د. ناجي صادق شراب
من المعلوم أن فرنسا لم تصل إلى جمهوريتها الخامسة إلا بعد أربع جمهوريات، وبعد أكثر من تحول وتنقل في شكل الحكم، وصاحب كل ذلك حالة من الفوضى والعنف، وعدم ثقة بالسياسة والسياسيين إلى أن ظهر ديغول الذي نجح في وضع أسس شرعية الجمهورية الخامسة عام 1958، ومع ذلك ما زال الجدل قائماً في فرنسا حول مستقبل هذه الجمهورية، بعد فوز الاشتراكي هولاند ومن قبله ميتران، رغم أن الاثنين اعترفا بشرعية هذه الجمهورية، وتصريح هولاند بعد فوزه أنه رئيس لكل فرنسا تأكيد على ذلك.
هذه الحالة الفرنسية احتاجت وقتاً طويلاً واستقراراً في الثقافة الديمقراطية وتجذرها لدى المواطن الفرنسي. والآن الحالة المصرية هل تشهد تحولاً مستقراً نحو الجمهورية الثانية؟ هذا يحتاج إلى شرط أساسي وهو الاتفاق حول أسس شرعية هذه الجمهورية، فلا يبدو أن هناك في الأفق ديغولا مصريا، بل توجد قوتان رئيسيتان غير متقابلتين حول هوية هذه الجمهورية، القوى الدينية الإسلامية التي تسعى إلى دولة دينية كاملة، والقوى المقابلة الليبرالية واليسارية والعلمانية والتي تسعى إلى إقامة دولة وجمهورية مدنية ديمقراطية بمشروع سياسي يقوم على مبدأ الفصل بين الدين والسياسة. وهنا يكمن التناقض والصراع الذي قد يقود إلى حالة مستمرة من الفوضى الثورية.
ولا شك أن مصر شهدت أول انتخابات ديمقراطية حقيقية على مستوى انتخابات مجلسي الشعب والشورى والتي أتت بالإسلاميين لأول مرة إلى السلطة التشريعية. وعلى مستوى الرئاسة فالجولة الثانية ستكون بين الدكتور محمد مرسي المرشح الإخواني، وهو مرشح كل القوى الإسلامية والذي يمثل الدولة والهوية الدينية، والفريق أحمد شفيق الذي ينتمي للمعسكر غير الديني على الرغم من اتهامه بأنه امتداد للنظام القديم الذي انتهى من دون شك بشفيق أو من دون شفيق، لكن الحديث هنا أنه يمثل الدولة والهوية غير الدينية أو الدولة المدنية أو هو الأقرب لها.
وفي هذا السياق ستتأرجح الجمهورية الثانية بين هذين التيارين، وفي حال فوز أحدهما ستدخل الجمهورية الثانية في حالة ولادة صعبة لا أحد يستطيع أن يجزم بهويتها وأسس شرعيتها. وإن بقي الأساس الثوري حاكما لأي تغيير أو عملية تحول.
والسؤال المهم أيضاً الذي قد تفرزه انتخابات الإعادة هل ستؤدي إلى حالة من الاستقرار والهدوء الثوري؟ وهل ستكون بداية لمرحلة من البناء السياسي الديمقراطي المدني، والتحول من الشرعية الثورية إلى الشرعية المؤسساتية؟ أم ستكون بداية لمرحلة من الفوضى الكاملة وعدم الاستقرار السياسي الذي يدفع في اتجاه جمهورية ثالثة؟ وقد يقول قائل كيف بجمهورية ثالثة والثانية لم تبدأ؟! على الرغم من منطقية التساؤل لكن بدون شك في حال فوز الإسلاميين سيبدأون العمل على تثبيت حكمهم من خلال فترة من التهدئة والطمأنة التي لن تخرج عن الهدف النهائي وهو التأسيس لجمهورية دينية. وفي حال فوز المرشح الآخر ستبدأ مرحلة من التشكيك حتى في نزاهة الانتخابات، ومرحلة من المليونيات الجديدة وخصوصاً من قبل القوى الإسلامية التي صار لها حضور جماهيري قوي، لكن في جميع الأحوال قد تستمر هذه المرحلة وسط حالة من الفوضى والعنف، وقد تطول أو تقصر لكنها ستتوقف على مدى قدرة المرشح في هذه الحالة على تقديم رسائل طمأنة والتأكيد على أهداف الثورة والابتعاد عن النظام القديم، وهكذا سنكون أمام عملية تأسيس لجمهورية ثانية ليست سهلة، وبالتالي سنكون أما خيارين، إما خيار الانهيار السريع لهذه الجمهورية، وإما البدء في بناء أسس هذه الجمهورية، وهذا يتوقف على مدى استجابة أي مرشح لصيغة التوافق السياسي التي ينبغي أن تقوم عليها هذه الجمهورية، وعلى القدرة على صياغة دستور أقرب إلى الدستور المدني الذي يؤكد على المواطنة الواحدة، وعلى الهوية التوافقية لمصر من دون غلبة لهوية واحدة، وخصوصاً الهوية الدينية الغالبة والمسيطرة.
وفي جميع الأحوال فإن فوز المرشح الإخواني سيقود إلى حالة من الهدوء والتسليم بالنتيجة خصوصاً وأن الإخوان سيشيدون بالانتخابات والعكس في الحالة الثانية، لكن في الحالتين سينتقل الصراع من مستوى سلطات الحكم إلى صراع بين مؤسسات السلطة والمؤسسات المجتمعية، وبالذات القوى الثورية منها وسيستمر هذا الشكل من الصراع حتى يتم حسمه إما بالتوافق أو بالفشل، وعلى أساس هذا الصراع سيتوقف مستقبل الجمهورية الثانية.
ولعل المعضلة تكمن في أن هوية الجمهورية الثانية تختلف عن منطلقات ورؤية كل من المرشحين، الأول يعكس هوية دينية، والثاني يعكس خلفية عسكرية مدنية في حين أن الجمهورية الثانية، وهي نتاج شرعية الثورة تقوم على الأساس الثوري والأساس المدني، وهنا السؤال: إرادة من ستنتصر: إرادة المرشح الفائز أم إرادة الجمهورية الثانية؟ هذا هو التحدي الأكبر الذي سيحدد مستقبل مصر السياسي في المنظور القريب.
ويبقى الفارق الكبير بين الحالة الفرنسية والحالة المصرية أن الأولى استغرقت أكثر من مائة وخمسين عاماً، فهل يتحمل المصريون ومصر أن تعيش هذه الحالة من الفوضى الثورية في ظل ظروف اقتصادية بالغة الصعوبة، وتهديدات داخلية تهدد أمن وهوية مصر الداخلية، وتهديدات إقليمية ودولية كثيرة تتربص بمصر وتريد لها أن تبقى في حالة من الضعف والصراع حتى يسهل السيطرة على العالم العربي كله ومعه العالم الإسلامي ولننسى القضية الفلسطينية وغيرها من قضايا الأمتين في البقاء والتنمية والتطور؟!. <!--EndFragment-->
نشرت فى 14 يونيو 2012
بواسطة mhmadshoo
عدد زيارات الموقع
272,231
ساحة النقاش