طارق الدليمي*
تبدو الأمور أحياناً متشابهة إذا هي أقبلت، ولكنها تتفارق في الانكفاء أو الانغماس أو الإدبار. ولكن التمييز يظهر في وجوه "النخب" أكثر من ضمائرهم. وحين يستغرق معظمهم في حواشي المصالح الخاصة ويلبس أذنيه عن عذابات الناس فلا يمكن أبداً رسم الخطوط الفاصلة بين ما يتحدث به هؤلاء في الغرف السوداء وما يصرح به أمام الملأ. لكن أغلبيتهم الساحقة بانت في عجزها عن تحديد مستقبلها القريب أكثر من ضياع فرصها البعيدة. بهذا المعنى، لا بد من تحديد المضامين العامة لهذه "النخب"، وهل هي ما زالت تمثل بإخلاص البناء البريمري للمكونات العراقية منذ الاحتلال وحتى بقاء الاحتلال!
إن الخواء النظري لهذه النخب هو السائد. أما التنكر للمناورات اليومية والتغافل عن أخطاء الآخرين فهو المتنحي في أخلاقيات الكتل السياسية اليومية في التفاهم أو الانزواء. وأصبح من الواجب تسليط حزم من الضوء على هذه الملامح الحادة المكفهرة في وجه "العملية السياسية" الجارية التي تعاني حالياً من الخناق. والبعض يظن بها الإثم، وقد أهملها القائمون عليها وتركوها عنوة من دون حراسة.
في هذا التصور "الواقعي" يظهر للعيان أن هنالك شروخات عميقة بين "الواقع" عند المكونات وبين "الافتراض" في تحليلات المدارس الاحتلالية الغربية والعربية الخادمة، والمهتمة فعلا "لتفسير" الحالة العراقية من دون السعي الجاد "لتغيير" مسارها المتعثر. ولا بأس من أن تتسلل بعض "الأوهام" الاضطرارية من برزخ التآمر إلى قلب الصراع من دون تحديد الفروقات بين فقدان ماء الوجه وضياع الوقت اللازم لإعادة البناء.
لنبدأ من المكون "الكردي"، وهو يعيش في ذروة انتصاراته في الحصول على غنائمه الباردة، ولم يجد عملياً من داخل المكونات الأخرى من يقارعه في المنطق السياسي أو يقاتله بالحجة الوطنية. وقد ترك سلاح "النقد" ونقد "السلاح" على قارعة طريق الصفقات الوسخة والاستبداد القبلي والاستيلاء على ثروات الناس والتحكم بمصائرهم. وقيادة المكون لا تجرؤ على طرح موقفها الاستراتيجي وتتأرجح بسماجة بين تهديداتها الفارغة ومحاولاتها الوضيعة في اقتناص الفرص المشبوهة. وقد عاملها الأمريكان بذل صارخ، فهم قتروا معها في منحها "القدرة" على اتخاذ القرار الاستراتيجي بخصوص علاقتهم مع العراق وأفرطوا في حقنها بكميات فائضة من "الاستطاعة" لإلحاق الضرر بالوحدة الجغرافية العراقية، وتجاوزت "الخط الأزرق" الذي رسمته لها القوى الاستعمارية منذ نشوء الدولة الوطنية العراقية في مطلع القرن المنصرم. إن تجاوزها لهذا الخط وتحركاتها في الامتداد نحو المناطق العربية نموذج فظ للتطهير الديموغرافي الصامت.
إن التناقض المغلق بين "القدرة" المقيدة و"الاستطاعة" المفتوحة هو الذي يجعل قيادات المكون في دوار حقيقي ويمنع وحدتها من جانب واتخاذ القرار الصائب من الجانب الآخر المتمثل في أحد موقفين: إما الاندماج الكامل في "العراق" أو الانفصال الشامل عنه. لكن البديل الجديد الذي اكتشفته هذه القيادة هو الخط النفطي المباشر بين "إقليمها" المطاطي وبين تركيا "أردوغان"، العدو التاريخي لطموحات الأكراد. هكذا تحل "الصيرفة" دائماً محل "السياسة" في طريق التطور العام لمواجهة الظلم "العربي" وتحقيق الحد الأدنى المطلوب من تعويق بناء حكومة مركزية متينة.
