محمد شو

العالم بين يديك

مصطفى عياط:

رغم التأجيل الأخير لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي في ليبيا إلى السابع من يوليو المقبل، إلا أن مجريات الأمور، في ذلك البلد الخارج لتوّه من حرب شرسة أنهت 42 عامًا من حكم القذافي القمعي، تشير إلى أنه يسير على الطريق الصحيح نحو إقامة دولة القانون والعدالة والمساواة، مع الإقرار بأن هناك العديد من الصعوبات والمنحنيات الخطرة، إذ ما زالت الميليشيات المسلحة تشكل تهديدًا قويًا لقيام دولة المؤسسات، كما يتعين كذلك بذل الكثير من الجهد للسيطرة على الخصومات القبلية والمناطقية، التي زكاها نظام القذافي في طول البلاد وعرضها، ليضمن خضوع القبائل لسطوته، فضلًا عن تحديات إعادة الإعمار، وما يحيط بها -عادة- من احتمالات غياب العدالة وتفشي الفساد والمحسوبية.

مع الأخذ في الاعتبار الصعوبات المتوقعة لإجراء انتخابات في بلد يعود تاريخ آخر مشهد انتخابي عاصره إلى النصف الأول من ستينات القرن الماضي، إلا أن الخطوات التمهيدية للانتخابات سارت بشكل مقبول حتى الآن، حيث قام أكثر من 2.7 مليون ليبي بتسجيل أسمائهم في سجلات الناخبين، بما يعادل نحو 80 بالمئة ممن لهم حق التصويت، كما شهدت الأشهر الأخيرة الإعلان عن تشكيل العشرات من الأحزاب والتكتلات الانتخابية، من مختلف التوجهات الفكرية والسياسية، وبلغ عدد المرشحين المستقلين للانتخابات 2119 مرشحًا، يتنافسون على 120 مقعدًا، فيما يتنافس على المقاعد الـ80 المخصصة للأحزاب 517 مرشحًا، نصفهم تقريبًا من النساء.

مراحل صعبة!

ورغم إنجاز عملية تسجيل الناخبين، وكذلك مرحلة تلقي طلبات المرشحين، إلا أن مفوضية الانتخابات ما زال أمامها عمل شاق، فهناك مرحلة صعبة تتعلق باستبعاد المرشحين ممن لديهم سجلات جنائية أو المحسوبين على نظام القذافي، ثم بعد ذلك تأتي عملية تلقي طعون المستبعدين والبت فيها، والسماح للأحزاب باستبدال من سترفض طعونهم، ويعقب ذلك المرحلة الأهم، والأكثر تعقيدًا وصعوبة، وهي يوم الانتخابات نفسه، حيث سيكون مطلوبًا من الحكومة توفير الحماية والتأمين للآلاف من مراكز الاقتراع في طول البلاد وعرضها، فيما تتحمل مفوضية الانتخابات عبء توفير المهمات اللوجيستية اللازمة لعملية الاقتراع، وكذلك توفير الموظفين المدربين القادرين على إدارتها، في نزاهة وشفافية، بحيث تحظى "النتيجة" بقبول من مختلف الأطراف، لأن البديل عن ذلك قد يكون الانخراط في عملية فوضى مدمرة، خاصة أن الكثير من القوى والأحزاب تخوض الانتخابات، وأيديها على "الزناد" تحسبًا لأي خيارات أخرى، ولذا فإنه لا بديل عن عملية انتخابية نزيهة وشفافة.

وتكمن أهمية تلك الانتخابات ليس فقط في أنها الأولى التي تجري على المستوى الوطني منذ نحو نصف قرن، وإنما أيضًا لأن المجلس الوطني المنبثق عنها، سيتولى تشكيل لجنة لإعداد الدستور، وتعيين حكومة انتقالية، لحين إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وقد تم الاستقرار على طريقة انتخاب المجلس بعد مخاض عسير شهد تعديلات عدة، فيما أثار تقسيم الدوائر الانتخابية حساسيات قديمة، إذ إن بعض المدن تشعر بالتهميش والإقصاء، وتريد أن تستحوذ على حصة تمثيل معتبرة، كما أن هناك مناطق أخرى تشعر أنها تحملت العبء الأكبر في الثورة، وأنها عانت طويلًا من اضطهاد القذافي، ولذا تريد تمثيلًا يعكس هذه التضحيات.

تحسن نسبي

ويأتي التقدم نحو هذا الاستحقاق الانتخابي متزامنًا مع تحسن نسبي في الأوضاع الأمنية، خاصة في المدن الرئيسية، حيث بدأت قوات الجيش والشرطة في التعامل بحسم وحزم مع عناصر الميليشيات، التي تحاول استعراض عضلاتها وفرض مطالبها باستخدام السلاح، وقد دخلت قوات الجيش في اشتباكات عنيفة مع إحدى تلك الميليشيات عقب إقدامها على اقتحام مطار طرابلس للمطالبة بالإفراج عن أحد قادتها، وقد تمكن الجيش من اعتقال العشرات من المسلحين، كما تعاملت أجهزة الأمن بقوة مع عناصر ميليشيا أخرى من الذين اقتحموا مقر الحكومة في طرابلس قبل عدة أسابيع ونجحت في إخلاء المقر، فيما لجأت الحكومة لاستخدام القوة لإنهاء اعتصام مجموعة من المسلحين أمام مقر إحدى شركات النفط، ومنعهم للعاملين من مزاولة نشاطهم.

