د. عثمان قدري مكانسي*
أقرأ القرآن الكريم– أحياناً– كما يقرؤه الكثرة الكاثرة من الناس، وأمر على الآيات أفهمها فهماً يخالطه الانشغال بالدنيا، وبكلمة أخرى أقرأ دون وعي وتدبر في بعض الأحيان، فأنا إنسان ضعيف تأخذني الدنيا في متاهاتها دون أن أشعر بذلك– ولعلك مثلي في كثير من هذه الحالات، فعلى رأي الكوفيين نحن "الإنسان" من النسيان وإن كنت أرى ما تراه المدرسة البصرية من أن الإنسان من "الأنس" وهذا ما قرأناه في مسائل الخلاف للأنباري– رحمه الله تعالى– حين كنا في السنة الثانية الجامعية.
قرأت قبل يومين قوله تعالى في سورة الشورى: "فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ "36"" مع الآيات السبع التي تليها قراءة كما ذكرت آنفاً لكنني عدت إليها أمعن التفكير فيها– وما ألذّ تدبر الآيات والتفكر فيها– فوقفت على ما يلي:
1- لا ينال أحدنا ما يريد، إنما هو فضل من الله تعالى نُؤتاه على ضعفنا، وليس لنا إلا شكر الله على نعمائه والإقرار بهذا الفضل ولسنا نقول ما قاله قارون "إنما أوتيته على علم عندي" وغاب عنه رغم تشدقه الباطل بالفهم والدراية أنه أقرّ بأنه "أوتيَه" ولكن الاستكبار يفضح صاحبه من حيث لا يدري.
2- والعطاء "أشياء" جمع شيء والآية تقول "من شيء" فما يأخذه الإنسان جزءٌ من شيء. إنه قليل إذن إذا ما قورن بالحقيقة. ألم يقل الله تعالى "وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً"؟وأين ما يحوزه المخلوق من عطاء الخالق سبحانه؟ يعرف هذا من يعلم الفرق بين الخالق والمخلوق.
3- الدنيا زائلة فانية، وما فيها متنقل بين الناس فهو متاع، والمتاع في العربية ما ينتهي إلى أجل وهل يكون عطاء الدنيا إلا فانيا مثلها، وهذا العطاء الدنيوي يأخذه البر والفاجر والمؤمن والكافر.
4- وما عند الله– في جنات النعيم– دائم خالد لا ينقطع ولا يزول. فعلام يتشبث الإنسان بالزائل ويتعلق به ويفضله على الدائم المتجدد؟ إنه سوء تفكير وضعف في الفهم والإيمان لا ينتبه إليه إلا:
أ- المؤمن بالله تعالى المتصل به سبحانه وهؤلاء قليلون، ألم يقل الله تعالى "وما أكثر الناس ولو حرصتَ بمؤمنين" إن الهوى والشيطان يجرفان أمامهما من يعيش حياتَه غثاء ولا يعمل إلا لدنياه غافلاً عن الحقيقة التي سوف تجبهه في يوم يندم فيه ولا ينفعه الندم.
ب- الذي يتوكل على الله، وما يتوكل على مولاه سوى العاقل النبيه الذي يدري سبب خلقه "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" ويطيع ربه ويعمل ليوم قادم لا محالة، إن التوكل على الله لجوء إلى حصن حصين وملاذ آمن منيع. ومن توكل على الله كفاه الله، وما أعظم الحديث الشريف الذي علمنا إياه سيد البشر صلى الله عليه وسلم فعن أنس رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "من قال "يعني إذا خرج من بيته" بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله، يُقال له: هُديتَ وكُفيتَ ووُقيت وتنحى عنه الشيطان" رواه الترمذي، وزاد أبو داود في روايته: فيقول- يعني الشيطان لشيطان آخر–: كيف لك برجل قد هُدي وكُفي ووُقي؟!
ت- "وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ" والاجتناب عدم المرور به والتوقف عنده إنه الابتعاد والحذر عن كبائر الاثم أولاً وهنا نرى أن الإثم نوعان صغير وكبير ويقع المسلم في اللمم لكنه يستغفر او يتوضأ ويصلي فيُمحى اللمم، وما أضيفت كلمة الكبائر إلى الاثم إلا للتنبيه من الوقوع في الإثم الصارخ لأنه مثل الفاحشة تماماً.
ث- "وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ" فالإنسان يغضب وقد يثور، وهو في ثورانه يُضيّع رشده ويتصرف بنزق وقد يفعل ما لا تُحمد عقباه ففي هذه الحالة ينبغي أن يملك نفسه ويعود لهدوئه ويغفر لمن أساء إليه وهذه محمدة لا يصل إليها إلا أولو العزم الذين يذكرون قوله تعلى "ولْيعفوا ولْيصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم"، وهذا ما فعله سيدنا أبو بكر رضي الله عنه حين سمع هذه الآية– وكان أقسم أن لا ينفع مسطح بن أثاثة بنافعة لأنه خاض في الإفك، فقال بلى يا رب بلى، وغفر لمسطح. إنها درجة لا ينالها إلا المتقدّمون.
ج- "وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ" ولا يستجيب لأمر ربه فيلتزمه ويبتعد عن المنهيّ عنه إلا السعداء، وأقف عند كلمة الاستجابة فأراها سمة المؤمنين الأطهار المتصلين بربهم في كل أحوالهم، ولا يستجيب إلا الواعي النبيه ذو القلب الزكي والعقل الذكي.
