محمد شو

العالم بين يديك

عمر نجيب

بعد مرور عامين ونصف على استفحال أزمة الديون في منطقة اليورو يقف الاتحاد الأوروبي على عتبة مرحلة مفصلية في تاريخه، ستحدد في أي اتجاه سيسير مخطط الوحدة الأوروبية، وشكل مساهمته التوازنات الدولية المستقبلية ومدى الضرر الذي سيلحق بالدول النامية وخاصة في منطقة الشرق الأوسط الكبير الممتد من مياه الخليج العربي حتى شواطئ شمال أفريقيا المشرفة على المحيط الأطلسي.

في ديسمبر 2009 كان الإنذار الكبير الأول من اليونان حيث استنفر الاتحاد الأوروبي بعد زيادة تقديرات العجز إلى 12.7 بالمئة من إجمالي الناتج الداخلي.

في مايو 2010 لم تعد اليونان قادرة على الاقتراض نظرا لارتفاع معدلات الفائدة. وهكذا تقرر برنامج أول للقروض العاجلة من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي بقيمة 110 مليارات يورو، مقابل خطة تقشف. وتم إنشاء الصندوق الأوروبي للاستقرار المالي لمساعدة الدول الهشة في منطقة اليورو.

البرنامج الأول لنجدة اليونان لم يأت بالتسوية المبتغاة مما فرض اتفاق منطقة اليورو في أكتوبر 2011 على خطة جديدة تقضي بمنح قروض بقيمة 130 مليون يورو وإعادة هيكلة الدين، مقابل فرض شبه وصاية على البلاد. وفي مطلع نوفمبر 2011 استقال رئيس الوزراء جورج باباندريو اليوناني بعد إعلانه عن مشروع استفتاء حول الاتفاق الأوروبي، ثم تراجعه عن ذلك.

في يناير 2010 تبنت إسبانيا خطة تقشفية لخفض العجز العام الذي بلغ 11.2 بالمئة من إجمالي الناتج الداخلي تلتها إجراءات جديدة في مايو.

في شهر يوليو 2010 أقرت إيطاليا خطة تقشف لتجنب أزمة كارثية خاصة وأنها تعاني من مديونية هي واحدة من الأعلى في العالم بمبلغ يزيد على 1900 مليار يورو.

وفي نوفمبر 2010 واجهت أيرلندا أزمة مصرفية وطفرة عقارية. مما استلزم وضع خطة إنقاذ من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي بقيمة 85 مليار يورو.

سنة 2011 جاءت بالمزيد من الأزمات، ففي شهر مايو حصلت البرتغال على مساعدة من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي بقيمة 78 مليار يورو مقابل إصلاحات وبرنامج تقشفي. وفي أغسطس تعرضت إيطاليا وإسبانيا لهجمات من أسواق المال. بينما اهتزت فرنسا للمرة الأولى مما دفع حكومتها إلى تبنى خطة تقشفية أولى تلتها خطة ثانية في نوفمبر.

توالت الأزمات وكبرت ككرة الثلج المتدحرجة على سفح الجبل، ففي منتصف نوفمبر 2011 استقال رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلوسكوني وحل محله المفوض الأوروبي السابق ماريو مونتي.

وفي 21 ديسمبر قدمت قروض بقيمة لا سابق لها من البنك المركزي الأوروبي إلى مصارف في منطقة اليورو لإنقاذها من الإفلاس.

مع مطلع سنة 2012 وفي يناير تم خفض تصنيف تسع دول في منطقة اليورو. وفقدت فرنسا والنمسا الدرجة الممتازة "ايه ايه ايه". في 30 يناير عقدت القمة الأوروبية حول المعاهدة الجيدة لضبط الميزانية وبدأ تطبيق الآلية الأوروبية للاستقرار. وكان من ضمنها قرار غالبية من الجهات الدائنة في القطاع الخاص في 9 مارس 2012، شطب 105 مليارات يورو من ديون اليونان.

الأزمة اليونانية الاقتصادية خلطت كل الأوراق السياسية على الصعيد الداخلي، وهكذا وفي 6 مايو 2012 أسقط الناخبون في الانتخابات التشريعية الحزبين الكبيرين اللذين وافقا على خطة التقشف. التركيبة السياسية الجديدة فشلت في الاتفاق على تشكيل حكومة ائتلافية، مما فرض تنظيم انتخابات جديدة في 17 يونيو.

