بصائر من عيون البصائر
د. زغوان أمحمد. الجزائر
جامعة د. الطاهر مولاي سعيدة ( الجزائر )
الماضي هو الحاضنة التي يترعرع فيها الحاضر، وليس الحاضر غير حصاد الماضي وثمراته، كما أن المستقبل هو الإنجاز المتحقق في اللحظة الراهنة، ولهذا كانت الأمم الحية ترى تاريخها أمامها، وفي الحال السوية يصنع كل أبناء عصر بعينه تاريخهم ليحتازوا رضا أجيالهم بعدهم على قاعدة غرسوا فأكلنا، ونغرس ليأكلوا، و" المرء أحاديث بعده ".
ونحن في راهننا العربي لا ندري ما الذي تغير بين أمسنا الدابر، وراهننا الحاضر ؟ ! سؤال بسيط ولكن الإجابة عنه ليست بالسهولة والسلاسة التي تدبج بها الكلمات، ويخطب بها ود العبارات، ذلك أن فرق المسافة شاسع جدا بين ما يتم معالجته كنظرية، وبين السعي إلى تجسيده كتطبيق ميداني.
إن بناء صرح الأمم لا يشاد على أكتاف جيل بعينه بل هو مراكمة لعمل متواصل الحلقات ، مستمر زمنيا، ومن يتصور أنه بإمكانه إعادة استنساخ تجربته سلفه تحت أي مبرر كان واهم جدا لأن أجيالنا لن تكون حينها غير نسخ مكربنة مشوهة سيئة الإخراج لأنك لا تنزل النهر مرتين، وأن تجارب الآخرين لا تتقمص ولا تستنسخ، والمرء لا يكون نسخة لأبيه إلا في قاموس البيولوجيا . ومن لا يتقدم يتأخر.
إن المفترض بالأبناء أن يعيشوا تاريخهم الذي هو بالنسبة لهم ليس إلا تجربتهم الحاضرة في هذه الحياة بكل آمالها، وآلامها، انتصارها وانكسارها.. ولهذا المعنى أشار عمر بن الخطاب - رض - بحدسه النافذ بقوله : " لا تقصروا أبناءكم على زمنكم، فإنهم خلقوا لزمن غير زمنكم "، ففارق الزمن له كلمته وتأثيره المباشر في هذه المعادلة التي طرفاها الآباء فالأبناء، وما يتناسل من خبرة الآباء في ثقافة الأبناء أحرى أن لا يعدو دور المرآة العاكسة في السيارة، يستعين بها السائق لتكون قوة في سيره ونظره إلى الأمام لا عبئا يشغله عن هدفه وتحديد طريقه عبر الدروب والمسالك.
وقمين بخبرة الأبناء - في الوضع المثالي - أن تجد صداها في ماضيها عدلا وإحسانا همة ونشاطا وعملا مبدعا يُتَوارث كابرا عن كابر ، مع إيمان كل جيل أن يكون نقطة من نقاط القوة لا الضعف في تاريخ أمته، حريصا على أن لا تؤتى من قبله، ولهذا نظائر في التاريخ الحديث إذ لم تنهزم نفسية جيل الحرب في الأمة الألمانية برغم ما لحقها من داء وتضافر كيد الأعداء ذلك أن هذا الجيل لم يكن معلولا من الداخل على مستوى النفس والفكرة، لذا رأيناه يلوذ بكبرياء الجنس ( العنصر الآري )، واستطاعت ألمانيا في زمن قليل في عمر الشعوب والأمم أن تستعيد عافيتها، وعناصر القوة والسلامة في بدنها.
بينما وجدنا جيلنا العربي ينكسر وجدانه وينحسر فكره وموقفه إلى مواقع خلفية بفعل الضربات الاحتلالية التي لا يزال واقعا تحت تأثيرها وتخديرها مترنحا بفعلها في دوائر قلقة مرتبكة يغترم الغرم في أحوازها مضاعفا، ويتثاقل كاهله بأوزار معقدة من ضعف القرون المتوارث مع أوزاره التي يعيد إنتاجها وعلكها بصورة نمطية لا إبداع فيها ، ولا تجديدا من يوم استقال من وجوده الرسالي الحضاري وانسحب من مواقعه، مكتفيا بلعب دور المتفرج المستهلك التابع مع الالتزام الوفي بتصدير كل إخفاقاته وتراجعاته لأخلافه كاملة غير منقوصة، وحسبك من تركة - هذا شأنها - تصدر إلى مستقبل الأحفاد وأحفاد الأحفاد والله المستعان.
ولعل هذا المعنى هو ما أشار إليه ذلك الشاعر العربي حين المقارنة بين مستويين متقابلين: الحضور والغياب في سياق فخره وإشادته بقبيلته ومحامدها
أولئك قوم إن بنوا أحسنـوا البنا وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
مطاعين في الهيجا مكاشيف الدجا بنى لهم آباؤهم وبنى الجــــد.
فهل ينطبق ما يتغنى به الشاعر على الحال من أوضاعنا - ولو بمفهوم المخالفة - لتتحول إشادته تلك إلى هجو لنا على قاعدة: وبضدها تتميز الأشياء.
