authentication required

                                                

المداخلة: العرف الجمعي وآليات التأويل النسقي

توطئـــة

تحمل الكلمة اللغوية كمونيا تاريخها وقابليتها على الاستمرار والتواصل الحلقي في أحواز الممارسة البشرية المتعالق بعضها ببعض لتغدو جسما مترامي الأطراف يظلل خبرات الأجيال بطرفيها القدماء والخلفاء، ويرْشح بأنماط لا حصر لها من تجارب الإنسان المتعاقبة على طول خط التاريخ.

إن الكلمة اللغوية تعبر عن مراكمات الخبرة التي شادت صرحها أجيال تترى أكثر من تعبيرها برموزها، ولا يبعد عن هذا المعنى ما تناسل في أدبيات العرب من قولهم : " كل إناء بما فيه ينضح " ، وليس من إناء ـ بهذا الاعتبار ـ غير الألفاظ ( الرموز)، وما من نضح غير شحن الكلمة بركام الخبرة.

بهذا المعنى يمكننا قراءة نسقية الدلالة إن على مستوى المفردة، وإن على مستوى الجملة فالعرب ـ مثلا ـ في المستوى الأول كانت تسمي الناقة " راحلة " باعتبار الفعل الملابس للممارسة " الرحلة "، أما إذا رصدت تلك الناقة لسقاية البستان واجتلاب الماء سميت " ناضحة ونواضح "، وإن أريد بها القربى والهدي سميت " بدنة وبدن " .

فتحرير المعنى دوما يتوسل إليه بسياق يثبته عرف الجماعة ليغدو أشبه بعملة صكت ودمغت في فرن التعاملات الاجتماعية، فصارت ذات قيمة معيارية يعاد إليها في أحوال مخصوصة ، وتبقى محتفظة بذلك التخصيص والتقدير، وتمتلك معه نسقا حديا لا تبرحه مثلما تمتلك المفردة حروفها للسفارة عن معناها، ثم يأتي مستوى الجملة فيمارس علينا نوعا من الانتخاب في اختيار لفظة دون أخرى بحسب مقتضيات المقام المقالي أو الحالي، وتظل اللفظة في جملة موقعياتها باقية على عوالقها المعرفية أو ما يمكننا تسميته بالبصمة الذات.           

إننا نفكر بأنساق نمطية ونتواصل ضمنها وفق ما نشّئنا عليه، وتكلس فينا ثقافة، وإن لغتنا ليست ـ بالواقع ـ من صنعنا ولا مما عملته أيدينا لأنها تقليد موروث عن الجماعة اللغوية التي تفرض علينا ناموسها القاهر الذي يوجه تفكيرنا وطبيعة مواقفنا من القضايا والأشياء والأوضاع، ونحن حين نتواصل نحيل عمليا على أشكال عدة من خبرات من سبقوا ومن لحقوا في شكلها الجمعي، ونترجم عنه تحت اسم اللغة، وبمعنى آخر إن دينامية المعنى ذات قوابل مفاهيمية رجعية في الغالب.  

وعليه فليس ثابتا ما يساق من أن الأسلوب هو الرجل ففي حالة النص الأدبي ـ مثلا ـ نجد أنفسنا على أقل تقدير قبالة ثنائية: طرفاها رجلان: النص الذي يقرأ نفسه ويعلن عنها ( ظاهر المقام )، والثاني القارئ الذي يقوم بمفاعلة النص بخلفيته الإسقاطية من الذات على الموضوع ( باطن المقام )، ودائما ضمن حدية ثلاثية الزوايا: الذات الفاعلة المنفعلة اللغة ( شيفرة ) ... الموضوع وهو حمال أوجه غائرة في امتدادات متعقدة إلى حدّ التشابك.

