د. إبراهيم أبراش
في خضم انشغال النخب السياسية الفلسطينية الحاكمة بكيفية الحفاظ على ما بيدهم من سلطة وهمية وامتيازات مادية، وفي خضم الجدل العقيم حول إنهاء الانقسام والمصالحة، وهو الجدل الذي استمر لسنوات وخلال مئات جولات الحوار وكأن الانقسام حتمية لا فكاك منها والمصالحة الوطنية ترف لا داعي للاستعجال بتحقيقها، وكأن الطرفين يعيشان نشوة انتصارات وإنجازات وطنية تغنيهما عن تقديم تنازلات متبادلة، وفي خضم الانشغال بالتحركات الشعبية العربية، وخصوصا الانتخابات المصرية وتعليق كل شيء حتى المصالحة على ما ستؤول إليه الأمور في مصر حتى بات البعض يعتقد أن مصير فلسطين مرتبط بما ستؤول إليه الأمور في مصر، وأن رئيسا إخوانيا سيقود الجحافل الإسلامية لتحرير فلسطين، وفي خضم انشغال القيادة في رام الله مرة باستحقاق الدول ومرة بإستراتيجية الرسائل المتبادلة ومرة بالانفلات الأمني وبمطاردة ملفات الفساد والمفسدين، وانشغال حكومة غزة باستكمال حلقات فصل غزة عن الكل الوطني وبإبداع وسائل خلاقة لجبي المال من الناس وتكميم أفواه كل من يجرؤ على الاحتجاج، وفي ظل إلهاء الشعب الفلسطيني بكل ذلك بالإضافة إلى هموم حياته اليومية من التضييق على الحريات وامتهان الكرامة إلى الانشغال بالغلاء والوقود والكهرباء والبطالة والحواجز والمعابر... في ظل هكذا أوضاع تكثف إسرائيل عمليات التهويد والاستيطان في القدس والضفة بشكل غير مسبوق، ثم تشكل حكومة حرب، وكانت المفاجأة- ولا أدري إن كانت مفاجأة للسلطة ولفريق المفاوضات أم كانوا على علم بها- إعلان وزير الدفاع الإسرائيلي نهاية شهر مايو عن نيته خطة لفك الارتباط في الضفة تشبه ما أقدم عليه شارون في غزة في سبتمبر 2005 أو استكمالا لها.
كان حديث باراك أمام مؤتمر معهد الأبحاث ودراسات الأمن القومي في تل أبيب حيث قال إنه في حال فشل المفاوضات مع الفلسطينيين فيجب التفكير جديا في الانسحاب الأحادي الجانب من الضفة الغربية، "لأن إسرائيل لن تقبل باستمرار هذا الركود وسيكون اتخاذ هذا القرار صعبا لأن الوقت ينفد".
اللافت للانتباه أن ردود الفعل الفلسطينية على تصريحات بارك لا تختلف كثيرا عن ردود الفعل على شارون عندما أعلن، في يونيو 2004 لأول مرة، عن خطته لفك الارتباط مع قطاع غزة، حيث كانت ردود فعل السلطة باهتة أو غير مبالية ولم تتجاوز التنديد والقول بأنه الانسحاب يتعارض مع الاتفاقات الموقعة ولن يؤدي للسلام، وردود فعل المعارضة الفلسطينية التي فسرت الأمر بأنه هزيمة وهروب من قطاع غزة بسبب عمليات المقاومة، فيما كل ما جرى بعد الانسحاب ويجري اليوم مرتبط شديد الارتباط بخطة شارون، بل نتائج مخططة ومدروسة لخطة شارون: الانفلات الأمني ثم الانتخابات التي فازت بها "حماس" ثم انقلاب "حماس" وفصل غزة عن الضفة، والتهدئة بين غزة وإسرائيل وإخراج غزة من ساحة التأثير على مجريات الأحداث في الضفة والقدس، وأخيرا تفرد إسرائيل بقطاع غزة عدوانا وحصارا.