فرنسا عرفت بدورها تحولا سياسيا، ففي 6 مايو فاز في الانتخابات الرئاسية الاشتراكي فرنسوا هولاند الذي عمل على إدخال تعديلات كبيرة على مستوى التنسيق والتوجيه والتحالف مع ألمانيا فيما يخص التوجهات الأوروبية الاقتصادية، وتوجه بعد انتخابه بأيام إلى برلين حيث تم تجنب خلاف علني. وسجل تفاهم فرنسي ألماني بشأن بقاء اليونان في منطقة اليورو ولكن بدرجة أقل بشأن "الاجراءات الفورية" لإنعاش النمو التي تريدها باريس.

في 25 مايو ساءت أوضاع إسبانيا وطلب رابع مصرف إسباني "بانكيا" مساعدة قياسية تبلغ قيمتها 19 مليار يورو من الدولة. وفي 5 يونيو وبعض الانتقادات التي واجهتها من الأسواق طلبت مدريد من أوروبا "دعمها" عبر آلية لإعادة تمويل مصارفها.

وفي 7 يونيو تم خفض تصنيف الدين الإسباني 68.5 بالمئة من إجمالي الناتج الداخلي ثلاث نقاط. بعد يومين وفي 09 يونيو قررت هذه القوة الاقتصادية الرابعة في أوروبا طلب مساعدة يمكن أن تصل إلى أكثر من مئة مليار يورو.

تحذيرات برلين

لا يختلف غالبية الاقتصاديين على أنه عبر كل عمليات الانقاذ الاقتصادية التي عرفتها منطقة اليورو خلال 30 شهرا تقريبا تحملت ألمانيا العبء الأكبر. غير أنه ومع تزايد الطلبات على خطط الإنقاذ قدرت برلين أنه لا يمكن مطالبتها وحدها بالمزيد وأكدت أنه لإيجاد حلول ناجعة يجب المضي بخطى أسرع نحو اندماج سياسي كامل، في حين مارست بعض القوى داخل الاتحاد الأوروبي ما يصفه البعض بأساليب الابتزاز.

يوم الخميس 14 يونيو 2012 حذرت المستشارة الألمانية انغيلا ميركل، من ان بلادها لا تستطيع تحمل مسؤولية إنقاذ منطقة اليورو منفردة، داعية في الوقت عينه الى مزيد من العمل الأوروبي المشترك.

وقالت في خطاب في مجلس النواب ان "قوة المانيا ليست بلا حدود" معربة عن اقتناعها بان "كل العيون ستكون شاخصة على المانيا، مجددا".

ووسط المطالب المتعددة الموجهة الى برلين مثل اصدار سندات يورو لتوحيد المديونية او اطلاق النمو عبر نفقات جديدة، رفضت المستشارة فكرة ان يكون مثل هذا التوجه حلا لمشاكل أوروبا والعالم.

وقالت متوجهة إلى الذين يطالبون ألمانيا بالتزام اكبر "نعم ألمانيا قوية وهي محرك الاقتصاد وقطب الاستقرار في أوروبا". وأضافت انه في هذا السياق "كل رزم المساعدات لن تجدي نفعا إذا تمت المبالغة بقوة ألمانيا".

وردا على كلام ميركل، دعا رئيس الحكومة الفرنسية جان مارك ايرولت المستشارة إلى "عدم التركيز على صيغ مبسطة" مضيفا أن "الوضع في أوروبا حساس للغاية".

وكتب المحلل ماتيلد ريختر: تأتي تحذيرات ميركل في وقت يرى فيه الكثيرون في المانيا، أقوى اقتصاد أوروبي، خشبة الخلاص الوحيدة والعائق الوحيد أمام حل سريع للازمة.

وتثير هذه الدعوات انزعاجا متزايدا في برلين. ولا تعتبر ألمانيا نفسها بمنأى عن المشاكل: نموها يظهر دلائل تراجع، معدلات الفوائد على قروضها تراجعت بشكل طفيف خلال يونيو 2012 ما أثار قلق المستثمرين. وعنونت مجلة داي زيت "يسار الوسط" "الجميع يريد اموالنا".

المستشارة لا تنوي حل المشاكل من خلال نفقات إضافية. واعتبرت أن هذا الخيار سيكون "حلا سهلا". وأعلنت موقفها الداعي إلى اصلاحات اقتصادية بنيوية وتعزيز الاندماج الأوروبي، مع مزيد من التضامن مصحوبا بتشديد للمراقبة المالية في بلدان عدة.

كما أكدت ان المشاريع الطويلة الأمد هي وحدها القادرة على إرساء النمو "على قواعد متينة ونزيهة". واشارت الى ان تقليص العجز العام سيترافق "يدا بيد" مع النمو. وهذا النمو يمر اجباريا بزيادة للتنافسية لكل بلد. وقالت "اعلم أنه أمر مضن، انه مؤلم، انه عمل يتطلب صبرا طويلا، مهمة شاقة"، لكن "أي حل بديل سيكون ذرا للرماد في العيون".