à       مادة المبنى " لغة " ومدلولها اللغوي

وهنا لا بد من تحقيق مادة الاصطلاح الدلالي " لغة " ذاتها باعتبارها رافعة لا تخلو من بعد إيحائي لا يجب إغفال معالجته عند أي دراسة وعلى عادة بعض الأقدمين في تصدير مباحثهم بتحريرها لغويا واصطلاحا:

فاللغة تبعا للتحقيق اللغوي شكل لفظي مثقل بحمولة العموم من جهة المعنى فيراد منها الإفادة وعدمها، وكان مجيئها في النص القرآني منحصرا في المفهوم الأخير أي عدم القصد، وانحلال العقدة بين النية والفعل، فاللغة: بمعنى اللغو " وهو أخلاط الكلام، وما لا قصد له بإرادة ومنه قول الشاعر:

ولست مأخوذا بلغو تقوله     إذا لم تعمد عاقدات العزائم " (1).

        وكان العربي يفضل إطلاق كلمة اللسان على لغته العربية، هروبا من المعنى الثاني ويطلق '' على اللهجات السامية كلمة " لغة " من لغا يلغو وما يتضمن حرف الغين لما فيها من غموض وإبهام '' (2).

        والظاهر أن هذا الغموض نسبي لأن كل من لا يعرف لغة غيره ينسحب عليها هذا الوصف التعميمي الشمولي.

        والحق أن اللغة بالمدلول الشائع في أدبياتنا اليوم يقابل اصطلاح اللسان في النص القرآني ليغدو المفهوم الأخير( اللسان ) تخصيصا للعموم الذي تحتمله مادة " لغة " في الأدبية اللغوية.

ولقد تخصصت مادة " لسان " في التوصيف القرآني بمعنى الكلام العربي المبين غير ذي عوج ، فهو عربي و " مبين " أي في الطبقة العليا من الكلام علوا ينقطع به عن المجاراة والطمع في معارضته لحد العجز، وأنه غير ذي عوج أي متسام على الطبقة الدنيا من كلام العرب، ومستبشع الأساليب في لغاتهم.

لهذا كان النص القرآني مالكا لزمام المبادرة في تقويم الأسلوب العربي وتوجيهه في غير تبعية، ]لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا ( (3) ، ذلك أن أسبقية اللغة على النص القرآن لا تعني سدادها بالمطلق بدليل أن لهجة مكة غير لهجة المدينة، أو لهجة الأوس غير الخزرج، وليس كل العرب شعراء وخطباء.

        كما يتسع مدلول اللغة لينصرف لمادة " لهجة " بمعنى : صور الأداء والنطق عند كل قبيلة والتي تجعلها تحتاز خصوصية صوتية تختلف بها عن الأخرى، واللهجات وإن تعددت فإنها بالنهاية امتداد لأم واحدة هي العربية اللسان، أو كما عبر عنها فيما بعد على سبيل التغليب لسان قريش.

وربما صار الأمر بآخرة ـ في تصورنا ـ مع شيوع الدرس والبحث، وتمايز العلوم إلى اختصاص مادة " اللسان "  بالدلالة على الكلام القرآني ، ومعه العربية الرسمية لغة الدين والدولة، وسحب مصطلح اللهجات على القراءات القرآنية ذات المنشأ المتصل بالواقع اللهجي السائد جزيرة العرب يومها، ثم عادت مادة " لغة " دالة على اللغات الأخرى كالسامية تمييزا لها عن العربية. 

مما يعني أن مادة اللغة اتسعت دلاليا على محاور ثلاثة من حيث المبدأ ولم تتمايز دلاليا إلا بعد النظر وإعمال الدرس:

فعلى المحور الأول : تحركت دلالتها " لغو، ولغة " بمعنى المطرح من القول وما لا يعتد به، ولم يخرج على جهة الإرادة والقصد ـ كما أشرنا ـ .

أما الثاني " اللسان " أي الكلام ذو اللفظ المفيد بالقصد إليه وعقد القلب على إرادته ولذا قالت العرب: وجرح اللسان كجرح اليد.

أما الثالث:  " اللهجة " فهو الكلام الذي لم يحتج به جامعو اللغة لانعدام الثقة بحجيته اللغوية، فأنزلوه منزلة اللهجة، وهذه الفكرة ترجمها قول أبي عمرو بن العلاء للسائل : " كيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهو حجة ؟ فقال: أعمل على الأكثر وأسمي ما خالفني لغات " (4)، وبالتالي فهذا النوع من الكلام أدون من مستوى اللسان، وإن أفاد كلاما وقصدا عند أهل اللهجة .

