جمال محمد تقي
يبدو أن الأمريكان من أشد المستعمرين فقرا في التعاطي مع أعدائهم من حملة الرؤوس المعممة والتي لا تحسب الذين يقتلون في سبيل الله أمواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون، فتجاربهم المتواصلة مع ملالي إيران واحدة من علامات الفشل الفارقة في هذا التعاطي، حيث لم يتعضوا منها حتى الآن، برغم من المواجهات الكثيرة والتي ابتدأت بقضية الرهائن ثم مرت بفضيحة إيران غيت، حتى وصلت الأمور بينهما إلى ما هو عليه الحال "دولة مارقة تشكل تهديدا نوعيا على المصالح الحيوية لأمريكا وإسرائيل في عموم الشرق الأوسط الكبير من باكستان وحتى تخوم الإسبان" ومما يبرهن على قلة حيلة الأمريكان بالتعاطي مع ملالي إيران، خيبة أجندتهم في العراق مقابل انتعاش للأجندة الإيرانية فيه!
أما عن الفشل الأمريكي في التعاطي مع ملالي أفغانستان فحدث ولا حرج، لأن الأمريكان الذين ما زالوا يخشون من تداعيات المواجهة الشاملة والمؤجلة مع دولة الفقية، قد فشلوا ميدانيا في هكذا نوع من المواجهات مع دولة طالبان الشبحية، ومع أمير مؤمنيها الملا عمر!
ليس للملا عمر موقع الكتروني وليست له صفحة أو صورة على الفيس بوك، بل كما يبدو ليست له صورة أصلا، وليس له عنوان، وليس لحركته مكاتب وإذاعة أو صحيفة، وليست له خطب جمعة يتناقلها الناس عبر الكاسيتات كما كان يفعل أتباع الإمام الخميني، وبطبيعة الحال ليست له حوزة أو تكية، صامتة كانت أو ناطقة، وليست له سفارات أو وكلاء يتوزعون على البلدان..
ومن نافلة القول إن لا حسابات سرية أو علنية له، وليس له "بودي كارد" أو مدير أعمال أو قصر رئاسي أو طائرة خاصة.. لكن للملا عمر بصمة ميدانية يصعب تقليدها أو تزويرها أو تعطيل مفعولها الذي يفتك، ومن دون أن يترك أثرا يقتفى، بجحافل وترتيبات واستراتيجيات وتكتيكات الدولة الأعظم في العالم، التي تحير وتستخير وتستجير متوسلة حتى بصغار أمراء الحرب والخشخاش، ليدلوها على طريق ما يوصلهم إلى الملا وبشروطه هو، ليس لمقاتلته وإنما للتفاهم معه على خروج مشرف لهم، يضمن ماء الوجه وحسن المعاملة في أحسن الأحوال!
بصمة الملا عمر لا تقدر بثمن عند مخابرات أوباما وكل مخابرات الدول المتورطة في المستنقع الأفغاني، بصمة لا تجد من لا يحترمها حتى في قصر كرزاي نفسه، الذي يشهد بين الفينة والأخرى حضورا لافتا لها، فهي من أدخل الرعب إلى غرف نوم أقرب المقربين للأمريكان في حكومة كابل، ناهيك عن الرعب الذي يعيشه جنود الناتو ومن حالفهم برغم أنهم جميعا محصنون بمعسكراتهم ولا يخرجون منها إلا لنقل المدد.
ويبدو أن تركيز القوات المحتلة على الضربات الجوية العشوائية أصبح وسيلتها الوحيدة لإثبات أنها ما زالت تقاتل طالبان برغم معرفتها المسبقة بأن القتل العشوائي لا ينال إلا من المدنيين، وهذه الغارات الجوية تساهم وبشكل تلقائي بزيادة قوة طالبان ونفوذها وبسرعة فائقة، فكل أبناء أفغانستان هم أعداء للمحتلين القتلة، وهم بالتالي حاضنة طبيعية لمن يسقي المحتلين الموت!
يئس الأمريكان من إمكانية تحقيق أي تقدم في حربهم على طالبان، وفشلت كل محاولاتهم لاحتوائها برغم التركيز العسكري الذي اتبعه أوباما، حيث زيادة في أعداد المقاتلين الأمريكان وزيادة في حجم المخصصات، وهذا اليأس هو الدافع الأول الذي جعل أوباما يعلن عام 2014 موعدا نهائيا لانسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، وهناك من يفسر تحديد موعد الانسحاب بأنه جاء تماهيا مع رغبات طالبان، وهو تطمين مسبق لها كي توافق على التفاوض لا غير، وذلك لأن طالبان كانت ترفض أي تفاوض من دون الشروع الفوري بالانسحاب إضافة إلى رفضها التفاوض مع كرزاي باعتباره وكيلا للأمريكان وهم لا يتفاوضون إلا مع أصحاب الشأن الذين لا بد أن يأخذوا معهم كرزاي عند انسحابهم!
