محمد شو

العالم بين يديك

عبد الدائم السلامي:

عاشت تونس، خلال الأيام الماضية، أحداث عنف دامية قامت بها مجموعات سلفيّة بسبب ما اعتبرته إساءة للمقدّسات الدّينية من قبل بعض المشاركين في تظاهرة فنية أقيمت بقصر العبدلية بالمرسى في الضاحية الشمالية للعاصمة بداية الشهر الجاري. ومعلوم أنّ بعض التشكيليّن، ممّن "لا يمتّون إلى المشهد التشكيلي التونسي بصلة" حسب توصيف وزير الثقافة لهم، قد عرضوا خلال هذه التظاهرة بعض اللوحات التي تنتهك حرمةَ المقدّسات على حدّ قولهم.

وتأتي هذه الأحداث في وقتٍ تتنامى فيه مخاوف قوى المجتمع المدنيّ من تغوّل التيار السلفي في البلاد وسعيه إلى تهديم المقوّمات الحضارية للدولة التونسية عبر خنق منابر التعبير الحرّ فيها، وتهديد قيم الحداثة والمعاصرة وتوجيه الرأي العام بفضل وصاياه الإيديولوجية التي تتعالى من أكثر من 400 مسجد سطا عليها أتباعه.

ومهما كانت وجاهة اجتهادات وزير الداخلية علي لعريض في تفسير أسباب هذا العنف، بإرجاعها إلى ما سمّاها "جهات متطرّفة" يمثّلها بعض الغلاة من العلمانيين والسلفيّين، ومهما حرص بيان الرئاسات الثلاث على تكيد أنّ "هذه المجموعات المتطرّفة هي نفسها مخترقة من قبل الإجرام، يموّلها الخائفون من المحاسبة وتطبيق القانون، أي فلول العهد البائد"، فالظاهر أنّ هشاشة الوضع السياسي التونسي وما فيه من فوضى طالت جميع مجالات المعيش اليومي، لا يمكن تفسيرُها بوجود صراع ظاهر بين علمانيين وسلفيين بدعم من بقايا التجمّعيين فقط، بل إنّ الأمر يطرح علينا النظر في ما وراء هذا الصراع، أي في توقيت ظهور هاتين الفئتين، وفي أهدافهما الصريحة والخفية، وفي كيفية تعاطي مؤسّسات الدولة معهما.

لنتّفق أوّلا على أنّ الثورة التونسية لم ترم مجتمع ما قبل 14 يناير/ كانون الثاني في البحر، وهي لم تأت كذلك بمجتمع تونسي جديد من السماء أو من باطن الأرض، تونس بقيت هي تونس، ما تغيّر فيها هو نظام الحكم ومؤسّساته، ومن ثمة فإنّ العلمانيين والسلفيين كانوا موجودين قبل الثورة في حالة سلام وتوافق على المطالب العامة للنهوض بالمجتمع التونسي حضارياً.

ولئن كان بينهما اختلاف، فإنه لم يبلغ في يوم من الأيام درجة الخلاف والعنف الدمويّ. وهنا يتوجّب علينا التساؤل: مَنْ له مصلحة في دفع بعض المحسوبين على اليسار والفرنكفونيين والليبراليين الحداثيين، إلى استفزاز السلفيين وتمكينهم من حجّة استعمال العنف المادي والمعنوي؟ ومَن الذي نفخ في صدور هؤلاء السلفيّين وجعلهم يحلّون محلّ الدولة في حماية المقدّسات؟ ولِمَ مالت حركة النهضة، التي تقود الحكومة الآن، إلى عدم استغلال "شرعيتها" في تطبيق القانون على هؤلاء المخرّبين وتفضيلها اعتماد خطاب ليّن في التعاطي السياسي معهم؟

تضعنا هذه الأسئلة أمام فرضيّة نزعم أنها تستطيع أن تنير بعض جوانب ما يحدث في تونس من تجاذبات سياسية واجتماعية، وهي أن تكون هناك جهات خارجية ليس من مصلحتها أن تستقرّ الأمور في تونس وفق ما يريد الشعب من استحقاقات ثورية، ولتحقيق أجنداتها الخاصّة، راحت تخوّف الحكومة من خطورة الحلول الأمنية، وتذكّرها بمآل نظام بن علي البوليسيّ، وتستغلّ "ضعف الدولة السياسيّ" و"لُطفها الأمني" لاستدراج بعض الجماعات المحسوبة على التيار العلماني والتيار السلفي إلى مخطّطاتها وسهّلت عليهم أسباب الفتنة السياسية والعنف بين الناس.