فالفرق بين اللسان واللغة فقط من جهة النية، واللغة أعم وأوسع مدلولا من اللسان، أما اللهجة فإن داخلة في مدلول " لغة " فلا صلة لها بدلالة اللسان بالمعنى المحرر في النص القرآني الكريم.

وفي كل هذا نمارس نوعا من التأويل الذي يتيحه منطق اللغة المتسق مع نمط رؤيتنا للأشياء من موقعية قبلية لسنا نحن من وضع تفاصيلها.

à       المدلول المصطلحي لمادة " تأويل "

وإلى هذه النقطة يفترض بنا أن نتوقف عند المدلول المصطلحي الذي تحيل عليه لفظة " التأويل " محاولين ربطها بالجوانب التي لها علاقة بموضوع إشكاليتنا، رغم ما أصبحت تثيره هذه اللفظة حديثا من مفارقات تحوم كلها حول المصطلح من حيث كونه: علم، أم فلسفة، أم منهج، إيديولوجيا..

فالتأويل بحسب المعجم العربي : " نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ.. والفرق بينه وبين التفسير الذي من فسر : كشف المراد عن اللفظ المشكل، والتأويل رد أحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر " (5).

ولعل الفرق بينهما ألمح إليه الجاحظ حين يفرق بين " البيان والتبيين "، والذي هو ـ في نظرنا ـ من التفسير والتأويل. فمفهوم التفسير قد يراد منه رد القراءة إلى النص أي أن النص يقرأ نفسه ويعلن عنها ابتداء، وفي حالة النص السماوي تتم مفاعلة النص بقوابل معرفية منها : أسباب النزول، الأحاديث، فهوم المفسرين.. أما التأويل فهو نوع من القراءة الإسقاطية التي نمارسها، ونحن نحشد لأجلها الحجج والقرائن التي تدعم رأيا، أو تنقض آخر، ولكن دائما في رحاب ما تكلس في ثقافتنا الجمعية من مراكمة معرفية، ومعيارية للصواب والخطأ وسيولة المعنى هي دوما في ذهن المؤول.

à       الصورة الذهنية ومنطق اللغة

إن صورة الأشياء في الأعيان هي غيرها في الأذهان، ولهذا كثيرا ما يستند إلى المحسوسات في التقريب بين المدركات  وإحالاتها في مخيال المتلقي لتغدو معيارا محققا للمعنى، وهو ما يسميه عبد القاهر معنى المعنى ولعل منه قول المتنبي : فإن تفق الأنام وأنت منهم  **  فإن المسك بعض دم الغزال

فلم يكتف الشاعر بإيراد المعنى بحرفيته حتى وصله بصورته الإبداعية المتخيلة حيث ينشط ذهن المتلقي لمرافدة مجال العلاقة بين دعوى الشعور بالتفوق على الأنام، ومسك الغزال وعلاقته بدمه، فالمعنيان بالصدر والعجز شبيهان بالعملة الواحدة لا تعرف أيهما أول، وأيهما أسبق حضورا إلى ذهن المبدع .

وإن كان الظاهر من أحوال اللغة ومنطق التسلسل التاريخي في النشأة يشي بأنها قامت أول أمرها على تعقل الصور الحسية كخطوة أولى، وهي المسألة التي أشار إليها ابن خلدون في مقدمته حكاية عن ابن الوزير الذي ولد ونشأ في السجن، وكان يؤتى له بلحم البقر أو الإبل أو الغنم ، فيفرط في محاولة تركيب أجزاء صورة هذه المخلوقات ومقاربتها بشكل الفأر الذي اعتاد رؤيته في سجنه، فيسأل والده بدافع التعرف إلى كيفياتها وماهيتها دوما بمقياس فأري، فيشرح الأب له أنها على الصورة كيت وكيت، ومع ذلك يبقى الابن يتعقل المسائل بصورة شائهة مشوشة.