هناك اتصالات مع بعض العناصر المحسوبة على طالبان، كعبد السلام ضعيف ممثل طالبان السابق في أفغانستان وآرسالا رحماني وزير التعليم في حكومتها السابقة، لكن هذه الاتصالات لم ترقَ بعد للمستوى الرسمي، أي أنها ما زالت اتصالات غير مباشرة، الأمريكان يقدمون عروضا بافتتاح مكتب دبلوماسي للحركة في قطر، لانتظام سير الاتصالات ومن ثم المفاوضات المباشرة، لكن الموقف الرسمي لطالبان ما زال يصر على الشروط الأولى والتي تجمل بانسحاب القوات الأجنبية أولا، ومن ثم عقد مؤتمر وطني لإدارة البلاد يكون بقيادة القوى التي ناهضت الاحتلال، مما يعني عدم الاعتراف بحكومة كرزاي وكل ما ترتب على وجودها.
لقد اعترف كرزاي بنفسه وفي إحدى مقابلاته المتلفزة بأن الأمريكان قد عرضوا على طالبان منحهم مناطق ذات أغلبية بشتونية لتدار من قبلهم وترك المناطق الأفغانية الأخرى لحكم كرزاي وحكومته حيث يؤسس لدولة شبه فدرالية يحكم نصفها طالبان والآخر كرزاي، وقال كرزاي بأن هذه العروض تقدم من دون استشارته، لكن طالبان ما زالت ترفض أي تنصل عن شروطها لإيقاف القتال والتي تتلخص بانسحاب غير مشروط للقوات الأجنبية من كل أفغانستان، ومن المؤكد هنا أن كرزاي يشعر بالحرج وقلة الحيلة وقرب يوم رحيله إلى موطنه البديل أمريكا!
طالبان ليست بحاجة لمفاوضات مكوكية تعطي من خلالها انطباعا بأنها قابلة للمساومة على قضيتها، وهي التي قطعت ثلاثة أرباع الشوط نحو نصر لا مناص منه، أو تضيع من خلالها الوقت، ليكسبه الأمريكان أنفسهم، التفاوض وفقط من أجل الاتفاق على ترتيبات الانسحاب أمر ضروري، ويمكن أن يكون مدخلا لخروج الأمريكان بخسائر أقل، لكن المفاوضات بحد ذاتها ليست هدفا، وعليه يمكن أن يخوضها الملا عمر ببصمته من دون أن يكون شريكا مباشرا فيها.
بصمة الملا عمر تراها منحوتة في كل تسفيه يصدر عن طالبان بأي عرض أمريكي لا يأخذ شروطها بترك البلاد لأهلها ومن دون وصاية من أحد على محمل الجد، لقد شكلت هذه البصمة والتي تعني ما تقول كاريزما غير مرئية، كاريزما غير مألوفة، كاريزما ليست لها علاقة بتقاطيع وملامح الوجه والجسد أو ما يرسمه تناسقها مع خصائص وخصوصيات الصوت والصورة، عامل قوة إضافية لصولات طالبان في حلبة النزال غير المقيد الدائر منذ 2001 وحتى الآن ضد الاحتلال الأمريكي ومن معه، والذي جاء تحت راية، عملية الحرية المستديمة، والتي مر عليها أكثر من عقد دون أن تؤدي إلا إلى قتل وتشريد وتعويق الملايين من أبناء هذه البلاد العصية!
صحيح، هناك جوانب من الاختلاف بين الحالتين الإيرانية والأفغانية، على اعتبار أن ملالي إيران يحكمون دولة لها ثقل ولها طاقات ولها طموحات تماحك المصالح العليا لأمريكا في المنطقة، وأن لإيران أذرعا فاعلة إذا ما قدر لها النمو فإنها ستقض مضاجع القواعد الأمريكية في الشرق الأوسط، ولكن الصحيح أيضا أن نجاح ملالي أفغانستان في استرداد دولتهم في بلاد لا تملك إلا كونها قادرة على قطع الطريق على تمدد النفوذ الأمريكي باتجاه التخوم الروسية والصينية، بلاد ربما يحلم الأمريكان بجعلها رأس رمح أصولي لزعزعة أمن دول معاهدة شنغهاي، من خلال تصديرها "الجهاد الإسلامي" إلى مسلمي الصين وروسيا.. سيكون خسارة جيواستراتيجية لأمريكا، توازي ما ستخسره إن نجحت إيران في الخروج الآمن من المواجهة الشاملة والمحتمل نشوبها وبأدوات نوعية مع أمريكا وإسرائيل ومن معهما من العرب!
قد ينجح الأمريكان ومن يدور بفلكهم في إلحاق الضرر البليغ بطالبان ودولة ملالي إيران، لكنهم لن ينجحوا في اجتثاث جذورهم التي ستتغذى تلقائيا على كره ومقاومة العسف الاستعماري الأمريكي؛ ربما تتمكن أمريكا من إضعاف ملالي طالبان وإيران لكنها لن تقدر ومهما ملكت أيمانها على ترويضهم واستخدامهم كأدوات جديدة في حروبها الكونية. <!--EndFragment-->
نشرت فى 19 يونيو 2012
بواسطة mhmadshoo
عدد زيارات الموقع
276,755
ساحة النقاش