وباختصار، كما قال وزير المال الألماني ولفغانغ شوبل، على كل بلد أن يهتم أولا بشؤونه الداخلية. وهذا الأمر يسري على بلدان منطقة اليورو وايضا بشكل أوسع على دول مجموعة العشرين.

ميركل أكدت أن "منطقة اليورو لا يمكن أن تتحمل وحدها مسؤولية النمو، على كل الشركاء بذل جهود". وغالبا ما ينتقد المسؤولون الالمان في هذا الإطار المستويات الضخمة للعجز في ميزانية الولايات المتحدة.

واعتمدت الولايات المتحدة في توقيت مقارب نبرة أكثر تصالحية مع برلين. وقال وزير الخزانة الأمريكي تيموثي غايتنر "أجد من غير العادل اعتبار ألمانيا المصدر الوحيد للمشكلة حاليا".

خطر التمزق

بعد مرور 22 سنة تقريبا على بدء توسع الاتحاد الأوروبي نحو الشرق بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي لا يزال حلم توحيد أوروبا قائما، وإن كان غامضا بصورة كبيرة، بجانب كابوس لم يكن متصورا قبل عقدين في إن القارة تتمزق نتيجة الأزمة المصرفية والديون السيادية الآخذة في الزيادة.

يقول المحلل توني باربر "تتباهى دول الاتحاد البالغ عددها 27 دولة وسيصبح 28 دولة عام 2013 بانضمام كرواتيا بتعدد الأنظمة السياسية، وحماية الحريات المدنية كما ينبغي لغالبية المواطنين، ورغم ذلك تعد الأزمة المالية اختبارا لم يسبق له مثيل لمرونة ديمقراطيات الرفاه القائمة في الدول الأوروبية وصمود عملية التكامل التي حدثت في مرحلة ما بعد عام 1945. 

وإذا فشل قادة أوروبا في اجتياز هذا الاختبار، فإن التداعيات المحتملة للعالم ولأوروبا ستتجاوز مجرد الهواجس المتشائمة في مجال الأعمال والدوائر المالية للأنظمة المصرفية المحطمة واختلال النظام الاقتصادي الدولي. وقال مايكل إيمرسون من مركز دراسات السياسة الأوروبية ومقره بروكسل "إن التداعيات المباشرة لأزمة منطقة اليورو هي تدهور سمعة الاتحاد الأوروبي ككل على أساسين: كأنموذج لإدارة السياسة الاقتصادية المتخصصة وكأنموذج للتكامل الإقليمي المستنير".

ورغم ظهور اتحادات اقتصادية وتجارية إقليمية في إفريقيا والأمريكتين وآسيا، فلم تحاول أي منطقة في العالم تجميع الدول القومية ذات السيادة في كيان طموح كما فعل الاتحاد الأوروبي، ولم تتقارب أي منطقة بصورة كبيرة مع المثل العليا الخاصة بالنظام الدولي القائم على القواعد فضلاً عن التركيز على التجارة والمساعدات و"القوة الناعمة" المقابلة للقوة العسكرية. ويذكر أن فشل التجربة الرائعة والمتمثلة في شكل من أشكال التعاون السلمي الذي يحد من نفوذ الدول القومية ولكنه لا يخمد الهويات الوطنية سيكون بمثابة جرس إنذار للقادة السياسيين في القارات الأخرى.

لقد جاء انطلاق اليورو في عام 1999 نتيجة جهد نابع من وعي ذاتي يهدف إلى إسراع وتيرة توحيد أوروبا وتوسيع نفوذها، ويكمن الخطر في الأزمة الراهنة في أن بذل جهود أقل مما ينبغي بعد فوات الأوان سيؤدي إلى تفكك منطقة اليورو وإضعاف السوق الأوروبية الموحدة ودفع أوروبا نحو الهوامش العالمية، وتدمير مشروع التكامل الأوروبي بعد مرور 55 عاماً على معاهدة روما التأسيسية. 

إن تفتيت الاتحاد الأوروبي سيؤثر سلبا على تطلعات واضعي السياسات الذين وعدوا بظهوره ككيان سياسي متماسك من شأنه تعزيز مطالبه المتمثلة في التمتع بنفوذ دبلوماسي واقتصادي في تعاملاته مع قوى منفردة مثل الولايات المتحدة والصين والهند وروسيا.