فمن جهة أولى يسود الاعتقاد الآن لدى فئة من المهتمّين بالشأن السياسي التونسي في أنّ للغرب يدًا في دعم العلمانيين التونسيين للاستعانة بهم في محاربة "الإرهاب" الذي قد تمارسه الجماعات الإسلامية التي ظهرت خلال الربيع العربيّ.

ولئن كان هذا الاعتقاد لا يستند إلى حجج ماديّة ثابتة، فإنّ أصحابه يبرّرونه بمجموعة من الملاحظات منها مطالبة سهير بالحسن، وهي إحدى الحقوقيات التونسيات، وزير خارجية فرنسا السابق خلال برنامج بالقناة الفرنسية الثانية في بداية نوفمبر/تشرين الثاني 2011 "بالتدخّل لحماية العلمانية من خطر الإسلاميين" على حدّ قولها. ناهيك عن الزيارات التي يقوم بها بعض مسؤولي السفارات الغربية إلى مقارّ المنظّمات غير الحكومية، وتمويل كل الجمعيات العلمانية تحت يافطة دعم المسار الديمقراطي بالبلاد، إضافة إلى حفلات العشاء التي يدعون لها فاعلين سياسيّين من الأحزاب الليبرالية القريبة من اليسار ونشطاء منظّمات المجتمع المدني ممّن عُرفت عنهم ميولاتهم العلمانية. وهو أمر دفع زعيم حزب الوفاء التونسي، البحري الجلاصي، إلى القول لقناة "التونسية" مساء 17 مارس الماضي "إن العلمانيين كفرة لأنهم يتبعون أهواء الناس ويتخذون اليهود والنصارى أولياء لهم".

ومن جهة ثانية، لا يشكّ أحد في أنّ الانتعاشة التي تشهدها التيارات السلفية الجهادية "أو المقاتلة" داخل نسيج المجتمع التونسي ما كانت لتكون بهذه السرعة لولا وجود دعمٍ كبير لها من بعض الزعماء السلفيين المحلّيين والوافدين أمثال الداعية المصري وجدي غنيم الذين فتحت لهم تونس أبوابَها ليؤلّبوا الناس بعضهم على بعض، ويبثّوا بينهم الفتنة المذهبيّة، في سعيٍ منهم إلى تفتيت الوحدة الوطنية بفتاوى لا تستند إلى أيّ نصّ شرعيّ من كتاب الله أو من سنّة رسوله. هذا، ناهيك عن دعاة الحركات الدينية المتطرّفة الذين يوزّعون على المشاهدين أوهام قيام الخلافة، ويحرّضونهم على إنجازها عبر مقاتلة "الكفّار" من بني جلدتهم على غرار تصريح أيمن الظواهري الأخير.

وأمام هذه الفوضى السياسية، وهذا العنف المتنامي الذي يهدّد المواطن التونسي في دمه وممتلكاته وحريّته الشخصية، فضّلت حكومة النهضة أن تتخلّى عن دورها في استخدام القانون لصيانة مكتسبات الدولة من العابثين، وراحت تلعب مع السلفيّين "لعبة العاقل والسفيه"، إذْ غضّت الطرف عن عنف هؤلاء، واكتفت بالتعقّل في مواجهتهم عبر التحذير والدعوة إلى الحوار، وهوّنت من حجم مخاوف الناس منهم، بل وردّت ذلك إلى عنفوانهم الدّينيّ، على غرار قول زعيمها راشد الغنوشي للقناة الوطنية الأولى مساء 11 يونيو/ حزيران 2012 "السلفيون يذكّرونني بشبابي، فلا خوف منهم، إنهم يبشّرون بثقافة، ولا يهدّدون الأمن العام". <!--EndFragment-->

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 65 مشاهدة
نشرت فى 16 يونيو 2012 بواسطة mhmadshoo

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

272,319