أما قيادة المكون "السني" فهي تضرب "الماش بالدرماش"! وقد ضيعت البوصلة عدة مرات وفقدت المسطرة، فتراها في غيبوبة، فلا هي "علمانية" في زفة "الطوائفية" ولا هي "طائفية" في حمام محاصصة الشراكة "الوطنية" وعقابيلها المشوهة. ومع أنها متخالفة في الماضي الذي انهار بقسوة وبدون رجعة، ولديها الفرص النبيلة والعتيدة في الاندغام لإعادة إنتاج المشروع الوطني التاريخي مستقبلا، لكنها راهناً تدور حول طاحونة مصالحهما الضيقة أكثر من التصاقها الوجداني مع معاناة عرب العراق الموحدين في كل شيء وهم بحق وحقيق "جؤجؤ" الأمة. إن حالتها فريدة في المحتوى ومثيرة للجدل في الفحوى! إن "القدرة" التي تمتلكها ترتبط بمدماكين: الأول أغلبيتها العربية والأممية، والثاني تجربتها العميقة والفذة والنادرة في "الاستحواذ" على السلطة والحفاظ عليها في المنعطفات.
كما أن "الاستطاعة" عندها غير مكبلة وذات حيوية هائلة إذا ما قررت الإمعان في الكبرياء والتعالي عن الجعالة! والإصرار على التشبث بالمشروع الوطني وعلى أسس الاستقلال الناجز والديمقراطية الجليلة والسيادة القومية الشاملة. فهذه النخب أبناء بجدتها حين تكون عروبتها "ديمقراطية" تفقأ عيون الليبرالية العميلة للغرب وحين تكون ديمقراطيتها "عروبية" تدفن أحلام الرجعية الانفصالية، فلا يمكن الحد من "قدراتها" الفولاذية إلا "استطاعتها" الملهمة في الصبر والبناء.
وما حصل منذ الاحتلال، حين اغتصب المشروع الوطني، لم تحسن هذه النخب كما يجب في الدفاع عن تنحية "الدولة" من جانب وتنحية "الأرض" في الجانب الآخر من الصراع مع الاحتلال ومكوناته. إن استرجاع القرار السياسي المستقل عن الطوائفية النفطية هو الصاعق الحقيقي لتفجير المحاولة الثانية للمشروع الوطني الكبير وتخطي كل النتائج الرديئة التي حصلت حين امتهنت التزوير وكذبت على الشارع بضرورة الانخراط في "العملية السياسية" المسمومة.
بيد أن قيادة المكون "الشيعي" تعاني من نموذجية استثنائية تاريخية نسيج وحدها. في المنهج والتطبيق والحراك الصادر منهما. هم أقرب إلى ضياع الهدف الحالي منه إلى فقدان الأمل المقبل. إن "القدرة" عند هذه القيادة غير عادية وتأثيراتها ساحرة وجاذبيتها المغناطيسية تبدد أحيانا الصديق قبل الخصم! وإذا كانت متماسكة في حضورها اليومي ومتينة في مقاومتها للآخرين من المناهضين ولا سيما الاحتلال وضغوطاته فهي أيضا مرتبكة في تقمصها للدرس التاريخي السابق ومنهجها ذرائعي متهافت في الدفاع عن ذاتها والانضباط في الوقت المناسب.
إن الخلل المركزي فيها هو ضعف "الاستطاعة" وهشاشتها في مواجهة "الذات" الطوائفية ونسيانها "للموضوع" الوطني في بناء الدولة- الأمة. هنا تظهر جغرافية "الحوزة" أهم بكثير من "تاريخ" الناس وحياتهم الخاصة والعامة في السياق العام للصراع. ومع أن تناقض "القدرة" المتينة مع "الاستطاعة" الهشة قد يولد تشوهات عديدة في مشاهد تفاعلها السياسي اليومي، إلا أنها نجحت في أن تفرز، من ركام هذه التجربة الكأداء، تياراً مهماً يسعى إلى تلمس الطريق ومحاولة إعادة الاندغام مع المصالح الضرورية والحيوية للأمة. سيكون عنوان الاندغام هو محاولة مقاومة الاحتلال وعدم المساومة في وحدة البلاد واستقلالها الكامل.