إن الناخبين الذين يواجهون ضغوطا كبيرة من الناحية المالية والمتضررين من فقدان وظائفهم فضلاً عن تآكل دولة الرفاهية وارتفاع معدلات الهجرة غير الأوروبية، كل هذا يتجاوب مع صافرات الإنذار التي أطلقتها الأحزاب السياسية المناهضة للمؤسسات الحاكمة التي أظهرت نتيجة الشعوبية الاقتصادية وكراهية الأجانب، ويستعير غالبية الساسة اللغة المتطرفة من خصومهم الذين يتسمون بالغرور وذلك في إطار سعيهم لحشد تأييدهم.

لا يزال عامة الناس في معظم الدول يتصورون السياسات في شكلها القومي وليس الأوروبي، ولكن المسافة الديمقراطية الفاصلة بين مؤسسات الاتحاد الأوروبي وبين الناخبين لم تكن كبيرة على الإطلاق. وتهدد هذه الأزمة بتفكك نسيج التكامل عن طريق تركيز إحباط الناخبين في الشمال والغرب، الهولنديين والفرنسيين والألمان، على جيرانهم الأفقر في الجنوب والشرق، اليونانيين والبولنديين والرومانيين.

ووفق معايير اقتصادية فإن هناك دولا معينة تحدد مصائرها حتى وإن كانت في وضع أقل أمانا مما كان عليه الأمر بين عامي 1989 و1993، وتخضع أسواق العمل في كل من اليونان وأيرلندا والبرتغال لرقابة أجنبية صارمة تتزايد كثمن لعمليات الإنقاذ المالي التي تبلغ قيمتها عدة مئات المليارات من اليورو، وتواصل كل من إسبانيا وإيطاليا تطبيق برامج التقشف، التي تم وضعها بشكل جزئي نتيجة ضغوط خارجية، والتي تقضي على النمو الاقتصادي وتؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة، ولكنها لا تفعل شيئا يذكر لتخفيف تكاليف الاقتراض العقابية المفروضة على الأسواق المالية.

وقد ساهم اليورو في أول عقد له الذي تميز بوفرة الائتمان الرخيص في أسواق رأس المال العالمية، في التكامل القاري عن طريق التشجيع على تدفقات الاستثمار خارج الحدود بين الدول الأعضاء في العملة الموحدة والبالغ عددها في الوقت الراهن 17 عضوا، ولكن المخاوف من تفكيك منطقة اليورو تعيد تأميم الأسواق نتيجة سحب المستثمرين لأموالهم من الدول "الشريكة" ووضعها في الداخل.

وأدت عمليات الشراء واسعة النطاق التي تقوم بها المؤسسات المالية الإسبانية والإيطالية للسندات الحكومية في كلا البلدين إلى وجود علاقة وثيقة تثير القلق بين الدول ذات السيادة والبنوك وهو أمر لا بد من القضاء عليه للتخلص من المخاطر المتمثلة في تدمير كل منهما للآخر على سواء.

ويدرس بعض القادة الأوروبيين الفكرة القائلة إنه ربما يكون من الأسهل تحقيق الاستقرار في منطقة اليورو في حالة خروج اليونان منها، حيث ينظر إليها في عواصم معينة على أنها مثال غير قابل للإصلاح للفساد والإسراف البالغ والطفولة السياسية، وبغض النظر عن خطر انتشار العدوى المالية التي لا يمكن السيطرة عليها إلى دول أخرى، فإن مثل هذه الخطوة ستنطوي على المجازفة بتداعيات سياسية كبرى وستكون هذه هي المرة الأولى منذ عام 1945 التي تنضم فيها دول إلى عملية التكامل الأوروبي ثم تتركها بعد ذلك، وليس أي دولة، بل دولة تعد مهد الحضارة الأوروبية. 

وسيكون ضربا من المستحيل بعد ذلك طرح التكامل باعتباره مشروعا يتعذر إلغاؤه يضم كل دول أوروبا، وكان هناك بالفعل أنموذج مصغر للوحدة يجول بأذهان قادة الاتحاد الأوروبي عندما تم إبرام معاهدة لشبونة في عام 2009 التي قضت للمرة الأولى بإمكانية انسحاب إحدى الدول من الاتحاد، وهذا تماما ما يريد أن يفعله العديد من الساسة في المملكة المتحدة.

كذلك فإن الشكوك القائمة حول مدى تصور الساسة في غرب أوروبا للتكامل على أنه مشروع يضم كل دول الاتحاد الأوروبي التي كانت تهيمن عليها الشيوعية من قبل، فهم يتحسرون على انحراف المجر عن المعايير الديمقراطية للاتحاد الأوروبي ويدينون الفساد والجريمة المنظمة في كل من بلغاريا ورومانيا، كما أنهم حظوا بصلاحيات أوسع لإعادة مراقبة الحدود في نظام شنغن للسفر الذي لا يعترف بالحدود والذي يعد حجر الزاوية في عملية التكامل.