بالرغم من اختلاف الزمان والجغرافيا إلا أن نجاح خطة شارون في مرحلتها الأولى هو ما يشجع إسرائيل على التفكير باستكمال المخطط في الضفة وهو ما كان مسطرا في المرحلة الثانية من مخطط شارون تحت عنوان "الانضواء" أو "الانكفاء" والتي حالت المشاكل التي واجهت حكومة شارون ثم مرضه دون تنفيذها.
وللأسف ما جرى مع خطة شارون يجري اليوم، حيث تغيب القراءة الإستراتيجية لهذا المخطط وتغيب الإستراتيجية الوطنية لكيفية التعامل معه، ويتم ترك الأمور لتأخذ مجراها على أرض الواقع.
وعلى المستوى العربي لم تترك تصريحات باراك ردود فعل تذكر لا من الجامعة العربية ولا من لجنة المتابعة العربية ولا من الحكومات والأحزاب، حيث الجميع منشغلون بهمومهم الداخلية.
ودوليا كان الرد الأمريكي، على لسان هيلاري كلنتون، خجولا حيث انتقدت تصريحات باراك وقالت إن المفاوضات هي الطريق الوحيد لحل الصراع. وكانت أكثر الانتقادات من داخل السياسيين الإسرائيليين حيث انقسم هؤلاء ما بين مؤيد ومعارض كما جرى مع خطة شارون.
مع إدراكنا لصعوبة الحالة الفلسطينية الداخلية وخصوصا في ظل الانقسام إلا أنه يجب أخذ تصريحات باراك بعين الاعتبار وبدرجة من الجدية وضرورة وضع خطة وطنية لمواجهتها حتى وإن كانت مجرد أفكار حتى الآن، لأن باراك لا ينطق من فراغ ولأن تركيبة الحكومة والظروف العربية والإقليمية تسمح بالإقدام على هذه الخطوة، حيث إن باراك كان رئيس الحكومة الذي نفذ الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من جنوب لبنان، وموفاز الذي انضم حديثا إلى حكومة نتنياهو كان وزير الحرب الذي نقذ الانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة في عهد حكومة شارون، ونتنياهو، وبالرغم من أنه كان من أشد العارضين لخطة شارون إلا أنه اليوم مع سياسة فرض الأمر الواقع على الفلسطينيين لكسر جمود المفاوضات، وكان قد صرح قبل أيام من تصريحات باراك بأنه لا يعارض دولة فلسطينية منزوعة السلاح على مساحة تتراوح بين 50 بالمئة إلى 60 بالمئة من الضفة بدون الأغوار والقدس، حتى وإن كانت تصريحات لا تعبر عن حقيقة نواياه.
كثيرة أوجه الشبه بين ظروف إعلان شارون لخطته وظروف إعلان بارك لخطته، فمن يرجع لعام 2004 حيث أعلن شارون عن خطته- طرح شارون خطته في 2/2 وصادقت الحكومة الإسرائيلية عليها بعد تعديلها يوم 16/ 6 من نفس العام- سيلاحظ أن شارون برر الخطة بالخروج من حالة الجمود الناتجة عن وقف المفاوضات، وبررها بغياب شريك فلسطيني للسلام، كما أنه أعلن عن خطته في سنة الانتخابات الأمريكية وتسابق المرشحين للرئاسة الأمريكية على كسب ود إسرائيل، كما أنها جاءت في ظل حالة من الانفلات الأمني في غزة والضفة وضعف السلطة، أيضا في ظل حالة ارتباك عربي ناتجة عن الاحتلال الأمريكي للعراق.
كل هذه الأمور متواجدة تقريبا الآن، فالسلطة في أشد حالات ضعفها والوضع الأمني صعب في الضفة، والعرب منشغلون بالأحداث الداخلية عندهم، وأبو مازن متهم إسرائيليا بأنه عقبة ضد السلام، والمفاوضات متوقفة وإسرائيل مُحرجة دوليا ومُتّهَمة بأنها ضد السلام ومعيقة له، وواشنطن تعيش سنة الانتخابات، وكما منحت الإدارة الأمريكية ورقة ضمانات لإسرائيل آنذاك بعدم العودة لحدود 1967 وهو ما شجع شارون على تنفيذ خطته، فإن أوباما منح إسرائيل ورقة ضمانات مشابهة عندما أكد على نفس الرأي بالإضافة لالتزامه بيهودية دولة إسرائيل.
