الآن فقط فهمَ الشعب المصري أكثر من غيره أن ثورتَه الشعبيَّة والتي اندلعت شرارتها يوم 25 يناير الماضي تختلف كليةً عن ثورة الشعب التونسي، والتي توَّجَها قبل نهاية شهر ديسمبر الماضي بخلع رئيسه زين العابدين بن علي.

 

كثيرًا قالوا قبيل قيام الشعب المصري بثورته، والتي تعد الأولى من نوعها، بأنها ليست بثورة وأن المصريين إذا أرادوا محاكاة الشعب التونسي في ثورته، فإن عليهم أن يدركوا أن حالة مصر ليست كتونس، وأن الفارق بينهما شاسع.

 

إلا أن الشعب المصري كان يراهن كثيرًا قبيل انطلاق ثورته والتي يخوضها باستبسال راسخ وعزيمة قويَّة وإصرار لا يلين أنه وقت أن يصل إلى ساحة العاصمة في الميدان الذي صار الأشهر في مصر، وهو ميدان التحرير، فإن ما فعله بن علي سيفعله حتمًا رئيسهم حسني مبارك، وأنه سوف يستجيب لماكينة الضغط الشعبي وثورته في الهروب خارج البلاد.

 

وعلى الرغم مما حدث ومع تزايد حدَّة الاعتصامات والاحتجاجات في عموم البلاد، كانت المفاجأة ليس فقط للشعب المصري في ثورته ولكن لجميع دول العالم وأحراره بأن الرئيس يرفض التنحي، بل ويصرُّ على استكمال فترته الدستوريَّة، وهو ما رفضه المحتجون، معتبرين أن شرعيتَه سقطت على وقع الثورة الشعبيَّة التي جابت جميع القطر المصري، والتي ركَّزَت في مطلب أساسي هو "الشعب يريد إسقاط النظام".

 

هنا فقط ومع إصرار مبارك على عدم التنحي أو الاستقالة، أدرك كثيرون أن هناك بونًا شاسعًا بين الحالتين المصريَّة والأخرى التونسيَّة، ليس في الثورة الشعبيَّة، ولكن في سرعة الاستجابة للضغط الشعبي من قِبل رئيسي البلدين، فإذا كان بن علي قد ضاق بثورة شعبه، فإن مبارك لا يزال يصِرُّ على موقفه بعدم التنحي، ليس فقط متحديًا لمواطنيه، ولكن متحديًا لكافة النداءات الدوليَّة بحقن الدماء، وعدم الاستجابة لضغوطات الرأي العام العالمي بالاستقالة من منصبِه، أو حتى التنحي.

 

هذا الإصرار من الرئيس المصري بعدم الاستجابة لنداءات شعبِه بعدم حقن الدماء، كاد يدفع بكثيرين إلى الذهاب باستهزاء وتندر بأن بن علي كان أكثر وطنيَّة من مبارك، وأنه لم يكن فقط حريصًا على حقن دماء شعبه، وعدم استنزاف المزيد من أرواحه، بل إنه فهم بالفعل رسالتهم، حتى ولو كان ذلك بشكلٍ متأخِّر.

 

وفي المقابل فإنه بروح التحدي والإصرار في مواجهة مخالفيه، أعلن مبارك أنه سيظلُّ في منصبه حتى يكمل فترته الدستوريَّة، استنادًا إلى روح التحدي التي يتسم بها مبارك، الأمر الذي ظلَّ يجعله لا يهتمُّ بكل ما يقال حوله وعنه، وفق ما أكده مبارك أخيرًا خلال الأزمة الراهنة بأنه "لا يهمُّني ما يقوله الناس عني".

 

هنا يتعمَّق فهم التباين في موقف بن علي ومبارك في الاستجابة لضغوط ثورة شعبيهما.

 

وإضافةً على ذلك، قد يسأل البعض بأنه إذا كان بن علي يحظى بتأييد غربي جارف من جميع الدول الكبرى تقريبًا، وتخلت عنه تاليًا بعد خلعه، فإن مبارك يحظى بالقدر نفسه أو يزيد، فلماذا لم تتخلَّ عنه الدول الكبرى في لحظة قيام الثورة الشعبية يوم 25 يناير الماضي؟

 

الواقع يجيب بأن خلع بن علي كان بمنزلة إنذار للجميع من الأنظمة المستبدَّة في العالم العربي لتأخذ لنفسها الحذر، تجنبًا لعدم تكرار "سيناريو" الخلع في دولها.

 

ومن هنا يمكن فهم هذا التفسير وما تندرج تحته من محاور فرعية بالإصرار غير المسبوق من مبارك في عدم الاستقالة أو عدم الاستجابة للتنحي على نحو ما صارت تلحُّ عليه الثورة الشعبيَّة.