ولا تتمثل فكرة الوحدة بالنسبة إلى بعض الدول المؤسسة للاتحاد الأوروبي في الإمبراطورية الرومانية التي ضمت لندن والقسطنطينية داخل حدودها، ولكنها تتمثل في إمبراطورية شارلمان التي تعود إلى القرون الوسطى وتألفت بشكل رئيس من فرنسا ودول البنلوكس وألمانيا وشمال إيطاليا.

وحتى إذا كان حجم أوروبا أصغر من ذلك فلا بد أنها ستصارع انخفاض معدلات النمو الاقتصادي طويل المدى والديون المفرطة والركود الديموغرافي وأنظمة المعاشات التقاعدية المثقلة بالأعباء والمنافسة التي تواجهها من القوى الناشئة غير الأوروبية، فضلا عن مسألة الأمن القومي والإنفاق العسكري. ومع تركيز الولايات المتحدة لجهودها بصورة متزايدة على آسيا والمحيط الهادي والشرق الأوسط، ستكون الحكومات الأوروبية بحاجة إلى تكثيف مساهماتها في الدفاع في الوقت الذي تواجه فيه ضغطاً متواصلا على التمويل العام ورفض ومقاومة شعبية لخفض معدلات الرفاهية، الأمر الذي سيكون في غاية الصعوبة.

نعمت شفيق، نائبة المدير العام بصندوق النقد الدولي، قالت في شهر مايو 2012 "إن زيادة التوتر السياسي والاجتماعي يهدد بتقويض الدعم الشعبي للإصلاحات التي تهدف إلى إعادة الاقتصاديات إلى مسارها الصحيح"، ويرجع السبب في ذلك تحديدا إلى أن الإصلاح الاقتصادي في أوروبا يعد مهمة طويلة الأمد في الوقت الذي ستستمر فيه هذه التوترات، وربما يكون من الصعب على الأحزاب السياسية الجماهيرية التي حكمت أوروبا منذ عام 1945، مثل الحزب الديمقراطي الاجتماعي وتيار الوسط واليمين الوسط-، أن تحافظ على سيطرتها في مواجهة منافسين متطرفين وغير تقليديين يحظون بتأييد في النمسا وفنلندا إلى هولندا وإيطاليا.

يصر واضعو السياسات في الاتحاد الأوروبي على أنهم لم يخسروا كل شيء، فلا يزال الاتحاد واحداً من أغنى المناطق في العالم ويلعب دورا رئيسا في تطبيق قواعد التجارة العالمية واللوائح التنظيمية في المجال التجاري. 

وعلق سفير روسيا لدى الاتحاد الأوروبي، فلاديمير شيزوف، شهر مايو 2012 على إصرار الاتحاد على تضمين شركات طيران غير أوروبية في خطته التي تهدف إلى الحد من انبعاث الكربون تعليقا يحتمل وجهين حيث قال: "يقارن بعض الناس بين الاتحاد الأوروبي والتمساح، ليس بسبب أنيابه، ولكن بسبب عدم قدرته على الرجوع للخلف".

أما بالنسبة إلى مستقبل منطقة اليورو، فقد أدت هذه الأزمة إلى زيادة حدة المطالبة بالتكامل بصورة أوثق، وسيتم تقديم المقترحات المتعلقة بخريطة الطريق التي تهدف إلى إقامة اتحاد مالي في قمة الاتحاد الأوروبي المقرر عقدها يومي 28 و29 يونيو التي ستضغط فرنسا قبل انعقادها من أجل إعادة تمويل المصارف.

وتشمل المبادرات التي يتم دراستها تعزيز الرقابة المصرفية في أوروبا بأسرها ووضع خطة مشتركة لتأمين الودائع فضلاً عن التمويل المصرفي المشترك لإعادة هيكلة المؤسسات المالية التي تفشل أو إغلاقها، وعلاوة على ذلك اتسع نطاق التأييد السياسي لطرح سندات خاصة في منطقة اليورو يتم ضمانها بشكل مشترك، وذلك منذ انتخاب فرانسوا هولاند لرئاسة فرنسا في السادس من مايو 2012. وستكون هذه الخطوات إذا تمت الموافقة عليها تكملة للقواعد الجديدة المستوحاة من ألمانيا التي تلزم منطقة اليورو على ما يبدو بالصرامة المالية الدائمة.

ولكن يعد الاتحاد المالي من الأهداف متوسطة المدى، كما أن الطريق المؤدي إلى تحقيقه صعب للغاية. وتميل بعض الدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي إلى زيادة الميزانية السنوية للاتحاد التي تقرب من 129 مليار يورو عام 2012، أو 1 في المائة من الناتج الاقتصادي السنوي للاتحاد.

