محمد شو

العالم بين يديك

الحمد لله الذي أنعم علينا بالإسلام وشرح صدورنا للإيمان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه أجمعين...وبعد. يقول الله تعالى:(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)،«سورة الإسراء، الآية 1».

يتفيأ المسلمون في هذه الأيام ظلال شهر كريم هو شهر رجب، وعندما يُقبل هذا الشهر المبارك يستحضر المسلمون في كل مكان ذكرى من أعز الذكريات، إنها ذكرى الإسراء والمعراج، فحادثة الإسراء من المعجزات، والمعجزات جزء من العقيدة الإسلامية، لذلك فإن ارتباط المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بالقدس والأقصى هو ارتباط عقدي، وليس ارتباطاً انفعالياً عابراً ولا موسمياً مؤقتاً.

صبر السنين

ومن المعلوم أن رحلة الإسراء والمعراج هي ثمار صبر السنين، وفيض عطاء الله رب العالمين لرسوله الكريم سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، وذلك مصداقاً لقول الله عز وجل: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)، “سورة الزمر، الآية 10”، ففي عام واحد تتابعت على النبي، صلى الله عليه وسلم، الخطوب، وأحاطت به المحن فبعد الحصار المضروب على محمد، صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام، رضي الله عنهم أجمعين،مات عمه أبو طالب، وكان له عضداً وناصراً، فانتهزت قريش الفرصة وأذاقوه من العذاب ما تئن منه الجبال! وهيهات والنفس المحمدية أقوى، بما منحها الله من قوة العزيمة ومضاء اليقين، وعقيدة الثبات، ثم ابتلاه الله سبحانه وتعالى بموت خديجة، رضي الله عنها، التي كانت له ملاذاً، ثم ذهب إلى ثقيف لعلّه يجد الأنيس والنصير، لكنهم سبوه وشتموه وضربوه بالحجارة حتى أُدميت قدماه، عليه الصلاة والسلام، ثم كانت رحلة الإسراء والمعراج تكريماً من الله سبحانه وتعالى لنبينا محمد، صلى الله عليه وسلم.
لقد كانت رحلة الإسراء والمعراج، ولا تزال، تحرك المشاعر عند المسلمين، وتأخذ بأيديهم نحو حياة العزة والكرامة، وتريهم آيات الله الباهرة التي لا يستطيع من يسمع عنها أو يراها إلا أن يقول (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، “سورة المؤمنون، الآية 14”، وسوف تظل تلك الحادثة المباركة مصدر هدى، ومنبع يقين، لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكوراً، فسبحان من طوى الزمان لنبيه - عليه الصلاة والسلام-، فأسرى به وعرج، وعاد النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - إلى بيته وما يزال فراشه دافئاً!.

مسرى الرسول

ومع قدوم هذه الذكرى في كل عام تتطلع الآمال نحو تحرير مسرى رسولنا العظيم، أولى القبلتين وثاني المسجدين، وثالث الحرمين الشريفين، وهو الآن يئن ويزداد أنينه يوماً بعد يوم، لما يتعرّض له من تدنيس وإهانة على أيدي سلطات الاحتلال الإسرائيلي، حيث تقوم السلطات الإسرائيلية بأعمال حفريات وغيرها من أجل تقويض بنيانه وزعزعة أركانه، كما تقوم بهدم البيوت المحيطة به أو السيطرة عليها، من أجل تفريغ المسجد الأقصى المبارك خاصة ومدينة القدس عامة من أصحابها الشرعيين، وكذلك قرارات محكمة العدل العليا الإسرائيلية التي تسمح لليهود بالصلاة في الأقصى هي قرارات باطلة. وإنّ هذه الأعمال مرفوضة من قبل أبناء الأمتين العربية والإسلامية، وما محاولاتهم المتكررة لبناء ما يسمي بالهيكل المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى المبارك إلا محض افتراء وعمل مرفوض، فالأقصى كان وما زال وسيبقي إسلامياً إن شاء الله، أملنا في الله كبير أن يرد كيد المعتدين، وأن ينصر عباده الصادقين (وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا)، “سورة الإسراء، الآية 51”.

ونظراً لأهمية حادثة الإسراء والمعراج فقد أنزل الله سورة الإسراء لتتحدث عن العلاقة الوثيقة بين المسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد الأقصى بالقدس في الآية الأولى منها: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ).

بشارة طيبة

هذه الآية الكريمة تبشر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمسلمين، وتعلن للدنيا في كل حين، أن بيت المقدس أصبح مسجداً للمسلمين، ومن أجل ذلك جمع الحق سبحانه وتعالى في تلك الليلة، الأنبياء والمرسلين، فصلّى بهم، عليه الصلاة والسلام، إماماً، حيث تسلّم، صلى الله عليه وسلم، الراية من إخوانه الأنبياء لتحملها أمته من بعده.

كذلك تشير الآية الكريمة إلى أن الإسراء من المسجد الحرام بمكة إلى هذا المكان المقدس بفلسطين إعلان بأن ملكية هذه الأماكن ستؤول حتماً للمسلمين، ويالها من بشارة طيبة بأرض طيبة مباركة نصت الآية الكريمة على بركتها، كما نصت بذلك آيات أخرى، نذكر منها قوله تعالى في شأن إبراهيم، عليه الصلاة والسلام«وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ»، سورة الأنبياء، الآية 71.

وقوله تعالى«وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً، سورة سبأ الآية 18، وقوله«وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ» سورة البقرة الآية 58.

مهبط النبوات

والقرية: المدينة المقدسة، وبيت المقدس، وهي مهبط النبوات، ومحط رحال المرسلين، ومحمد، صلى الله عليه وسلم، هو وارث الأنبياء، والأمة الإسلامية من بعده هي الأمينة على هذه المقدسات، فالمسجد الأقصى المبارك هو أقدم مسجد بعد المسجد الحرام، لما روى عن أبي ذر الغفاري، رضي الله عنه، أنه قال: قلْتُ يَا رَسُولَ الله: أَيُّ مَسْجد وُضعَ في الأرْضِ أوَّلاً؟ قَالَ: اَلْمسجِدُ الْحَرَامُ، قَالَ: قُلْتَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: اَلْمَسجِدُ الأقْصَى، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ، فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيِه، (أخرجه البخاري)، كما أن المسجد الأقصى هو أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه أبو هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم«لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إَلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هذا، وَالمَسْجِدِ الأقْصَى»، أخرجه البخاري، كما أنه لا يخفى على أحد أن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، وفي المسجد النبوي بألف صلاة، وفي المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة، كما نصت الأحاديث النبوية الشريفة.

وحدة المقدسات

كما كان المسجد الأقصى المبارك قبلة المسلمين الأولى، فقد صلى إليها الرسول، صلى الله عليه وسلم، والمسلمون نحو ستة عشر شهراً من الزمان، ومن هُنا تتجلى حكمة ربط المسجد الأقصى بالمسجد الحرام في الآية، وأن ذلك يدل دلالة قاطعة على وحدة المقدسات الإسلامية، والبلاد الإسلامية، والأمة الإسلامية، وأن الخطر الذي يهدد المسجد الأقصى في القدس يهدد جميع المقدسات الإسلامية في العالم.

من كل هذه المعاني نفهم ونستنتج أن الأمل يأتي بعد الألم، وأن المحن تسبق المنح، وأن الضيق يأتي بعده الفرج، وأن مع العسر يسراً.

الدكتور يوسف جمعة سلامة

خطيـب المسـجد الأقصـى المبـارك

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 68 مشاهدة
نشرت فى 16 يونيو 2012 بواسطة mhmadshoo

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

277,204