ولا يعني هذا الأسلوب أن معضلة الميليشيات قد انتهت، أو أن المواجهة المسلحة هي الحل الأمثل، فهناك مدن رئيسية بأكملها، مثل مصراته، تعد شبه مستقلة عن الحكومة، ولديها ميليشيات أشبه بجيش مستقل، مزود بكافة الأسلحة الخفيفة والثقيلة، لكن الاستمرار في دمج الثوار السابقين في أجهزة الجيش والشرطة، وتحويلهم إلى جنود نظاميين لديهم المهارة والانضباط العسكري، سوف يشجع الآخرين على اقتفاء أثرهم، ومع مرور الوقت سيجد أفراد الميليشيات أنفسهم منبوذين شعبيًا، خاصة إذا ما تمسكت الحكومة بموقفها الرافض لأي ابتزاز تحت تهديد السلاح.

تفاؤل حذر!

ومع أن الحياة في ليبيا بدأت تعود إلى طبيعتها، إلى حد كبير، خاصة فيما يتعلق بتوفير الرواتب والاحتياجات الأساسية للمواطنين، إلا أن أداء حكومة "عبد الرحيم الكيب"، ما زال دون المتوقع، هذا مع الإقرار بأن البنية التحتية التي ورثتها الحكومة من نظام القذافي شبه متهالكة، فضلا عن أن جزءًا كبيرًا منها تعرض للدمار بفعل غارات الناتو.

ويعول الكثيرون على أن الأشهر المقبلة قد تشهد تحسنًا تدريجيًا، خاصة أن ليبيا تمتلك احتياطات نقدية ضخمة، كما أن معدلات إنتاج النفط عادت إلى ما كانت عليه قبل ثورة 17 فبراير، وبالتالي بمقدور الحكومة البَدء في عملية "إعادة إعمار" ضخمة، لكن ذلك ربما يتطلب الانتظار قليلًا حتى انتخاب المجلس التأسيسي، كي يتولى مراقبة الإنفاق على تلك العملية، وتجنب تكرار تجارب الفساد المريرة التي شهدتها عمليات مماثلة في العراق وأفغانستان، حيث كان "النهب والسرقة" عنوانها الرئيسي.

ويدلل المتفائلون بنجاح هذا الاستحقاق الانتخابي على صحة موقفهم بما شهدته الانتخابات البلدية التي أجريت في الأشهر الأخيرة بعدة مدن، مثل بنغازي ومصراته، من هدوء وشفافية وإقبال شعبي واسع، كذلك فإن الإقبال الكبير لليبيين على قيد أسمائهم في سجلات الناخبين، يؤكد قناعتهم ورغبتهم في المشاركة بهذا العرس الوطني، كما أنه يشكل انتكاسة لأصحاب دعاوى الفيدرالية، الذين دعوا لمقاطعة عملية التسجيل.

لكن في المقابل فإن هناك صعوبات عدة تواجه هذا الاستحقاق، فبعض المدن تعد فعليًا خارج سيطرة الحكومة، وبالتالي فهناك مخاوف من رفض الاعتراف بنتائج الانتخابات إذا لم تأت على هوى من يمتلكون السلاح على الأرض، كذلك فإن هناك مناطق أخرى، مثل منطقة الكفرة في الجنوب ومناطق حدودية عدة، يعد الوجود والسيطرة الحكومية فيها "شبه منعدمة"، ولا توجد ضمانات بإجراء عملية انتخابية نزيهة فيها، رغم التصريحات الحكومية التي تتحدث عن "خطة استراتيجية" تتضمن نشر 45 ألف رجل أمن لتأمين عملية الاقتراع.

بالطبع ليس هناك من يراهن على أن تلك الانتخابات ستخرج مطابقة لـ"المعايير الاسكندنافية"، فالليبيون حديثو عهد بتلك التجربة، وهم خارجون لتوهم من حرب شرسة، وبنيتهم التحتية شبه مدمرة، لكن خروج الانتخابات بأقل قدر من الأخطاء وبأعلى درجة متاحة من "النزاهة" سوف يعطي انطلاقة قوية لـ"ليبيا الجديدة"، كدولة قانون ومؤسسات، وفي المقابل فإن الفشل سيضع البلاد أمام سيناريوهات مؤلمة، ولذا فإن الرهان الحقيقي هو على وعي الليبيين أنفسهم بحجم التحدي الذي يقبلون عليه، وأنه لا يقل أهمية عما فعلوه في ثورة 17 فبراير. <!--EndFragment-->

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 49 مشاهدة
نشرت فى 17 يونيو 2012 بواسطة mhmadshoo

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

272,639