والواقع أن لا غنى لأي كان عن تحقيق المطابقة بين الصورة الحسية في الأعيان بنظيرتها في الأذهان.

 إن تلك الصور الذهنية المكتسبة بإجراء الأشياء على مثيلاتها ومقايستها على بعضها تتيح لنا إمكانية عرضها بنفس الوضوح والإبانة التي هي عليها في عالم الوجود والشهادة اتقاء اللبس والتشاكل.

ولأن منطق الصورة غير منطق اللغة فيتوجب المحاذرة من الوقوع فيما وقع فيه الابن خاصة ونحن نتحدث عن مفاهيم ذهنية لا يتأتى لنا التعاطي معها وفق التعريفات الحدية القائمة على الثنائية والضدية المتاحة لغة، إذ ليست كل المعاني والفهوم على درجة واحدة من الوضوح والبيان، وقصدنا بمنطق اللغة هو تعبيرها عن ذاتها استقلالا برموزها، ومواضعاتها.

وعالم الصغار أقل إدراكا لتلك الاستقلالية واستجابة لها، حيث لا يمكنهم التعرف إلى كثير من المعاني المجردة إلا في تمراحلات عمرية متأخرة فهم لا يعون الكثير من المعاني المجردة مثل النضال والعزة ومعنى المقدس والتضحية.. 

ويكاد الإغراق في الحس والتجسيم سمة مطردة عند المجتمعات التي تصنف لغاتها في خانة القديمة، وقد خلد الفراعنة ذلك كله بآثارهم التي امتدت إلى رسم حروف الكتابة، وتوثيق نمط الحياة اليومي، والرحلة للعالم الآخر وغير ذلك مما وجد محفورا في معابدهم وعلى مقابرهم وأشيائهم..

وربما انطبق هذا الوصف على العربية كونها لغة تصويرية تكثر فيها الاستعارات والكنايات والتشبيهات حتى قال المبرد ما مؤداه: لو قال قائل ثلاثة أرباع الكلام العربي قوامه على التصوير ما كان مخطئا، وهو الأمر ذاته الذي حذا بالعقاد في أن يبتدع ـ فيما نتصور ـ طريقة المقابلة بين الكلمات داخل اللغة الواحدة مفترضا مستويين من التعامل معها: مستوى لغوي وهو الأصل الخامي، والثاني اصطلاحي منفرع عن الأول. وهدف العقاد من هذه المقاربة التأكيد على حظ اللغة العربية من القدم بالقياس إلى غيرها ليجعلنا نخلص في الأخير إلى أنه لا يستبعد أن تكون هي الجدة اللغوية للغات السامية*.

وتقوم طريقة العقاد على تأثر '' اشتقاق أسماء الحيوان فيها، فإن اللغة التي ترجع الأسماء فيها إلى مصدر مفهوم من مصادرها تسبق اللغات التي تتلقى هذه الأسماء جامدة أو منقولة بغير معنى يؤديه لفظها الدال عليها في أحاديث المتخاطبين بها… يقال أسد الكلب للصيد أغراه به، وأسد عليه اجترأ، وآسد بين القوم أفسد بينهم وكذلك معنى الكلب من العض أو القبض والفرس من حدة النظر والاستعانة به على الافتراس، والحمار لونه الأحمر الذي يشبه رمال الصحراء  حيث عرفه العرب قبل انتشاره في سائر الأقطار، والبغل من مادة في اللغة العربية أصيلة في معنى الخلط والنسب المدخول، وكل ما هو مدخول غير خالص أو صريح ويشبهه الدغل والزغل والنغل والوغل والغين واللام بمعنى الغل الذي يخامر الصدور، والجمل من مادة الجمل بمعنى الضخامة ، والخروف منسوب إلى موعده في الخريف، وهكذا عشرات الأسماء التي تدل على وجود هذه اللغة في أقدم عهد عرفت فيه الأمة هذه الحيوانات " (6).

        ولأمر ما شاع عند النحوية الكلمة الجامعة << المصادر أصل الاشتقاق >> تنبيها منهم على أن المصدر يحتفظ بشحنته الدلالية التي يمارس في ضوئها سلطة استقطاب ممركزة يدور في فلكها كل معنى خاصا كان أم عاما.

