يبدو من تطورات المشهد الحالِي في مصر، ساعة كتابة هذا الموضوع صبيحة اليوم الثاني عشر لثورة الشباب، أنَّ النظام مُصِرٌّ على التمسُّك بمواقعه حتى الرَّمَق الأخير، بينما يتمسَّك المتظاهرون بنفس سقف مطالبهم، دون تراجع أو وَهَنٍ، ما يجعل حَسْمَ الصراع بالنقاط وليس بالضربة القاضية، هو الأمر المرجح، وهنا يتزايد دور الجيش، باعتباره القوة الرئيسية على الأرض، والمؤسَّسة الوحيدة التي ما زالت تملك الشرعيتين؛ الدستورية والشعبية.
وإذا كان نزول الجيش للشارع قد منع تحوُّل البلاد إلى الفوضى الكاملة بعدما انهار جهاز الشرطة في ساعاتٍ قليلةٍ، فإن هذا النزول صاحَبَه أيضًا احتفاء واسع من المتظاهرين، ما يجعل منه القوة الوحيدة المؤهِّلة للعب دور الضامن لأيِّ اتفاق قد يتبلور بين المتظاهرين والنظام، خاصةً أن نائب الرئيس اللواء عمر سليمان ورئيس الوزراء أحمد شفيق، اللذين يُرجَّح أن يقودَا المرحلة الانتقالية، هما من أبناء المؤسسة العسكرية، ويَحْظَيان بسمعةٍ طيبةٍ على صعيد طهارة اليد، وهو أمر مُفْتَقد في باقي أفراد النظام جملة.
تشابُه واختلاف:
ويبدو دور الجيش المصري الحالي قريبًا من نفس الدور الذي لعبه الجيش التونسي قبل أسابيع، حيث رفض جنرالات تونس إطلاق النار على المتظاهرين أو حتى قمعهم، ثم دفعوا الرئيس ابن علي لمغادرة البلاد، وعندما استمرّ الشباب في التظاهر لإقصاء رموز العهد البائد من الحكومة، بقي الجيش على الحياد مكتفيًا بضمان أمن البلاد والمتظاهرين، وعندما أقصي هؤلاء وجرى تعديل الحكومة أعطى الجيش إشاراتٍ للمتظاهرين بأن جُلَّ المطالب تحقَّقت، ويجب استئناف الحياة لإصلاح ما تدمَّر.
أما في مصر فالوضع يختلف قليلاً، فـ"ابن علي" أقصى الجيش لصالح جهاز الأمن، لكن مبارك حافظ –نسبيًّا- على قُرْبِه من المؤسسة العسكرية، إضافةً لتمتعه بشرعية "انتصار أكتوبر"، ولذا لم يكن مطروحًا أن يدفع الجيش مبارك لمغادرة البلاد، فهذا لا يتفق مع طبيعة الشخصية المصرية المتسامحة، كما أنَّ الجيش لن يسمح بإهانة أحد رموزه، وربما يكون ذلك شعورَ شريحةٍ كبيرة من المصريين.
لكن كل ذلك لا ينفي أن جنرالات الجيش، كغيرهم من المصريين، حانِقِين على الفساد والتسيُّب الذي ساد البلاد في السنوات الأخيرة، أي أنه يؤيِّد شعار المتظاهرين في "إسقاط النظام" لكنه يختلف معهم في الطريقة والسيناريو.
صمت سياسي:
ولذا فإن الجيش يلتزم -حتى الآن- الصمت "السياسي" مكتفيًا بأداء دوره في حفظ الأمن، والخلل الوحيد حدث عندما جرَى السماح لجماعات البلطجية بالوصول إلى ميدان التحرير والاعتداء على المتظاهرين، ويبدو أنَّ البعض ممن يتشبّث بمنافع النظام الحالي قد أوْحَى لقيادات في الجيش بأنَّ هؤلاء البلطجية مجرَّد متظاهرين عاديين يريدون التعبير عن تأييدهم لمبارك، وأنَّ الجيش يجب أن يبقى على الحِياد بين الجانبين، لعلَّ وجود شارعين متناقضين يسهِّل حلّ الأزمة، بدلاً من سقف مطالب المتظاهرين المرتفع للغاية، هكذا -على ما يبدو- جرى تصوير الأمر للجيش.
لكن ما حدث على الأرض كان مختلفًا للغاية، ووضع الجيش في حرج بالغٍ، وزاد من الحرج أن التعليمات للجنود الموجودين في ميدان التحرير كانت بعدم التدخُّل والبقاء على الحياد، وطبقًا لتسلسل القرارات المعمول به في الجيش، فإنَّ تغيير التعليمات يتطلب وقتًا طويلاً، وعندما حدث ذلك كانت المذبحة قد وقعت بالفعل، وأدرك الجيش أنه قد تورّط، وأن هناك من أراد الإساءة إليه، ولذا فإنه أعاد نشر قواته في الميدان لتأمين المتظاهرين، ونزل وزير الدفاع بنفسه صباح الجمعة لتفقُّد الوضع، كما أدار حوارًا قصيرًا مع المتظاهرين.