ويصطدم طرح سندات خاصة في منطقة اليورو وإقامة اتحاد مصرفي ومنح سلطات تأديبية أكثر صرامة لأصحاب الأمر والنهي في بروكسل بالحاجة إلى إقامة اتحاد نقدي للحصول على شرعية ديمقراطية، كما يصطدم أيضا بالدفاع عن الثروة القومية وكبرياء كل دولة من الدول الأعضاء وسيادتها.

يرى الساسة والمصرفيون والناخبون الألمان أن دول جنوب أوروبا تستميت من أجل الارتقاء على حساب المؤهلات المالية القوية التي تتمتع بها برلين، وأنها تفتقر للقدرة على التحمل والنسيج الأخلاقي المطلوب لقبول الإصلاحات الاقتصادية البغيضة. وينظر لفرنسا في برلين على أنها غير مستعدة للتضحية بسيادتها القومية بالقدر اللازم لتحويل الوحدة السياسية الأوروبية إلى حقيقة.

وعلى النقيض، تشعر دول أخرى بالاستياء من المواعظ الألمانية المملة وتشتكي من افتقار ألمانيا إلى التضامن الأوروبي، بل إنهم يقولون إنها تعمل ضده، وذلك نظرا للفوائد التي يجلبها اليورو لقطاع الأعمال الألماني.

يذكر أن هذه الخلافات برزت بعد فوز هولاند في الانتخابات الذي وعد الناخبين بتحقيق نمو اقتصادي وتوفير الحماية والضمان الاجتماعي على عكس التقشف الألماني. وعاتب فولكر كورد، الزعيم البرلماني للحزب الديمقراطي المسيحي الذي تنتمي إليه المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، قائلا: "ألمانيا ليست هنا لتمويل وعود الانتخابات الفرنسية". ورد بينوا هامون، المتحدث باسم هولاند قائلاً: "لم نعقد انتخابات ليكون لدينا رئيس أوروبي يسمي السيدة ميركل لديها سلطة تقرير مصيرنا جميعا".

ومن المعروف أن الخلاف بين ألمانيا وفرنسا ليس أمرا جديدا في تاريخ الاتحاد الأوروبي، ومن المحتمل أن تتوصل الدولتان مجددا إلى وسيلة ما للحفاظ على شكل من أشكال الوحدة الأوروبية، ولكن ذلك سيكون عبارة عن اتحاد سياسي أو مالي محدود النطاق، ولن تشارك فيه جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 27 عضوا، وإذا استمر التوفيق حليفا لأوروبا فإنه سيكون حرا في المستقبل، ولكنه سيكون غير مكتمل.

العجز الديمقراطي

إذا كانت الوحدة الاقتصادية الأوثق هي مفتاح التغلب على أزمة منطقة اليورو، فإن العديد من صانعي القرار يقولون إن الوحدة السياسية لسد "العجز الديمقراطي" في أوروبا سيكون مطلوبا أيضا.

وخرج التأثير على عملية وضع السياسة الاقتصادية من أيدي الهيئات التشريعية الوطنية والناخبين في ظل هيمنة البنك المركزي الأوروبي على السياسة النقدية وتمركز الرقابة على الميزانية بصورة متزايدة في أيدي سلطات غير منتخبة في بروكسل.

وفشل نقل السلطات بشكل مطرد للبرلمان الأوروبي في التعويض: تفتقر الهيئة التشريعية إلى النطاق الكامل من السلطات المخولة للبرلمانات التقليدية، ويتجلى بعدها الشديد عن المواطنين في نسبة الإقبال في كل عملية تصويت منذ بداية الانتخابات المباشرة للبرلمان في عام 1979.

ويؤكد الألمان أن الضوابط الديمقراطية الأقوى من شأنها تعزيز توثيق الوحدة، وهم لا يقترحون إقامة دولة أوروبية عظمى، بل توضح مجموعة الاقتراحات التي تمت الموافقة عليها في اجتماع الاتحاد الديمقراطي المسيحي الحاكم في شهر نوفمبر 2011 كيفية تصور قادة البلاد للوحدة السياسية المستقبلية. 

ويرغب الاتحاد الديمقراطي المسيحي في أن يتم انتخاب رئيس المفوضية الأوروبية، التي تعد الهيئة التنفيذية للاتحاد الأوروبي، بشكل مباشر من قبل جميع المواطنين في الاتحاد، كما يرغب في وجود هيئة تشريعية تتكون من مجلسين يكون للبرلمان الأوروبي فيها صفة مجلس النواب المنتخب انتخابا مباشرا، بينما يكون لمجلس الوزراء الذي يضم ممثلي حكومات الاتحاد الأوروبي صفة مجلس الشيوخ.