وربما رأى البعض أن تلك خصوصية عربية تختلف بها عن " اللغات الحديثة (التي ) يغلب عليها الطابع الإجرائي فتبتعد باستمرار عن أصولها، وتستقل بنفسها متخذة من الحاضر حاضرها هي " (7)

ولا نتصور التخصيص قاعدة عامة لا للعربية ولا لغيرها من اللغات القديمة مادامت اللغة بنت الاجتماع البشري، ومن أبرز خصائص هذا الاجتماع التحول والتطور والتبدل، والأكثر تأثرا وتبرمجا مع أحوال التطور تلك اللغة، كما أن التجربة تقضي بأنه حتى اللغات المفترض حدثانها هي طبعات معدلة ومحورة عن أمهاتها القديمة، ولا يعقل أن تنشأ لغة ما نشأة عدمية كون التجربة الإنسانية مكرورة مستنسخة وإن اختلفت في الجزئيات والشكليات المتلقاة على أنها جوهر وأصل عند البعض، ويبقى الكون دوما قاموس الإنسان الأمثل الذي يعاد إليه كلما دعت الحاجة. يقول أحد الباحثين ـ وهو ستيفن أولمان ـ مشيرا إلى " القصة التي كتبها ستيوارت تشيس عن رجلين أحدهما إنجليزي والآخر فرنسي عزلا عن العالم في جزيرة صغيرة ، فبالرغم من أن كلا منهما كان يجهل لغة الآخر ، فقد استطاعا أن يتفاهما بالإشارة طالما كان الكلام محصورا في الأشياء المادية المحسة " (8).

 مما يعني أن اللغة بنت الحاضنة الحسية، وأن تجريداتها ذات بيداغوجيا شيئية، فنحن ـ مثلا ـ لا نعرف الصورة الحسية للشيطان إلا من خلال منطق لغوي يبرزه في صورة أدعى لاستحضار نماذج القبح والبشاعة تتفق وفكرتنا عن الشيطان المتذهنة، ولكل مجاله الإدراكي في تملي تلك الصورة في حسه، تبعا لمتاحات اللغة في شكلها اللفظي العارض لمادة " شيطان "  كمدلول.      

وقد أثار المعتزلة بدورهم قضايا اللغة تلك ونشأتها ضمن إشكالات المعرفة كما تعرب عنها قصة حي بن يقظان، فحي بطل القصة رمز ' الإنسان ' الذي يفاعل الحياة، ويحاول أن يعطي لوجوده معنى في ضوء ما يحصله من معرفة لدنية ميدانها الوجود وطريقها العقل وحصادها التجربة .

ومن يقرأ القصة سيرى كيف أن حيا هذا لما بلغ سن الهداية بدا متسائلا باحثا عن الحكمة من وراء الوجود ككل بمداخله الثلاثة: كتاب الله المفتوح ( الكون)، ( الخالق )، ( الإنسان ) ساعيا لالتماس الإطار الفكري الجامع لكل ما يحيط به في هذا العالم الصارخ بتناقضاته.

 وسيعمل حي هذا ما وسعه العمل إلى كسر جدار الصامت القاتل الذي يلفه، ومجاوزة عزلته الرتيبة ليتحول عبر ركام ذلك كله إلى الإنسان العرفاني الذي لا يتوقف عن المساءلة لأجل أن يعرف، ويعرف ليرتقي، ويرتقي ليعطي للحياة بعدها ومعناها الإنساني المعقلن ضمن نسق عام منقدح عن جملة المحسوسات المطروحة في طريقه ليعيد الفكر تشكيلها وصياغتها ونقلها من صورتها الحسية إلى صورتها اللغوية المجردة، وهنا تبدأ العتبة الفارقة التي تبدأ معها اللغة تلج نسقا جديدا وحياة جديدة عندما تمنطق ذاتها في بعدها الإنساني الخالد.