سيكون من السذاجة تفسير تصريحات باراك بأنها تمهد لقيام دولة في المناطق التي سيُعيد الجيش الإسرائيلي انتشاره فيها - ما بين 50 بالمئة و60 بالمئة- من مساحة الضفة، ويبدو أن غياب حدة الموقف عند المسؤولين في السلطة تعود لهذا الاعتقاد، حيث يفسر بعضهم تصريحات باراك بأنها تهدف إلى فرض حل الدولة المؤقتة وخصوصا أن طرح الفكرة جاء متزامنا مع إرسال واشنطن لمبعوث جديد للسلام إلى المنطقة قد يهيئ الظروف لصفقة تشمل خطة باراك، وهذا ما صرح به نبيل أبو ردينه المتحدث باسم الرئاسة الفلسطينية حيث قال "إن أية خطوات إسرائيلية أحادية تؤدي إلى قيام دوله ذات حدود مؤقتة هي مرفوضة" وتصريحات شبه مرحبة بالخطة صدرت عن محمد شتيه عضو اللجنة المركزية في حركة "فتح".
في ظني أن إسرائيل لن تمنح الفلسطينيين أية سيادة على الأراضي التي سيسحبون جيشهم منها، وبالتالي لن يسمحوا بقيام دولة مستقلة حتى على هذه الكانتونات، وأقصى ما سيحدث هو حكم ذاتي فلسطيني موسع ولكن بحدود أرض أقل، وهنا يفرض السؤال نفسه: ما هو مصير بقية الضفة الغربية- حوالي 40 بالمئة؟ من المؤكد أن إسرائيل ستقوم بضمها، وعلى هذا الأساس ستكون إسرائيل ربحت بالحسابات الإستراتيجية، حيث ستبدو وكأنها قدمت تنازلات للفلسطينيين وفي نفس الوقت ستضم أجزاء من الضفة لها، بما فيها القدس والغور والتكتلات الاستيطانية الكبرى، وبعد فترة من الوقت ستشتغل على توتير الأوضاع في المناطق الخاضعة للسيطرة الفلسطينية من خلال خلق فتنة فلسطينية داخلية وحالة فلتان أمني تبرر من خلاله تدخل الجيش الإسرائيلي؛ ويبدأ الحديث مجددا عن إعادة انتشار جديدة ومناطق أمنية جديدة، وقد لا تمانع آنذاك إجراء انتخابات تفرز قوى الإسلام السياسي ليتكرر سيناريو غزة، وكانتونات السلطة في الضفة تسمح بتكرار الانقسام وبتعدد السلطات... الخ.
كتبنا يوم السادس من مارس 2005، أي قبل تنفيذ شارون لخطته بفك الارتباط، مقالا تحت عنوان "هل من إستراتيجية فلسطينية لمواجهة خطة شارون؟" وقد نُشر المقال في أكثر من موقع وصحيفة، وخلصنا إلى نتيجة مفادها أن غياب إستراتيجية فلسطينية لمواجهة خطة شارون ستكون له نتائج خطيرة على مجمل القضية الوطنية، وقلنا إن خطة شارون ليست هروبا من غزة وليست مجرد إعادة انتشار للجيش، بل مخطط استراتيجي سيغير قواعد الصراع وجغرافيته، وهذا ما جرى؛ واليوم نحذر من أن دفن الرؤوس في الرمال وعدم وضع إستراتيجية فلسطينية لمواجهة خطة باراك سيؤدي إلى كارثة وطنية لن تقل عن كارثة الانقسام الحالي. <!--EndFragment-->
نشرت فى 23 يونيو 2012
بواسطة mhmadshoo
عدد زيارات الموقع
271,974
ساحة النقاش