محمد شو

العالم بين يديك

سمير العركي

بعد مرور أكثر من عام ونصف على ثورات الربيع العربي وضَح جليًّا أنَّ جميع المحاولات التى بُذِلت من أجل إحداث التوافق بين التيارين؛ الإسلامي والعلماني لم يُحالِفها التوفيق حتَّى الآن وربَّما لفترةٍ أخرَى مقبلة.

فطول أمد الدول السلطوية أدَّى إلى نشوء طبقة من السياسيين والمثقفين ارتبطت برباط وثيق مع هذه الأنظمة، ولم تَعُد مستعدة لقبول الآخر على أرضية التنافُس السياسي المشروع والعراك الفكري المطلوب، خاصةً مع سعيها الدؤوب لفرض منظومة فكرية وعقدية مغايرة للعمق العقدي للشعوب الإسلامية؛ وقد تكفّلت الأنظمة السلطوية التي تأسَّست في منتصف القرن الماضي تحت رعاية العسكر بمهمة تغييب الإسلاميين عن الساحة، إمَّا بالتصفية الجسدية المباشرة أو السجن لمددٍ طويلةٍ، ورغم كل هذا فقد فشلت النُّخب العلمانية في جلب السيادة لمنظومتها، وظلَّت الشعوب الإسلامية والعربية فى أكثريتها الساحقة منحازة إلى شريعتها وكتابها الخالد.

وجاءت ثورات الربيع العربي لتضع المعسكر العلماني أمام أشدِّ الاختبارات قسوةً فى مسيرته؛ إذ وجد نفسه فجأة مطالبًا بمواجهة الجماهير في الشوارع والطرقات لا من "عَلٍ" والنزول إليها طمعًا في أصواتها بعد أن عاش ردحًا من الزمان نائيًا عنهم وعن مشاكلهم، كما أنَّه وجد نفسه في مواجهةٍ شرسةٍ وحقيقية مع غَرِيمه التقليدي؛ التيار الإسلامي.

ومع تيقُّن التيار العلماني هزيمته إذا ما احتَكَمت الشعوب إلى صناديق الانتخابات بنزاهة وشفافية كان لا بدَّ من اللجوء إلى خطةٍ بديلةٍ لتشويه التيار الإسلامي وجرِّه إلى مستنقع الصدام والعنف متى أمكن ذلك، وهي الخطة التي بدأت في مصر وتونس في آنٍ واحدٍ، واختار منفذوها اصطياد التيار السلفي على أساس أنه يمثِّل في نظرهم وافدًا جديدًا على دنيا السياسة وليست لديه دراية كافية بالسياسة وألاعيبها الملتوية، على عكس تيار الإخوان المسلمين الذي اكتسب مزيدًا من الخبرة عبر مشاركاته في الحياة السياسية خلال العقود الماضية.

وإذا كان التيار العلماني قد اختار في مصر نشر الأكاذيب والأخبار المغلوطة كحادثة قطع الأذن وحرق الأضرحة والكنائس والاعتداء على النساء السافرات.. إلخ، وهي الاتهامات التي ثبت كذبها بعد ذلك. فإنَّ نظيره التونسي اختار التصعيد مستغلًّا الأجواء التي خلفتها فترتَا حكم بورقيبة وزين العابدين بن علي وجعلت من السهل التطاول على الإسلام ومقدساته وعدم الوقوف عند الخطوط الحمراء التي نراها في مصر على سبيل المثال.

ومن هنا كان إقدام قناة "نسمة تي في" الفضائية التونسية على سبِّ الله تعالى قبل أشهر قليلة مما أثار موجةً من الغضب في أرجاء تونس رغم محاولة مالكها نبيل القروي التقدُّم باعتذارٍ، إلا أنَّ ذلك لم يَحُل دونَ قيام بعض المتظاهرين الغاضبين بإحراق منزله.

هذه الاستراتيجية التي تَبَنَّتها النخب العلمانية يشرحها عمار عبيدي بشكل أكثر تفصيلاً بقوله: "لعلَّ سيل التهم والإشاعات الذي يلاحق التيار لا يحصى ولا يُعَد، ولعلَّ أبرزه تهمة إهانة علم تونس عندما أقدم شابٌّ بصفة فردية بوضع علم الخلافة فوق علم تونس، والحال أنّ العلم دنّس ألف مرّة من طرف الذين طلبوا تدخُّل فرنسا في بلدهم لأنَّ النهضة فازت، ومن الذين فرّوا إلى الجزائر وتنكّروا لتونس بسبب بطونهم، ومن الذين رفعوا علم الاستقلال الرديف من ولاية قفصة عن الجمهورية التونسية، ومن الذين زاروا السفارات الأوروبية في تونس ليسقطوا الحكومة فأسقطتهم المخابرات التركية متلبسين في هذه السفارات، لكنَّ الجميع تذكر "الوطنية" على حين غرّة عندما تعلّق الأمر بالطرف الأضعف إعلاميًّا ألا وهو الطرف السلفي.. عندها تذكّر الجميع الوطنية، وعزفوا على وتر التهديد السلفي!!.