à       أدبية التأويل والنسق الجمعي

رأينا كيف أن اللغة تنتقل من وضع وجودي حسي إلى وجود صوري مستقل تترجم به اللغة عما يتكلس في الأذهان من أثر الخبرة الحسية التي تعين الإنسان على الاقتصاد في المعنى، وتجاوز حاجز الكمية، فصورة الشجرة متذهنة لا تختلف عن صورتها منظورة الأمر الذي يغني عن استحضارها في أحوال التواصل، ويبقى الاختلاف فقط في التصورات دون الماهيات .

ولذا فإن الإشكال يطرح في دائرة التصورات حال البحث في حقيقة اللفظ اللغوي خاصة ما تعلق منه بحمولة تاريخية عراها الغموض، مما يتعين مساءلة ذلك التاريخ الذي لا يكشف عن بعض آثاره إلا بالعودة به إلى استعمالاته الأولى مما يعني أن الدلالات اللغوية كيفما اختلفت طرق توليدها لا تخرج بالنهاية عن نسق ناظم للفظ ومعناه برباط المناسبة تماما مثلما تتجاور الكلمات وفق النظم الإعرابي، ومثلما تتساوق الصورة المعنوية بإحالاتها الشهودية المتحققة على الأرض ومن سبيل هذا المعنى: أننا كثيرا ما نسأل في ثقافتنا الدارجة عن الشخص الغائب فيقال لنا ـ مثلا ـ أنه '' خاطر '' ، وإذا عدنا إلى المعنى الذي لا بسته اللفظة فلا نجد أية صلة بين دلالة سفر وسافر ومسافر كمفاهيم معجمية وبين الاستعمال المعنوي الذي رست عليه لفظة " خطر " ، و " خاطر " في النسق المجتمعي العام غير أننا بقليل من التأمل والعودة باللفظة إلى منابت الخبرة الأولى سنرى كيف أن نسقا استعماليا بعينه يحتاز فضاء دلاليا ظاهرا على سائر المعاني الأخرى التي تصاحب فعل السفر.

فدلالة السفر قديما ارتبطت بمعنى الخطر كونه الحدث الأبرز في الرحلة إذ كان المسافر عرضة لكل أنواع الخطر المترصدة، فقصاد البقاع المقدسة قديما ـ مثلا ـ ينطلقون في رحلة الحج من الجزائر فتمتد بهم زمنيا إلى سنة أو تزيد قليلا ريثما تكتب لهم العودة في قابل العام وهم في رحلتهم تلك عرضة لأخطار لا حصر لها في طريقهم مثل: اللصوصية، الأمراض والأوبئة، الظروف الطبيعية القاتلة، فتك الحيوانات المفترسة..

وهكذا تختزل كل جزئيات مشهد الرحلة في حلقة بعينها يعبر عنها شعبيا بلفظ فلان '' خطر ''، ونحن لا نعرف مدلول هذه اللفظة إلا بالرجوع إلى تاريخها القديم الشاهد على ميلاد اللفظة للكشف عن وجه التناسب بينها وبين نسقها الجمعي. 

وبالتالي فجملة المواضعات التي يتواطأ عليها أفراد الجماعة البشرية ينحتون مقاطعها، ويرتبون عليها معانيها من واقع حياتهم ، والإنسان منهم عندما يفكر أو يتكلم يفعّل تماهيه مع نسق تجربته وخبرته اللغوية، وليس هو الطرف الواحد في ساحها، بل إن فيها لاعبين كثّر. 

وتلك الخبرة مع اللغة قديمة نقلت إلينا في شكل قوالب جامدة لا نملك حق التصرف فيها بزيادة أو نقصان، أو حق مناقشتها أو التحفظ على صيغها والتي قد  تصادم حتى القناعات. ذلك أن للعرف الاجتماعي حكما ماضيا في واقع الناس ودارج محادثاتهم لا يملكون معه شدا ولا إرخاء ، ومن ذلك ـ مثلا ـ أننا في الجهة الغربية نسمي المطر " بالنوء "، ورغم أن اللفظة داخلة في المحاذير الشرعية للنهي النبوي فيما يروى عنه r لأصحابه " لا تقولوا أمطرنا بنوء فلان فالصيغة بمضمونها من مخلفات الاعتقاد الوثني، فالشارع وإن مارس الحظر على استعمالها إلا أن العرف الجمعي السائد والمتوارث له كلمته، في الإبقاء والإلغاء، وإن كانت الدلالة على أيامنا مجردة بالكلية من شحنتها الاعتقادية التي عرفها الجاهليون، وتم حصر استعمالها في زاوية دلالية جد محددة ترتبط بحدث نزول المطر، مما يعني أنها عادت إحالة لغوية مفرغة من مفردات سياقها التاريخي، والكثير منا يجهل الإحالة الأولى، مما يعني أن تاريخ  الفكرة لا يمضي دوما في اتجاه اللغة.

