محمد شو

العالم بين يديك

مفتاح بو عجاج:

احتفظ معمر بومنيار ونظامه الأمني "نظام عصابة الخيمة" بليبيا كيانا جغرافيا واحدا.. رغم أن هذا لم يكن من أهدافه على المستوى البعيد.. احتفظ بها كرهينة تحت تصرّفه لاستغلال ثرواتها من أجل تطلعاته المريضة.. رغم أن كل سياساته كانت لتجعل من ليبيا بحيرة الملح الجافة ولو كانت الأمور كاملة بيديه لنفذ تهديده بأن على الليبيين أن يرحلوا إلى أفريقيا لأن أوروبا صقع عليهم "إلا أنها ليست صقعا على أبنائه ورفاقه".. وسبق الله وعيده بأن قامت ثورة 17 فبراير التي كان يظنها بعيدة.. وإذا بها قريبة وتجعل منه هو الذي يرحل إلى اللامكان بعد أن لاذ بأنبوب ظل يمر عليه وفوقه خلال 42 عاما لا ينظر إلا إلى الأعلى كأنه طاووس.

ثورة 17 فبراير محطة رئيسية من محطات تاريخ ليبيا، مثلها مثل استقلال ليبيا في 24 ديسمبر 1951 وإلغاء الفيدرالية وإعلان ليبيا دولة موحدة عام 1963، ولا ننسى الجانب السيئ في انقلاب عام 1969... كلها محطات سيكون لها الأثر الكبير والتاريخي في تاريخ واستقلال بلادنا وإعادة تأسيسها من جديد... من يتجاوز هذه المحطات فهو يقفز على التاريخ والمنطق والأصول والحقيقة.

محطة ثورة 17 فبراير هي محصلة رئيسية جمعت فيها الأبعاد التاريخية لما قبلها وزادت عليها.. وإن لم نع ذلك فإننا كمن يفرّغ الثورة من محتواها ونتائجها وأهدافها.. مرّت ليبيا بمراحل متعددة.. ففي المرحلة الأولى تحقق الاستقلال بعد كفاح بطولي قادته قبائل ليبيا ومناطقها المتعددة كل حسب ظروفه وإمكانياته.. مرحلة ما بعد الاستقلال نشأت دولة ليبيا كأول دولة يتم الاعتراف بها عن طريق الأمم المتحدة وكان أجدادنا المؤسسون على حس وطني كبير صاغوه في دستور وطني ديمقراطى هو دستور عام 1951 والذي سبق إعلان الاستقلال.

كان ذلك الدستور سابقا لعصره لاحتائه على أسس الديمقراطية الحديثة ولا يزال.. وكانت من ضمن بذوره التي نمت مع الزمن هو تأسيس دولة جغرافيه وسياسية واحدة بعد أن كانت أقاليم متعددة نتيجة للواقع الاستعماري والقبلي على الأرض..

عندما شعر المؤسسون بتكامل الحس والانتماء الوطني تم الإعلان عن ليبيا دولة واحدة عام 1963... كان كمن يصنع وطنا من لا شيء وبحكمة وتأنّ وسلاسة.. إلا أن البيئة المحيطة بتلك السفينة الهادئة كانت تموج بشعارات وإيديولوجيات تغلغلت إلى الداخل لأسباب عدة منها غلبة العاطفة والتهيج على العقل والمعقول ومنها أيضا عدم تكامل نضج وبناء المؤسسات المدنية على حساب الواقع القبلي والمناطقى فوقعت ليبيا ضحية اختطاف وهي في نصف الطريق نحو الحضارة والتمدن والمدنية والتنمية مثلها مثل جاراتها "شبهها المرحوم المناضل عبد الحميد البكوش كالوردة التي ما أن بدأت تتفتح حتى قطفها أحد المجانين إلا أنه لم يقطف جذورها ".. وتم احتجازها في مكان ارتفعت فيه الشعارات والأيديولوجيات على حساب التنمية والبناء والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي..

نبّه الكثير من الوطنيين إلى ذلك إلا أن العاطفة الهوجاء كانت أكبر من أن يقف أمامها أحد.. فتواصلت مسيرة الانقلاب وبدأت أغراضه وأهدافه وسلبياته تظهر شيئا فشيئا إلى أن عم الظلم كل الناس بعد أن بدأ بظلمهم أفرادا ثم جماعات ثم فئات ثم مؤسسات وكانت هذه السياسة هي التي غيبت العقل والحس الجماعي لليبيين بمدى الظلم الذي وقع عليهم وعلى وطنهم في غفلة العقل إلا ما رحم ربى...

وصل الحس والإحساس بالظلم إلى العقل الجماعي لليبيين رغم تأخره كثيرا، فتكونت الكتلة الحرجة التي سببت الانفجار في 17 فبراير 2011.. إنه العقل الجماعي الذي تكون خلال الزمن والظلم والذي جعل الليبيين جميعا يلتفون على علم ونشيد واحد ويرفعون شعارات العقل في الحرية والديمقراطية بل اتفقوا تلقائيا على عاصمتهم وعلى أنه لا شرقية ولا غربية ليبيا وحدة وطنية. 

في عرف القبائل الليبية يكون أعضاء وأفراد القبيلة متماسكين يدافعون عن بعضهم بعضا تحت شعار عمارا دم "أي أن دمهم واحد رجوعا إلى أن معركتهم ودماءهم مشتركة"... ألم يحدث هذا بالضبط في معارك ثورة 17 فبراير.. لقد تمنى الليبيون أن تتحقق مطالبهم فى الحرية والديمقراطية سلميا الا أن الطاغية أرادها دموية ولعلها حكمة إلهية في أن الله أراد أن يختلط دم الليبيين.. فيكونوا قبيلة واحدة اسمها ليبيا.