ح- "وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ": إن إقامة الصلاة دليل الاهتمام بها، وما ذكرت الصلاة إلا وسبقتها كلمة الإقامة، وعد إلى القرآن الكريم لتتأكد من ذلك. إنّ من يؤدي صلاته بخشوع وتدبر فيطمئن بقيامه وركوعه وسجوده ويستقبل الله تعالى في صلاته فقد أقامها اما السرعة في الحركة دون الاطمئنان والتعقل في حركات الصلاة فليست صلاة على ما أعتقد.
خ- "وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ" وهل يقوم المجتمع الصالح المتماسك وهل تبنى الدولة القوية إلا على أساس قويم من الشورى والعمل المشترك؟ إن البلاء الذي أصاب أمتنا ودفع بها إلى مؤخرة الأمم تجبُّر الحاكم وتفرده باتخاذ القرار، فكأن الناس عبيد في مزرعته وملك يمينه يفعل بهم وببلادهم ما يشاء دون وازع من إيمان ولا ضابط من شورى، وثورات الشعوب على حكامهم ما جاءت من فراغ، وتاريخنا المعاصر ظلم وفساد وتأخر بسبب غياب الشورى ووأد الحريات وقتل الإبداع.
د- "وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ"، وإذا سألت عن سبب تقديم: "مما رزقناهم" على "ينفقون" علمت أن الله تعالى يرزقنا ويكرمنا ويعطينا ويتفضل علينا ثم يأمرنا أن ننفق مما رزَقَنا فالعطاء أولاً يتبعه الاعتراف بالفضل والإقرار به فينتج عنه شكر النعمة بالإنفاق على عباد الله، وبالشكر تدوم النعم. ولعلك ترى أن الله سبحانه لا يكلفنا شططاً حين يأمرنا أن ننفق القليل من هِباته وكرمه سبحانه.
ذ- "وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ"، فالله تعالى يعلمنا أن نكون أحراراً لا نرضى الدنية في ديننا ولا حياتنا، إن البغي مرتعه وخيم، ومن عاش في الذل لا يستقيم ولا يستحق الحياة من رضي الهوان. وأفهم هنا أن من سمات المسلم أنه لا يظلم احداً ولا يرضى الظلم من احد. فما كان الجهاد إلا عنوان الحياة الحرة الكريمة.
ر- "وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا" أرأيتم ميزان العدل؟ فما ينبغي إذا ما ظُلمتُ أن أتجاوز استرداد حقي وإلا انقلبتُ ظالماً، وما ينبغي للمسلم ان يكون ظالماً. وما يثور الحر إلا لظلم مسّه أفيكون كمن ظلمه؟! إن تجاوز الحق ظلم، هكذا علمنا ديننا.
ز- "فمن عفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ": وما العفو إلا عند المقدرة، وإلا كان هواناً، إنّ العفو عمن ظلمك يأتي حين يرى الظالم أنه بين يديك وتحت رحمتك، وهذا درس له رائع، بل إنك حين تريه من القوة ما يُرهبه ثم تعفو عنه تملك قلبه، فإذا ما أحسنتَ إليه انقلب صاحباً وصديقا، ونلت أجراً من الله عظيماً، لقد علمنا الله تعالى أن نكسب قلوب العباد فقال: "ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً، وقال إنني من المسلمين، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم، وما يُلقّاها إلا الذين صبروا، وما يُلقّاها إلا ذو حظ عظيم"، ولا ننسَ ان الله تعالى يكره الظلم والظالمين "إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ".
س- "وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ"، روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من دعا على من ظلمه فقد انتصر"، إن إحقاق الحق والوصول إليه يشفي قلب المظلوم أولاً ويكسر شوكة الظالم ثانياً ويربّي المجتمع ثالثاُ فيخاف الظالم أن يَظلِم. لكنْ حين يعلم المظلوم أن القاضي أخذ بحقه وأن عقوبة الظالم مستحقة فتنازل عن حقه وعفا عن جريرة المسيء كان من الصابرين، وهذا لا يحوزه سوى النبيل من الناس الذي يكظم غيظه ويعفو عمّن ظلمه قادراً عليه كما ذكرنا آنفاً.
ش- ولن يكون المدافع عن حقه الساعي إليه ظالماً، والظالم الحقيقي من بدأ الظلم واعتدى على حقوق الآخرين وأهانهم، ولم يراع حرمة الأخوة في الله ولا حقوق المجتمع في الأمن والأمان والحياة الحرة الكريمة "إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ".
ص- إن القرآن الكريم– مع دعوته إلى الحفاظ على الحقوق الإنسانية– يريد من المؤمن أن يرتفع إلى مستوى من الصبر الجميل في تحمل أذى إخوانه لأنه داعية وقدوة، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم هذا إذ يقول: "المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم لا يصبر على أذاهم "وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" إنه السمو في الأخلاق والسمو في الإنسانية والسمو في دعوة إلى الله.
_________________
* كاتب سوري مقيم في الأردن <!--EndFragment-->
نشرت فى 30 يونيو 2012
بواسطة mhmadshoo
عدد زيارات الموقع
276,746
ساحة النقاش