 

والواقع فإنه لو كان الحال بيد مبارك لأقدم على التنحي أو الاستقالة على الفور، خاصة وأنه معروف عنه الإصابة بالشيخوخة لعمره الذي يتجاوز الثمانين، وفق ما صرح به يوم الخميس الماضي بأنه ضاق به الحال، وأنه يودُّ الرحيل، ولكن مع فهم العلاقة الوطيدة بين نظامه وإدارة البيت الأبيض ومخاوفها من تكرار "سيناريو" بن علي في مصر أو في دول أخرى بالمنطقة، فإنها تعمل جاهدةً على جعل نظام مبارك قائمًا، حتى ولو استمرَّ تاليًا خلال الأشهر المقبلة ضعيفًا بفعل الثورة الشعبيَّة، وحتى لا ينتقل "سيناريو" خلع مبارك إلى دول عربيَّة أخرى، ذات حلف وثيق مع الولايات المتحدة، وتحظى العلاقة المشتركة معها بتحقيق للمصالح الأمريكيَّة.

 

وعليه، فإنه يمكن فهم التناقض بين جميع النداءات الأمريكيَّة للرئيس مبارك خلال الفترة الأخيرة بضرورة وسرعة الانتقال السلمي للسلطة وفورًا، وتناقض ذلك مع ما دار في داخل الغرف المغلقة، وفق ما ظهرت تداعياته سريعًا بعد مقابلة مبارك للمبعوث الأمريكي أثناء اندلاع الثورة، حيث أعقب ذلك محاولة فاشلة قادها مجموعة من أذناب الحزب الوطني الحاكم وفلول الشرطة السريَّة على المتظاهرين في ميدان التحرير باستخدام المجرمين، على خلفيَّة ما طالب به المبعوث الأمريكي مبارك بسرعة التدخل لوقف الأزمة، وعدم تدهور الأمور تجنُّبًا لمحاولات حدوث أي فراغ في السلطة يمكن أن يعطل المصالح الأمريكيَّة في المنطقة، ومن ثَمَّ يهدِّد أمن إسرائيل، وتجنبًا لمنع اقتراب الإسلاميين من السلطة، إضافة إلى عدم وصولهم إليها.

 

إلا أن الفارق بين مبارك وبن علي فيما يتعلق بالضغوطات الشعبيَّة لخلعهما وعلاقة الأمريكيين بذلك، أن الأول حرص ولا يزال على الإيعاز للغرب بأنه في حال تنحيه سيتولى الإسلاميون الحكم في مصر، ومن ثَمَّ تهديد المصالح الأمريكيَّة، فضلاً عن حرصه (مبارك) على أن تكون أمريكا في دائرة صنع القرار بمصر، ومن ثَمَّ قرار انتقال السلطة، في الوقت الذي فاجأ فيه بن علي الغرب ذاته، فضلاً عن شعبه بسرعة خروجه، ومن ثَمَّ كان عقابه بعدم استقباله في أيٍّ من دوله.

 

وإضافة إلى ذلك، فإن مبارك يدرك جيدًا أنه في حال تنحيه فإن نظامه بالكامل سيكون قد سقط، وليس كما هو معروف في دول العالم المتقدم بعدم مركزيَّة القرار، حيث يعرف في مصر أن الرئيس هو الذي يتخذ القرار، وأن كافة الأمور تكمن في شخصه، وأنه وحده صاحب القرار، وأنه يستحيل لأحد غيره سواء من الوزراء أو دونهم اتخاذ قرار يرفضه الرئيس، أو معارضة ما يقرِّرُه أيضًا الرئيس.

 

وهنا قد يتساءل البعض بأن ذلك قد يتشابه فيه مبارك مع بن علي، فما الفارق في فرار الأول وصمود الثاني حتى اللحظة؟ كافة المؤشرات تجيب بأن بن علي لم ينتظر كثيرًا، وحرص على تأمينه بشكلٍ سريع، بعدما أدرك خطورة الوضع، ووقع الاستقالات أو الإقالات بين مستشاريه، حتى وجد نفسه وحيدًا في ميدان مواجهة شعبه.

 

ومن هنا استوعب مبارك الدرس جيدًا في ظنِّه على الأقل، بضرورة عدم التسليم سريعًا أو الاستجابة الفوريَّة للمطالب الشعبيَّة، واللعب على وتر دغدغة عواطف الشعب المصري بدعوى أهمية الخروج الكريم لمبارك، فضلاً عن ماكينة الإعلام الرسمي الذي لعب على وتر الانقسام بين المعارضة، وأن هناك عملاء مأجورين اخترقوا صفوف شباب المتظاهرين، إلى غير ذلك من الدعاية الإعلاميَّة للتأثير السلبي على ثورة الشباب.

 

المصدر: موقع الإسلام اليوم.

meetelhaloog

أهلا بكم فى موقع ميت الحلوج - موقعنا كلنا

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 72 مشاهدة

ساحة النقاش

ميت الحلوج

meetelhaloog
لكى يعلم الناس ان كلماتنا كالعرائس اذا عشنا من اجلها ومتنا فى سبيل تحقيقها دبت فيها الحياة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

38,265