ويسعي الألمان أيضا إلى إحداث تحول جذري باقتراحهم أن يخول كلا المجلسين سلطة سن التشريعات، بينما يقوم البرلمان الحالي بمجرد صياغتها والموافقة عليها، كما اقترح الاتحاد الديمقراطي المسيحي فكرة تغيير تمثيل البرلمان حتى تتمكن الدول ذات الكثافة السكانية الأعلى، مثل ألمانيا نفسها، من الحصول على مزيد من المقاعد. 

ودفعت أزمة الشرعية بعض الشخصيات في بروكسل للقول إنه يتعين على الـ17 دولة التي تشكل منطقة اليورو اتخاذ التدابير التشريعية الخاصة بها كجزء من الضغط من أجل تحقيق التكامل بصورة أوثق. ولكن هذه الخطوة المنفصلة قد تؤثر بالسلب على تكامل السوق الأوروبية الموحدة، والاتحاد الأوروبي نفسه في نهاية المطاف.

الجميع في خطر جسيم

ذكر المحلل الاقتصادي جدعون راتشمان من لندن: حين زار وزير الاقتصاد الإسباني، لويس دي جويندوس صحيفة "فاينانشيال تايمز" قبل أسبوعين أطلق نبوءة قال فيها: "إن المعركة من أجل اليورو سيتم خوضها في إسبانيا". 

وبقرارها في شهر يونيو قبول المساعدات الدولية لإنقاذ بنوكها، انضمت إسبانيا إلى المعركة الآن. والمخاطر كبيرة جدا. وقد حذر نيال فيرجسون ونورييل روبيني، في كتاباتهم في هذه الصحيفة، أن أوروبا "قريبة بشكل خطير" من "تكرار كوارث الثلاثينات".

وكما حدث في الثلاثينات، يعتبر حدوث نزاع في إسبانيا الآن أمرا حاسما بالنسبة لنضال أوسع نطاقا يتعلق بمصير أوروبا. ولن يطول الأمر قبل أن تتوجه فرقة دولية من الاقتصاديين الكينزيين إلى كاتالونيا. ومرة أخرى، يتم تصوير ألمانيا على أنها الشرير في الدراما التي تشمل أوروبا بأكملها. 

بالطبع، لا يشكك أحد في المؤهلات الديمقراطية لألمانيا الحديثة. فلم يتم تشبيه المستشارة أنغيلا ميركل بأدولف هتلر إلا في الهوامش المتطرفة من الصحافة اليونانية. لكن الصورة التي تظهر من الصحافة العالمية تصور عناد ألمانيا، التي تهدد تصرفاتها العالم. فقد أظهر غلاف مجلة الإيكونوميست في الأسبوع الثاني من شهر يونيو 2012 الاقتصاد العالمي باعتباره سفينة غارقة ويتوسل إلى ميركل كي "تشغل المحركات". 

وتلخص المجلة "إجماعا دوليا لما يجب على ميركل فعله"، بما في ذلك "التحول من التقشف" و"اتحاد مصرفي، مع التأمين على الودائع على نطاق اليورو" و"شكل محدود من تبادل الديون". ويحث زعماء العالم سرا، من لندن إلى واشنطن وحتى روما، على إجراءات مماثلة من جانب برلين. 

والمطالب التي يجري حث الحكومة الألمانية على تلبيتها تنبع من رغبة يقال أنها تسعى لتجنب العودة إلى الثلاثينات، حين أفضت الكارثة الاقتصادية إلى أخرى سياسية.

لكن المطالب وإن كانت منطقية من الناحية الاقتصادية، إلا أنها غير واقعية وخطيرة من الناحية السياسية. فهي حلول مأخوذة من بطون الكتب، فشلت في اختبار الحياة الواقعية. والأسوأ من ذلك، في حال تم تطبيقها، أنها تنطوي على خطر أن ينتهي الأمر إلى حالة من التطرف السياسي كانت الغاية أن تحول هذه الإجراءات دون الوصول إليها.

لننظر فقط إلى أحد المقترحات على لائحة التسوق: مخطط تأمين على الودائع على مستوى أوروبا. كما يقول أحد كبار السياسيين الهولنديين الذي يشارك وجهة النظر الألمانية: "لا يمكننا الضغط من أجل اتحاد مصرفي في الوقت الذي خفض فيه الفرنسيون سن التقاعد إلى 60 عاما ورفعنا سن التقاعد لدينا إلى 67 عاما". ومن وجهة النظر الهولندية والألمانية، من غير العدل لمواطنيهم ضمان البنوك في دول تستخدم أموالها الخاصة لدفع الاستحقاقات الاجتماعية الأكثر سخاء من تلك المعروضة في ألمانيا أو هولندا. 

