عبد اللطيف مهنا
"لا تؤكد الكنيسة الكاثوليكية فقط من جديد اعترافها بسيادة الشعب اليهودي في وطنه التاريخي، بل سجَّلت أيضاً مؤسساتها تحت الصلاحية القانونية الإسرائيلية، ومنها مؤسسات في شرقي القدس"...
هذه الشهادة تأتي من صهيوني بوزن الحاخام الأمريكي ديفيد روزان، الناشط في مجال إنشاء وتطوير العلاقات الدبلوماسية الصهيونية الدولية، والمدير الدولي لقسم الشؤون الدولية في اللجنة الأمريكية اليهودية. المناسبة كانت تعليقه على ما عده الإنجاز الكبير الذي تحقق لإسرائيل، والذي يعكسه مدى ما توصلت إليه المفاوضات المتدرجة بينها وبين الفاتيكان، التي استمرت منذ ثلاثة عشر عاماً ولا تزال جاريةً بهدف حل الخلافات المتعلقة بوضع الكنيسة الكاثوليكية وأملاكها القائمة وتلك المصادرة بطائلة ما يسمى "قانون أملاك الغائبين" التهويدي المطبَّق في فلسطين المحتلة فيما تلى النكبة، وكان قد مهَّد لها ما سبقها من الاعتراف المتبادل بينهما في العام 1993، واليوم تنقل صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية ما ينبئ بقرب توقيع اتفاق بين الطرفين قد ينهيها.
هذه المفاوضات كان قد تقرر لها بدايةً أن تنجز في مدى لا يتجاوز أحد عشر عاماً، لكن الإسرائيليين خاضوها بانتهاج ذات الطريقة التي اتبعوها مع الفريق الأوسلوي الفلسطيني، أي ذاك الأسلوب القائم على المماطلة وتحويل قضايا الخلاف الى لجان بغية تأجيلها ومن ثم دفنها، ودائماً بما ينسجم مع تواصل محاولات انتزاع ما هو في مصلحتهم وحدهم سلفاً... ما الذي لم ينجز، أو لم يتم التوافق بشأنه بعد؟
وفق ما تنقله "هآرتس"، بقيت عقدة واحدة يجري الآن تذليلها وتتحدث عن "تقدم" بشأن حلها، وهى" توضيح جميع القضايا القانونية والمالية المتعلقة بمكانة الكنيسة الكاثوليكية ومؤسساتها" في فلسطين المحتلة" لا أكثر... وما الذي يعنيه هذا؟
إنه يعني أن هذه المفاوضات لا علاقة لها من قريبٍ أو بعيدٍ بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني عموماً ولا المسيحيين منه خصوصاً، بل إن فحوى الاتفاق الذي ستسفر عنه، والذي وفق المصادر الإسرائيلية، قد بات قاب قوسين أو أدنى من الإبرام، هو أن "إسرائيل"، وخلافاً للقانون الدولي، لم تعد بالنسبة للفاتيكان قوة محتلة، وفيه اعتراف ضمني منه بضم القدس وتهويدها وسريان قانون المحتلين على باقي الضفة الغربية بكاملها، ولعل هذا هو جل ما تريده "إسرائيل" منها ومبعث ابتهاج الحاخام ديفيد روزان وافتخاره بما أنجزته الدبلوماسية الصهيونية الدولية!
العلاقة الفاتيكانية الإسرائيلية وصلت إلى ما وصلت إليه كتدرُّجٍ منطقيٍ بدأ بما عرف بتبرئة اليهود من دم السيد المسيح، مروراً باعتذار البابا عما ارتكبه الصليبيون بحقهم وحجبه إزاء ما فعلوه بالمسيحيين الأرثوذكس ورفض إبدائه بالنسبة لما اقترفوه من فظائع ضد المسلمين، رغم أنه، وللإنصاف، لا بد لنا من أن نشير إلى أن الكنيسة الكاثوليكية كانت قبل اعترافها بالكيان الصهيوني وما تبعه قد تميَّزت عن سواها من الكنائس الغربية، ولو نسبياً، في مواقفها من القضية الفلسطينية.
هذه الكنائس التي هي في أغلبها إن لم تسهم في محاولات تحييد وإخراج الكنائس الفلسطينية التابعة لها كمؤسساتٍ من الصراع منذ بدايته، فقد شجَّعت ضمناً أو سهَّلت هجرة المسيحيين الفلسطينيين من بلادهم أو ساعدت على توطينهم في المنافي البعيدة.
وإذا كان هذا بالنسبة لمواقف الغرب، وهى المعادية إجمالاً للعرب والمنحازة كلياً لصهاينته، يعد متوقعاً ومنطقياً، فإنه، ومن الأسفٍ، له أثره فيما نشهده اليوم من واقعٍ كارثيٍ ينذر بتفريغ فلسطين من مسيحييها، أو ما يشتكي ويحذر منه اليوم الفلسطينيون المسيحيون قبل سواهم، إذ تضاءل وجود هؤلاء في وطنهم وديارهم المقدسة من نسبة ما يقارب الـ12 بالمئة في المائة عشية النكبة الى ما قل الآن عن الـ2 بالمئة، الأمر الذي لا يصب إلا في صالح الاستراتيجية التهويدية الصهيونية الاستعمارية الإحلالية، هذه التي، برعاية الغرب، يجهد أمثال الحاخام روزان للإسهام في تنفيذ ما لم ينفَّذ بعد من استهدافاتها.
وهنا لا بد أن نشير إلى أن ما تبدى من بعض التحفظات الغربية الرسمية المنافقة حول ما تتجه إليه المفاوضات الفاتيكانية الإسرائيلية، ومنها موقف فرنسا، التي تخلع على نفسها صفة "حامية الأراضي المقدسة"، هي مجرد اعتراضاتٍ تتعلق بتفاصيلٍ ترى فيها كنائس هذه البلدان ما يتعارض مع مصالحها الكنسية.
قبل سيادة المنطق التسووي التصفوي العربي، وإبان مرحلة المد النضالي الفلسطيني، كانت البلدان التي تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية أكثر من تلك التي تعترف بالكيان الصهيوني، وبعده، وبعد الجنوح الأوسلوي المدمِّر الذي انتهجته القيادة الفلسطينية المنحرفة، برعايةٍ وتبريكٍ من قبل الانهزامية العربية ووافر العناية الغربية، وتحويلها المنظمة، بعد شلها والعبث بميثاقها، من أداة تحرير إلى مشجب تنازلات وممسحة تفريط ووسيلة تمرير، تسابقت حتى تلك البلدان، وفي مقدمتها الكثير ممن كانت بالأمس تعد من أصدقاء القضية الفلسطينية ومناصريها، إلى إدارة الظهر لعدالتها والتنُّكر الى سابق مواقفها منها والمسارعة إلى خطب ود الحاخام ديفيد روزان ومغازلة دبلوماسيته الصهيونية المزدهرة...
لذا، أمن المستغرب أن يفعل الفاتيكان ما فعله سواه، وأن تتحول علاقته بالقضية إلى مسألة قوننة أوضاع ما تبقى من أملاك وعقارات لكنائس كاثوليكية تحت الاحتلال دون الالتفات إلى عذابات ما تبقى من رعاياها؟!. <!--EndFragment-->
نشرت فى 18 يونيو 2012
بواسطة mhmadshoo
عدد زيارات الموقع
276,751
ساحة النقاش