إذن فلغتنا بنت مجتمعاتنا بكل تناقضاتها ومفارقاتها وتظل على الدوام محتفظة بتلك المفارقات المتوارثة والتناقضات التي تقول الشيء ونقيضه، وتحمل باطن المعنى وظاهره، وتأويلا في هذا المقام وآخر هناك، ومما يشهد لهذا المعنى ما في أدبياتنا من أمر علي بن الجهم ( ت 249 هـ ) أحد شعراء بادية نجد عندما وفد الحاضرة، واتصل بالمتوكل الخليفة العباسي فمدحه بقوله :

أَنْتَ كالكلْبِ في حِفاظِكَ للْوُدِّ ** وكالتَّيْسِ في قِراعِ الخُطُوبِ.

أنت كالدَّلوِ لا عَدِمْنَـاكَ دَلْوًا  ** من كِبَار الدِّلا كثيرَ الذَّنُوبِ (9).

فالشاعر بمثل هذا المستوى من الكلام المدحي كان يسفر عن  شخصية قومه وحياة باديتهم أكثر من إسفاره عن نفسه، فهو بالواقع مجرد عينة تختزل وراءها بيئة كاملة من أبرز تجلياتها الحضور اللافت للمحسوسات : الكلب. التيس. القرع . الدلو. دلوا. كبار الدلا. الذنوب. فالشاعر يتماهى مع تجربته الشعورية وهو ما يعكس صدق تجربته الشعرية فمن ذاق عرف.

        وربما ترجح لدى الحاضرين أن الأمير قاتله لا محالة، فهذا تهجم واضح وصريح على جنابه غير أن الأمير فطن إلى مراده تبعا لموجبات المقام فالكلب: رمز للوفاء بالجميل، والتيس: للإقدام والجراءة، والدلو: للكرم والعطاء، وأن وراء تلك الألفاظ منطقا لغويا غير الذي ترشح به ظاهرا، ولا مناص من تأثر الشاعر بثقافة محيطه وبيئته وما نضح فيها من خبرات السنين .

وقد رأى الأمير في الشاعر رأيا بعد أن لمس فيه حسا شاعريا ربما أهله ليكون من خاصته على أن يجدد الشاعر في ثقافته، ويلقحها بلقاح المدينة، ونسق الحاضرة الرقيق الحاشية، الخفيف الظل.. ، وذلك بتفكيك عقدة الارتباط بين النسقين: النسق الأول ( نسق الأعرابية وخشونته )، والنسق الثاني ( نسق الحضر ونعومته). فأسكن الشاعر أحد قصور الرصافة حيث لين العيش وطراوته : الخضرة والماء والوجه الحسن، وبعد سنة من حياة المدينة وجدنا الشاعر ينسلخ عن جلد البداوة ( نسقه الأول ) لينخرط في نسق جديد مختلف ( نسقه الثاني )، ويسمع إليه الحاضرون فينشدهم أعذب بيت:

 عُيُونُ المهَا بين الرُّصَافَةِ والجِسْر ** جَلَبنَ الهَوى منْ حيْثُ أَدْرِي ولاَ أَدْرِي (10)

إننا نتأول الأشياء ونتعقل أوضاعها وفق نمط الثقافة السائد عندنا، فضمن أنساقه نكتسب مف�

المصدر: مجلة الكلية
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 155 مشاهدة
نشرت فى 21 يونيو 2012 بواسطة makhbarsaida

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

9,495