معادلة معقدة:
وبالطبع فإنَّ الجيش يضغط بقوة من أجل إنهاء الوضع الحالي، فهو من ناحية لا يريد التورُّط في سحق المتظاهرين كي لا يُلطِّخ تاريخه الوطني الناصع بدماء الشعب، فضلاً عن أن هذا السحق سيزيد الأمور سوءًا باعتبار أن الثورة ممتدة في طول البلاد وعرضها، وليست مقتصرة على ميدان التحرير، ومن ناحيةٍ أخرى فهو لا يريد الطلب صراحة من الرئيس مغادرة الحكم، لاعتبارات تتعلق بتاريخ الرجل العسكري وعلاقته بالجيش.
لكن في المقابل فإنّ الضغوط تتزايد على الجيش، داخليًّا وخارجيًّا، خاصة أن الولايات المتحدة ودولاً أوروبية بدأت تُلوِّح بفرض عقوبات على مصر بسبب قمع النظام للمتظاهرين، وبالفعل جمّدت ألمانيا صادراتها العسكرية، وهناك إشارات أمريكية بتجميد المساعدات العسكرية.
وهكذا يجد الجيش نفسه في مأزِق بالغٍ، فهو صمام الأمان كي لا تنتقل البلاد للفوضى الكاملة، كما أنه الطرف الوحيد الذي يتمتع بثقة الجميع، وهو أيضًا الوحيد الذي يملك القدرة على الحسم، في أي اتجاه يشاء، لكن تعقيد الأمور يجعله يفضِّل تأخير هذه الخطوة، والضغط غير المعلن لإنضاج تسوية توافقية بشكلٍ سريعٍ، والسرعة هنا هامة للغاية؛ لأنَّ الشارع العادي بات محتقنًا للغاية؛ بسبب غياب الأمن وتعطيل المصالح والأشغال، وهذا الاحتقان إذا ما تحوَّل إلى عنفٍ، سواء تجاه المتظاهرين أو حتى بين المواطنين أنفسهم، فإن سيناريو الفوضى المخيف سوف يُطِلّ برأسه.
سيناريو أخير:
وإذا ما أطلَّ هذا السيناريو فلا يستبعد أن يتدخل الجيش لفرض صيغة للحل، يتولَّى بمقتضاها الفريق سامي عنان رئيس الأركان قيادة البلاد لمرحلة انتقالية، يتم خلالها ترتيب الأوضاع داخل البلاد، ومن اللافت أنَّ اسم عنان ورد في إحدى صيغ الحل التي طرحها المتظاهرون، عبر تشكيل مجلس رئاسي يتكون من عنان ووزير الدفاع المشير طنطاوي ووزير الخارجية السابق عمرو موسى ود.محمد البرادعي، ود.أحمد زويل.
ويوصف عنان بأنه عسكري مُحْتَرِف ومنضبط، وهو يتمتع بسمعة طيبة وشعبية كبيرة داخل الجيش، ويلقى احترامًا كبيرًا في الأوساط الخارجية، لكن المشكلة هي أن حكم الجنرالات لم يَعُد مُستساغًا في العالم، كما أنَّ ذلك السيناريو، ربما يزيد توريط الجيش في الأزمة ويشغله عن دوره الرئيسي في حماية سيادة وحدود البلاد، ولذا فإن الكثيرين يُفضِّلون طرحه كخيارٍ أخير لتجنب الفوضى.
وإذا كانت سيناريوهات الحل معقدة ومتعددة، ومن الصعب ترجيح أيٍّ منها، في ضوء تعدُّد الأطراف المتداخلة في كلٍّ منها، إلا أن الأمر المؤكد حاليًا هو أن هناك شرعيتين وحيدتين في البلاد، هما: شرعية الجيش وشرعية الثورة، وقد أضاف الجيش -حتى الآن- لنفسه شرعيةً معنويةً ثالثة، فبعد شرعية ثورة يوليو، وشرعية العبور العظيم في أكتوبر 73، أصبحت هناك شرعية "حماية ثورة الشباب"، وربما تكون هذه هي الشرعية الأقوى؛ لأنها مُوقَّعة باسم 80 مليون مصري، اتفقوا على الجيش كضمانة للأمن والاستقرار، وربما تجعله الأيام المقبلة في موضع الضامن والحارِس لمنجزات هذه الثورة، ومنع الانقلاب عليها.
المصدر: موقع الإسلام اليوم.
ساحة النقاش