توضح هذه المعضلة سبب كون ممارسة تبدو فنية نسبيا مثل التأمين على الودائع المصرفية لها آثار عميقة على السيادة الوطنية. فحين تتخذ خطوة كبيرة تجاه تبادل الديون في جميع أنحاء أوروبا، تضطر إلى السير باتجاه اتحاد سياسي أعمق. وليس الأمر فقط مجرد الحاجة التي نوقشت كثيرا لوضع "وزير مالية أوروبي"، له صلاحية تجاوز الحكومات الوطنية. من أجل تجنب الخلافات المريرة بشأن الإنصاف، ستحتاج أيضا إلى تنسيق أنظمة الضمان الاجتماعي الأوروبية وسيتطلب هذا عقودا من الزمن.

ولا تستبعد حكومة ميركل سندات منطقة اليورو، أو التأمين على الودائع في الاتحاد الأوروبي للأبد. إنها تجادل بأن أي خطوات من هذا القبيل يمكن أن تأتي فقط ضمن مشروع أكبر، تشكيل اتحاد سياسي. وسيبدو أي شيء آخر مثل منح أوروبا الجنوبية بطاقة ائتمان ألمانية، دون وضع حد للائتمان.

التطرف السياسي

من الصعب رؤية كيف يمكن للسياسيين الأوروبيين تحقيق مثل هذه الإصلاحات العميقة في غضون أسابيع أو أشهر كما يحثهم الصينيون وغيرهم. وقد أظهر استطلاع رأي جديد لمركز "بيو" أن هناك أغلبيات كبيرة في جميع أنحاء أوروبا تعارض التنازل عن السيادة الوطنية لهيئة مركزية بسبب مسائل متعلقة بالميزانية. في هذا الموضوع، يظهر الجمهور حسا منطقيا أكبر من المثقفين الذين يصطفون لركل برلين. 

ومع أن تعامل ميركل مع الأزمة لم يكن خاليا من الأخطاء، من كان تعامله خاليا من الأخطاء أصلا؟ إلا أنها حققت إنجازا ضخما. فقد منعت التطرف السياسي من الحصول على موطئ قدم في بلادها.

وأي شخص يعتقد أن هذا خطر وهمي فعليه أن ينظر إلى الدول المجاورة لألمانيا. ففي فرنسا صوت ثلث الناخبين في الآونة الأخيرة لمرشح من أقصى اليمين، أو أقصى اليسار للرئاسة.

وفي هولندا وهي مثل ألمانيا، دولة دائنة سئمت من إنقاذ أوروبا الجنوبية يحتل مرشحو أقصى اليمين وأقصى اليسار المراتب الأولى والثانية في استطلاعات الرأي. وفي النمسا، بلغت نسبة التأييد لأقصى اليمين نحو 30 في المائة.

ولدى ألمانيا كل الظروف التي قد تؤدي إلى رد فعل مماثل. فلدى الناخبين في الدولة أسباب وجيهة للشعور بأنه تم تضليلهم بشأن اليورو. فقد وعدوا سابقا بأن العملة الموحدة تتضمن فقرة تنص على عدم الإنقاذ ستمنع دافعي الضرائب الألمان من دعم دول أخرى في منطقة اليورو.

لكن كان على ألمانيا بالفعل قبول المسؤوليات المالية المحتملة البالغة 280 مليار يورو لتمويل عدة عمليات إنقاذ لأوروبا، وستكون هناك مطالب أخرى في المستقبل. وتمويل مساهمة ألمانيا الرأسمالية في آلية الاستقرار الأوروبي ستزيد عجز الميزانية للدولة هذا العام من 26 مليار يورو إلى 35 مليار يورو.

لكن على الرغم من الأعباء والمخاطر التي تحملتها ألمانيا بالفعل، تجد حكومة البلاد نفسها معرضة للإساءة لعدم بذل مزيد من الجهود. إن عزل برلين وتوجيه اللوم لها، وفي الوقت نفسه محاولة إجبار الدولة على ضمان المالية في كامل منطقة اليورو، مسار خطر سياسيا. وارتقاء القوميين من أقصى اليمين في اليونان أو هولندا أمر مؤسف للغاية. لكن ارتقاء اليمين المتطرف في ألمانيا سيكون كارثة.


[email protected] <!--EndFragment-->

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 40 مشاهدة
نشرت فى 20 يونيو 2012 بواسطة mhmadshoo

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

261,408