي الحاكم القريب من إيران بالإدارة الأمريكية، فقد بات واضحاً أن مخططات وأهداف الوجود الأمريكي هي الهيمنة على النفط والغاز العراقي، وبالتالي تحويل العراق وثرواته إلى مركز تجاري كبير للنفط انطلاقا من فكرة ومعنى السوق التجاري، الذي هو عنصر مهم ومُكمل للهيمنة، حيث إن السيطرة على نفط المنطقة لا يقتصر هدفه على تأمين حاجة أمريكا من الوقود، بل يتضمن كذلك تأمين الزعامة الأمريكية الدولية، إذ في عالم تسود فيه القوة العسكرية والاقتصادية للأمم وتعتمد بشكل أساسي على واردات النفط، فإن سيطرة أمريكية أكبر على نفط العراق، تعني نفوذاً أقل لمنافسيها على السلطة العالمية وبالتالي نجاح الهيمنة الأمريكية وفشل الدول العظمى الأخرى الموجودة في عالم متعدد الأقطاب.
لقد عملت الإدارة الأمريكية ومنذ اليوم الأول للاحتلال على تقسيم العراق بفرضها نظاما سياسيا طائفيا، وأولت المسؤولية الشكلية في المناطق المهمة الغنية بالثروات الى نخبه إقطاعية ومذهبية قادرة على تقسيم النفط العراقي طائفيا وقوميا "نفط الجنوب الشيعي ونفط الشمال الكردي" وتحديد استقلالية التصرف به من قبل الإقليم أو زعيم الطائفة الذي جاءت به لتسهيل السيطرة عليه، ومن ثم مراقبة الطرفين الكردي والعربي والتواصل معهما في محاولة لاستخدامهما كلياً أو جزئياً، لتحقيق غاياتها التي جاءت من أجلها للعراق.
وقد ترجمت الزيارة الفاشلة التي قام بها مسعود البارزاني لواشنطن، والرسالة الأخيرة التي أرسلها نوري المالكي، والتي رفض من خلالهما الرئيس أوباما التدخل لحل الأزمة العراقية المتعلقة باتفاقيات شركة اكسون موبيل العملاقة، حقيقة التفكير الأمريكي ومواقفه الثابتة في عدم إيجاد الحلول للتناقضات والصراعات الشخصية حول المناطق الغنية بالنفط والغاز والتي ستشمل لاحقا مدينة كركوك. وهذا ما ساعد وسمح للمشروع الأمريكي في بث وإذكاء العامل القومي والطائفي للمكونات العراقية المتصارعة، ومن ثم تلاقيها مع المشروع الإيراني الذي ساهم في تصعيد الأزمة السياسية العراقية عن طريق السماح للفكر المذهبي من السيطرة على الساحة السياسية، وبالتالي الاستحواذ على السلطة وتثبيت حكومة نوري المالكي بقوة المال والسلاح.
من جهة أخرى فقد كان لعلاقة إيران المتميزة مذهبيا مع الأحزاب الدينية القريبة منها الدور الكبير في ولادة أزمة اجتماعية ومذهبية، ساهمت في تفضيل وإقصاء المكونات فيما بينها. حيث كان تأثيرها واضحا في ظهور نوع من الاختلال السياسي والاجتماعي.
لقد ساهمت الجمهورية الإسلامية في طهران على العمل في تثبيت ومساعدة النظام العراقي الحاكم ورموزه الطائفية في جمع مؤسسات السلطة والنفوذ، وعملت على تسهيل مهمة رئيس الوزراء نوري المالكي، عن طريق تطبيع وتطييف أكثر المواقع حساسية من القوات المسلحة من جيش وشرطة، إلى حد أن معظم المؤسسات والفرق العسكرية صارت حكراً على قيادات طائفية وإثنية في بلد تُشكل فيه مقومات الأمن والمذهب مفتاح للسيطرة والنفوذ.
وبالإضافة إلى أن سيطرة حكومة نوري المالكي على الساحة السياسية، قد تمت بمساعدة لوجستية من التلاعب بملفات الفساد والإرهاب واستخدامها لحماية أصدقاء إيران وعملائها المخلصين أو لمعاقبة أو تهديد الخصوم من المعارضة. فقد تم استهداف الهيئات المستقلة وخاصة المفوضية العليا المستقلة للانتخابات وهيئة النزاهة والبنك المركزي وتحويلها بعد إخضاعها حزبيا وسياسيا لصالح النظام للبقاء الدائم في السلطة.
وبالرغم من وجود الدستور الذي يُنظم عمل الكثير من مؤسسات الدولة لم يتردد رئيس الحكومة نوري المالكي في السيطرة على البنك المركزي، وهو أحد الهيئات المستقلة المرتبطة بمجلس النواب، والتي حصنها القانون من أية تدخلات حكومية حيث قام بالاستحواذ على غطاء العملة العراقية المتمثلة باحتياطي البنك المركزي، والتحكم بمصير المليارات من الدولارات وإنفاقها بدون حساب لتمويل النشاطات الخاصة بدائرته الأمنية، ناهيك عن ملفات المساعدات المتعلقة بالعلاقات الخارجية مع إيران وسوريا اللتين تتعرضان للحصار الاقتصادي في المنطقة.
لقد كشفت تداعيات سحب الثقة من رئيس الحكومة نوري المالكي الغطاء من على الجزء المخفي للأزمة العراقية والمتمثل بالمشروع الأمريكي الإيراني ودوره الخطير على الساحة السياسية والاجتماعية العراقية.
لقد كان للمشروع الأمريكي للسيطرة على ثروات البلاد النفطية الدور الكبير في تطور الصراع الداخلي بين الكرد وعرب العراق، كما كان للمشروع الإيراني الإقليمي ونزعته المذهبية سبباً في حالة الاحتراب السياسي والطائفي بين عرب العراق أنفسهم.
لقد ترجمت أزمة سحب الثقة من رئيس الحكومة نوري المالكي على انها حراك لمطلب وطني وشرعي لسحب الثقة من المشروع الأمريكي الإقليمي وتداعياته الخطيرة على مستقبل العراق. <!--EndFragment-->
نشرت فى 30 يونيو 2012
بواسطة mhmadshoo
عدد زيارات الموقع
276,748
ساحة النقاش