في الحقيقة هذه الاستراتيجية التي انتهجها الطرف العلمانِي في تونس، أملاً في ضرب "عصفورين بحجر واحد"؛ أوّلهما: الوقيعة بين السلطة الإسلامية الممثلة في حركة النهضة والسلفيين، وبالتالي سجنهم فرادَى وجماعات كما فعل ابن علي، وثانيهما: نزع تلك الصورة عن حركة النهضة التي ارتبطت بالإسلام في أوساط العامة لتخسر هذه الحركة أهمَّ سبب جعلها تكسب الانتخابات وهو صورة الحزب الذي يمثّل الإسلام".

وفي ضوء هذه الخطة يمكننا تفهُّم مَغْزَى المعرض الفني الذي أقيم في تونس ونشرت فيه لوحات تحمل إساءة بالغة للمسلمين وعقائدهم مما أدَّى إلى وقوع اشتباكات بين الشرطة التونسية ومئات من السلفيين، حيث قام المحتجُّون بإغلاق الشوارع وإشعال النيران في إطارات سيارات في منطقتَي التضامن وسيدي حسين في العاصمة، وقاموا برشق قوات الأمن بقنابل المولوتوف بعد محاولتها تفريقهم بإطلاق الغاز المسيل للدموع والرصاص في الهواء.

مما حدَا بالحكومة التونسية إلى فرض حظر التجوال في عددٍ من المحافظات، وإعلان وزارة الداخلية التونسية "التي يرأسها أحد أعضاء حزب النهضة" اتخاذ تدابير أكثر صرامة في مواجهة هذه التهديدات الأمنية. مما قد ينذر بوقوع صدامات كبيرة بين الفصيلين الإسلاميين الكبيرين، مما قد يؤدى إلى تقويض المشروع الإسلامى لصالح الأطروحات العلمانية.

حلول عاجلة لاجتياز الأزمة

ما يحدث للتيار السلفي في تونس يتطلب اتخاذ المزيد من التدابير، ليس من جانب التيار السلفي وحده ولكن من جانب حركة النهضة أيضًا عبر الإجراءات التالية:

1 - قيام الحكومة التونسية التي تسيطر عليها حركة النهضة باتخاذ التدابير القانونية اللازمة تجاه المسيئين لعقيدة المسلمين والمتجرئين على الذات الإلهية، ولا ينبغي التردُّد في هذه الخطوة عبر التذرُّع بالخوف من تشويه صورة الحركة عبر اتهامها بالعدوان على حرية التعبير والإبداع؛ إذ إنَّ تردُّد الحكومة التونسية في اتخاذ هذه الخطوة يفضّ بالضرورة إلى ملء هذا الفراغ في صورة أعمال عنيفة وصدامات دامية.

2 - ضرورة ضبط الحالة السلفية التي تتميّز بالسيولة الشديدة وتتجلّى أبرز مظاهرها في غياب القيادة الحازمة التي يجتمع عليها الشباب السلفي وتتمكن من ضبط بوصلة الأداء، وإذا كان "لا يوجد جدل بين السلفيين، كما في خارج التيّار، لدَى الأوساط المطّلعة على أنّ الشيخ الخطيب الإدريسي قيمة علمية ثابتة، لكن الرجل لأسبابٍ عديدةٍ لا يستطيع أن يكون قيادة للتيّار السلفي، بل من المرجّح أن يبقى ذلك المرجع العلمي"، وما زالت القيادة السياسية للتيار حائرة وإن كانت هناك محاولات حثيثة للدفع بأبي عياض التونسي لتولي هذه المهمة السياسية، والذي ينظر إليه كثير من المراقبين على أنَّه تمكّن من تطوير الخطاب السياسي للحركة. ولكن كما يقول عمار عبيدي: "قد يكون الحديث عن أبِي عياض لقيادة التيار السلفي واردًا بالنظر إلى وضوح الأفكار والرؤيا لديه، لكن "المخيف" ليست القيادة بل أفراد التيار وعدم الانصياع إلى توجيهات القيادة التي تتصرف برصانة أكبر وحرفية سياسية استطاعت سكب الماء على ما أشعله الإعلام من نار في مناسبات كثيرة".

3 - ضرورة البدء في حوار فعَّال ومثمر بين حركة النهضة والتيار السلفي من أجل الوصول إلى صيغ للعمل المشترك إزاء هذه التحرشات الواضحة من التيار العلماني المتطرف حتى تتمكن الحركة الإسلامية بصفة عامة في تونس من اجتياز هذه المطبات والعثرات، ولا يتمّ الزجّ بالشباب السلفي في أتون صدامات موجهة لحرق التيار في الشارع التونسي.. ولعل الخبرة النهضوية المتراكمة تتمكن من ضبط حالة الحماسة والفوران داخل التيار السلفي بدلاً من ترك الشباب هائجًا في الطرقات يحرق ويدمر بدون تفكير ولا تدبر.

إن ما يجب أن يعلمه التيار السلفي في تونس اليوم أن استدراجه نحو مستنقع العنف لا يعني سوَى استدراجه صوب الهاوية من أجل التخلص منه والالتفات بعد ذلك لحركة النهضة لتصفيتها لصالح المشروع العلماني المتحالف مع الدوائر الغربية والصهيونية.

فهل يعي سلفيو تونس متطلبات المرحلة وحجم المؤامرة قبل أن يجرفهم التيار إلى طريق اللاعودة؟!. <!--EndFragment-->

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 64 مشاهدة
نشرت فى 18 يونيو 2012 بواسطة mhmadshoo

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

276,748