محطة 17 فبراير محطة مفصليه يجب أن نبدأ من عندها وليس مما قبلها.. كثيرون سامحهم الله قفزوا على التاريخ وعلى الثورة وعلى الدم وعادوا بنا مكانيا وليس ثقافيا إلى عام 1951 حيث لم تتواجد ليبيا الموحدة بعد.. ومن هنا بدأت ثقافة التقسيم على فكرة باطلة من الأساس.. تفرعت عن تلك الفكرة مطالبات كثيرة فتمسك بعض الليبيين بالفروع التي نشأت عن هذه الفكرة وتناسوا أن الأصل باطل..

من سمح بعودة فكرة الستين ورسّخها فى أذهان البعض على أساس أن ليبيا ثلاث مناطق قد يسمح بانقسام ليبيا إلى أكثر من ذلك، فعام 2011 ليس عام 1951، وليبيا عام 1951 ليست ليبيا اليوم.. ومن يتمسك بذلك لن تكون له أية حجة في منع انقسام ليبيا طائفيا أو مناطقيا واقتصاديا وحتى قبائليا... وهذا يتعارض تماما مع أهداف وتضحيات الثورة.. كيف ستقسم برقة عشرينها؟ هل تكون بالتوافق؟ وكيف سيتم ذلك التوافق.. الأقرب أنه سيكون توافقا قبائليا.. أم بتعداد السكان؟.. عندها سيتم الاعتراض من البعض.. وعندها سيكون اعتراضنا في داخل الإقليم على نفس ما وافقنا وطالبنا به في الأساس على عدم الاعتداد بنسبة السكان.. وهذان الأمران أحلاهما مر.

ما أطلق عليه المجلس الانتقالي المؤقت "المؤتمر التأسيسي" لم يكن أفضل الأفكار للوصول إلى دولة الدستور والقانون.. إلا أنه الواقع الذي بديله فراغ سياسي خطير، ولهذا رضينا به.. ولن نرضى إلا بصياغة دستور وطني ديمقراطى لا يقل ديمقراطية ووطنية عن دستور 1951.. ويكون برلمانه غرفتين واحدة لمجلس النواب بعدد السكان والأخرى لمجلس شيوخ على أساس أعضاء متساوين لكل محافظة أو إقليم.. وسينص في الدستور على أساس أن النظام الاداري هو نظام اللامركزية الإدارية.. هكذا مثل ما هو منصوص عليه فى دستور دولة فرنسا...

قانون الحكم المحلي سينص على أساس أن تكون السلطات المحلية تابعة للمحافظ والمحافظون سيكونون داخل دائرة مجلس الوزراء وليس في حدود دائرة وزارة الحكم المحلي، وهذا ما نصت عليه مطالبات مؤسسات المجتمع المدني واللقاءات الوطنية في مختلف مناطق ليبيا والتي ستكون بإذن الله هي الرؤية والهيكل الذي سننسج عليه دستورنا القادم.. النظام الفيدرالي كنظام حكم سياسي في بعض الدول لا يصلح لليبيا فى الظروف الحالية لانه كما سبق وان ذكرت فإنه سيقود ليبيا والأقاليم والولايات الى ثقافة التقسيم لظروفنا الثقافية والاجتماعية وما خلّفه الطاغية من فتن، وأكاد أرى وطنا مقطّع الأوصال ويزيد انقساما لو طبق هذا النظام السياسي...

مطالب الفيدراليين أصحاب النوايا الطيبة تتحقق من خلال نظام اللامركزية الإدارية إضافة إلى كوننا سنحتفظ بوطن قوي ذي حكومة مركزية قوية وخاصة وأنه تتهددنا أخطار أمن قومي كثيرة... وإصلاح الاقتصاد وتبني الاقتصاد الحر كفيل بتوزيع الثروات توزيعا عادلا ومنطقيا فلن تكون هناك مشاركة او مواطنة حقيقية إلا بأن تكون الثروة تصب في الاقتصاد وليس.. فى يد السلطة.. فنحن وأصحاب النوايا الطيبة قد نلتقي في المطالب والأهداف ولكننا قد نختلف في الوسائل وطريقة الوصول إليها.. علاوة على أن تطبيق النظام الفيدرالي السياسي لا يمكن تطبيقه أو المطالبة به من جهة واحدة من الوطن.. فهو لن يكون وطنيا أو صالحا إلا باتفاق كل المناطق.. وإلا فإننا قد نخطو الخطوة الأولى نحو التقسيم من البداية..

فالفيدرالية اتحاد والاتحاد لا يتم إلا بوجود أطراف متراضية تريد الاتحاد، وأين هي تلك الأطراف؟ ومن يحدد من يريد ماذا؟.. الثورة انتصرت وفعلا المنتصر هو من يحدد الأهداف والوسائل وخاصة أنها ثورة شعب بكامله.. وحددت أهدافها في الديمقراطية والحرية ودولة العدالة والمواطنة والدستور والاتحاد، تلك الأهداف التي بالإمكان تحقيقها بوسائل غير الفيدرالية توصلت إليها آليات الديمقراطية في العصر الحديث.. هذا إن لم يكن للبعض أهداف أخرى لا نعلمها بعيدا عن أهداف الثورة المجيدة.

أصبحنا اليوم بفضل الثورة "عمارا دم"... فهل سنصبح بفضلها أيضا "عمارا فكر وتنوير ورؤية واتحاد"؟. <!--EndFragment-->

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 54 مشاهدة
نشرت فى 19 يونيو 2012 بواسطة mhmadshoo

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

276,755