عبد الإله بلقزيز:
"الاجتثات"، "الحل"، "العزل السياسي"، مفردات دخلت القاموس السياسي للمعارضات العربية، بعد إذْ صارت سلطة أو جزءاً من تركيبة السلطة، ولبعض "الشارع" العربي الذي يأكُل دهاقنةُ السياسة الثوم بفمه، فيَبْنُون على "شرعيته الثورية" شرعيةً لأفكارٍ أقل ما يقال فيها إنّ استبدادية الأنظمة المُطَاح بها أرحم من استبداديتها.
إذا كان عهد النخب الحاكمة الجديدة سيبدأ من هذه البداية البائسة، من الاجتثات، والحلّ، والعزل، فيقصي جمهوراً عريضاً من دائرة الحقوق السياسية، حقوق المواطنة، فإلى أين- يا ترى- سينتهي بنا غداً حين يخلو له الجوّ، ويَحْلُو له مذاق السلطة؟ فالمعلوم من التاريخ الإنساني، ومن تاريخ السياسة فيه، أن الاستبداد والديكتاتورية يبدآن من نقطة صغيرة، وغالباً باسم مبدأ أعلى "الشرع، الثورة، الديمقراطية"، ويكبران مثل كرة الثلج المتدحرجة من علٍ، ثم لا يلبثان أن يُصيبا عمران الدولة والمجتمع بالخراب!
وحين يمعن المرءُ نظراً في هذه المفردات الموتورة، وقد أصبحت تشريعات وقوانين! وفي ما عساها تكون "أسباب النزول" التي هيأتْ لها شروط الوجود، سيتبين- بغير كثيرٍ من الجهد في الفحص والتقليب- أنها إنما سيقَت، من قِبَل مَن ساقوها، لتفتح لهم طريق الوصول إلى السلطة الوصول المريحَ الذي لا يعرقله تنافُسُ منافس؛ فالذين سيصيبُهم الاجتثات، والحلّ، والعزل، ذوو حيثية تمثيلية في المجتمع، وإن كانت نخبهم قد أُسْقِطت بغزوٍ خارجيّ، أو بثورة، أو بتسوية دولية- إقليمية. وهؤلاء لا يتبخرون إذا ما أخرجوا من السلطة، كما لا يتفككون سريعاً إذا ما قيّض لهم الاستمرار في العمل القانوني. ولأنهم قوة منظمة لها تاريخ عريق في التمثيل، وفي إدارة سلطة الدولة، من الطبيعي أن تكون القوة المنافسة للقوى الجديدة الصاعدة من رحم الثورة، أو الراكبةِ صهوتَها.
لقد كان حل "حزب البعث" في العراق، و"التجمع الدستوري" في تونس، و"الحزب الوطني" في مصر، مطلوباً من القوى الجديدة التي جاءت مع الاحتلال، أو سرقت الثورة، حتى يصبح طريق السلطة أمامها مفتوحاً، وكَسْبُ التمثيل والأغلبية في البرلمان متاحاً.
ولنا أن نتصور ماذا كانت ستكون عليه الصورة في العراق، وتونس، ومصر، لو لم يقع حرمان الأحزاب الحاكمة فيها "سابقاً" من المشاركة في الحياة السياسية، وفي الانتخابات!.
وليست ظاهرة شعبية المرشح الرئاسي أحمد شفيق، في مصر، أكثر من تعبير عن حقيقة الحيثية التمثيلية التي تتمتع بها قوىً اجتماعية وسياسية عوقِبت، بكل قسوة وديكتاتورية، لمجرّد أن رئيس الدولة "السابق" وأولاده وبطانته منها!
وقد نفهم أن يطال العقاب زين العابدين بن عليّ وحسني مبارك، وعائلتيهما، وكبار مساعديهما من قادة أجهزة القمع والمخابرات، ورموز الفساد المرتبطين بهما. فهؤلاء من قامت الثورةُ الشبابية ضدهم، وهم يُحْسبون بالعشرات، أو حتى بالمئات. أمّا أن يطال العقاب ملايين الناس المنتمين إلى أحزاب "حَكَمَتْ" في الماضي، ففي هذا تزيدٌ في العنف والقهر والإقصاء لا يمكن لمن يدّعي الديمقراطية أن يرتكبه.
"الاجتثات"، و"الحلّ"، و"العزل السياسي"، مفردات ديكتاتورية "جديدة"، في قاموسنا السياسي، يُنتجها عقلٌ متشبّع بثقافة الرأي الواحد، ووجدان مغمور بقيم الاستبداد. وكما كان المستبدون السابقون ينتهكون حقوق المواطنة، ومنها الحقوق السياسية، باسم الثورة، أو الوحدة الوطنية والخطر الخارجي، ينتهكها المستبدون الجدد باسم الديمقراطية. وكما كان المستبدون السابقون يسخّرون القضاء، والقانون، والتشريعات النيابية، للاعتداء على حقوق الإنسان، والحريات العامة، وحقوق المواطنة، ومنها الحق في السياسة والعمل السياسي، كذلك يسخّر المستبدون الجدد الأدوات عينَها لممارسة ذلك الاعتداء!
ما أشبه اليوم بالبارحة! ماذا تغير، إذن، في المشهد؟ هل كان من شماتة التاريخ بنا أنِ استبدلْنا استبداداً باستبداد؟!
في كل حال، توفرُ هذه "النازلة" دليلاً جديداً على أن طريقنا إلى الديمقراطية طويل وشاق، وأننا لن نبدأ في قطع أشواطه قبل أن نتشبع بالثقافة الديمقراطية والقيم الديمقراطية، وأن الديمقراطية لا يبْنيها إلاّ الديمقراطيون. <!--EndFragment-->
نشرت فى 11 يونيو 2012
بواسطة mhmadshoo
عدد زيارات الموقع
271,973
ساحة النقاش