يمكن الاستنتاج هنا، وبدون مغامرة، بأن المكون "الشيعي" له فرصة سانحة وحاذقة في استخدام "القدرة" لإعادة الاندماج العربي اللاطوائفي ومجابهة التمدد التطهيري العرقي للأقليات المتعاونة والمرتبطة مع الاحتلال وفي نفس الوقت الاستفادة من كل "الاستطاعات" المتوفرة والهشة من أجل السعي المشترك في إعادة بناء الدولة الوطنية الموحدة وليس الحكومة المركزية فقط.
يجب على المكون، باستخدام المصطلح الكريه مؤقتا، بذل الجهد الحثيث والمتواصل لإلغاء الفكرة الخبيثة بأن الحاكم "المستبد" هو "ضحية" بالشكل أيضا كما هو "جلاد" بالمضمون الفعلي للكلمة. وعلى "النخب" أن تستوعب الدرس الذليل الفاشل في العهدين البائدين: الملكي والبونابرتي العسكري. فلا سلطة منتجة من دون نخب فاعلة ويمكن أن تكون النخب متفاعلة ومنتجة من دون سلطة أيضاً. إن الخطوة الأولى هي الخروج من عبودية "الكوندومينيوم" العالمي- الإقليمي والدعوة العلنية والشفافة لإبادة "العملية السياسية" الزائفة وبناء عمارة سياسية- اجتماعية جديدة وخلاقة. كما أصبح من الواجب أيضا مكافحة التناقض بين الجهود المبذولة، من "القدرة"، في الحفاظ على وحدة البلاد واستئصال الكسل والتردد، من "الاستطاعة" الهشة، في استرجاع الاستقلال الوطني وتوطيده على أسس شعبية وديمقراطية.
من هذه الزاوية أيضاً تفرض وحدة "المكون" الشيعي العروبية وآلية تطوره التخلص من آفة بعثرة طاقاته وانقسام صفوفه وتحولها إلى لقمة سائغة بيد الاحتلال والمكونات العرقية والأقليات الأخرى.
إن "المنغولية السياسية" الرثة هي التي سابقاً عوقت الكثير من المهام في حقبة البونابرتية العسكرية وتريد الآن استعادة دورها البدائي في المناورات اليومية الرخيصة أو في إعلامها الطوائفي الهزيل. يجب التصدي بكثافة وجبروت للشعار الذي تطرحه "المنغولية": اقتلوني ومالكاً معي ووظيفته السيئة في خلط الأوراق وتمكين الاحتلال من خرق الصفوف والمزيد من تصديع الجبهة الداخلية.
في هذه الأثناء تبدو فرص اللقاء أضعف من احتمالات الابتعاد، ولعل "التكتيك" الأمريكي يرغب في إنهاك الجميع لتتوفر له المواد اللازمة في التدخل المباشر لإعادة لصق أجزاء "المكعب" الذي يتصور أنه يرعاه "ويستطيع" أن يتلاعب به كما كان يتوهم أنه "قادر" على خلقه ومده بأسباب الحياة! يجب قطع الطريق أمام هذه المحاولات المتوقعة والعمل سوية لكل مكونات "العروبة" العراقية في الاعتماد على "قدراتهم" الوطنية في إعادة بناء الدولة المركزية الموحدة والاستناد إلى "استطاعاتهم" الديمقراطية المدروسة في انتزاع الاستقلال وتثبيت السيادة.. من دون هذه العناصر يصبح الوضع صعباً وتذوب حالة تكافؤ الفرص مع الكتل الأخرى وجدارة الفصل الدائم بين قمح الصمود وزؤان التواطؤ والانحدار.
إن اليقظة التامة من الطوائفية هي الحلقة المركزية في الدفاع عن اللحمة الداخلية للوطن ومنح الشارع "الصعلوك" كل الفرص للمساهمة في العملية التاريخية الجديدة، فهو الحامي الوحيد لوحدة البلد والمنقذ الحقيقي لمصيره المزدهر وهو الحاجب الوحيد الذي يعلو على عيني السيادة والاستقلال.
_____________
* كاتب وسياسي عراقي <!--EndFragment-->
نشرت فى 14 يونيو 2012
بواسطة mhmadshoo
عدد زيارات الموقع
276,756
ساحة النقاش