كنت أتصفح بعض المقالات للإبراهيمي من سفر عيون البصائر، والتي هي بالمناسبة مجموع المقالات التي كتبها افتتاحيات لجريدة البصائر، تعود لفترة الخمسينيات وكم كانت دهشتي صادمة عندما وجدت الرجل يعالج أوضاعا من السوء عاشتها المجتمعات العربية تحت ربقة الاستعمار بكل ظلمه وصلفه، وهضمت الأمر بقناعة هي : أن الشيخ كان يؤرخ لفترة مزمكنة في سياقاتها، وأنساقها، ولا غرو فالشيء من مصدره لا يستغرب، إذ لا نطلب من الاستعمار ألا يترجم عن ذاته القبيحة بما يتسق وأخلاقياتها وسلبية مسلكياتها، وإن صبغ وجهه الكالح بشتى أشكال المساحيق وألوانها، فلا تكن الشاة أذكى منا وهي تتعرف على الذئب الذي يتخفى بجلد الشاة، إذ لا تخطئها حاستها ولا حدسها في التفطن له فلا تقربه.
ولكن ما لم أفهمه حقيقة كوني خلصت إلى نتيجة مؤداها : أن تلك المقالات في مجملها تتحدث إلينا في المواضيع المرتبطة بأشياء الأمة وأوضاعها، حديث من يعيش بيننا، ويبلو أخبارنا، وعلمت حينها أن المشهد العربي - في الغالب - مستعص على التغيير بالحسنى حتى إشعار آخر، وأننا لا نزال نراوح أمكنتنا الورائية مستسلمين للقهر الظرفي، وأن تخلفنا سلفي الحال والمآل، وقلت سبحان الله ما أشبه الليلة بالبارحة وهل أنا ( في حلم أم في علم )، وراجعت النفس عاتبا: لعلك يا هذا جهلت - والإنسان ظلوم جهول - بإجرائك مثل هذه المقاربة المتجاوزة حين حملت بقياسك حاضر أحوال الأمة على الغائب منها، ثم حضرني ـ للتو كلام لمالك بن نبي بما معناه : إن الدولة التي تجهل ثقافتها ومثلها وقيمها الحضارية تتحول بصورة آلية إلى دولة استعمارية، ثم ارتأيت بالنهاية أن أعنصر للقراءة بعضا مما في سفر البصائر في نقاط مما يتعالق مع نكبتنا بالحضارة باسم " بصائر " وأدع للناس حكمهم على الأشياء ومنطقهم في تقدير الأمور المطروحة وتقييم الآراء المنشورة رجاء الإفادة والوقفة الجادة مع الذات.
· البصيرة الأولى
· الفارق بين لفظي العرب والغرب نقطة
في هذه الجزئية نجد الإبراهيمي شديد الأسى على حال الأمة وعلى المآل الذي انجرفت إليه بعد عز ومنعة، من قمة المجد إلى هوة اللحد. قائلا " الفارق بين لفظي العرب والغرب نقطة ، وفيها كل السر، وفيها كل الشر " ([1]).
فقلت عله يعني أعراب المستعمرات في تلك الفترة الدارسة من تاريخنا مع الفوضى، ومظاهر الجرم والتدمير التي زرعها المستعمر الغشوم في فكرنا الثقافي بدراية وإحكام ، فصار ذلك النبت الشيطاني المزروع ألغاما موقوتة يعلم وحده زمن تفجيرها، ومكانها، وحجم تأثيرها .
ولم يفتني التساؤل عن سرّ تلك النقطة اللعينة التي سلَبَنَها الاستعمار فكان من نتائجها أن الدهر قلب لنا ظهر المجن فغدونا جزءا لا يتجزأ من العالم السفلي ( الجنوب ) قبالة شعوب في الضفة الأخرى من العالم العلوي ( الشمال )، وكله بموجب قانون فارق النقطة ( غرب، عرب ) الذي أفرز واقعا على الأرض مؤداه :
شعوب الغرب رافلة لحد التخمة في الغناء، وشعوب العرب رازحة تحت وطأة العناء، المواطن في الغرب مدلل ، والمواطن في عربستان مذلل، أمر الغرب إلى تحالف، وأمر العرب إلى تخالف، الغرب يحيى مواطنوه حياتهم معززين،ويقضي العرب أشطار العمر كله معزرين ، ملك الغرب الدنيا بسلطان العلم، فغزا الفضاء، وخان العرب سلطانه بينهم وألصقوا التهمة بالقضاء إعفاء لأنفسهم من تبعات المسؤولية.
وحينها أدركت لمَ نحن عرب وهم غرب ؟ ! والفرق في الوضعين - كما رصده الشيخ الإبراهيمي - دائما النقطة. ومقال الألف كلمة يبدأ أيضا بنقطة.
· البصيرة الثانية
· ويل للعرب من حبل قد اضطرب
نظرت إلى حال الاحتقان الذي يلابس جملة من مفاصل حياتنا ويتجذر مع الأيام، ويجد له من بين الأمة أتباعا ومريدين ومنظرين، واعتقدت حينها أن هذا الوضع المفزع وليد لحظتنا وقسمتنا من التاريخ، وما علينا إلا التسليم ، ولكن باب الرجاء يدفع هذا الاعتقاد ، وأن لا يأس مع الحياة ، ولا حياة مع اليأس ، فكل هذا شدة وتزول ، وعما قليل تنزاح الغمامة، وتنجلي عن صحوة السحابة ، فالقاعدة هي دوام الحال من المحال خاصة مع هذه الفورة المعلوماتية، والبعث التكنولوجي، ولكني أفدت من الشيخ الإبراهيمي رأيا يخدش هذه القناعة ، ويعزز الذهاب إلى تصور ثبات الحال العربية شأن المجتمعات البدائية التي يغلب عليها الرتابة والسكونية ، إلى درجة أنه لو قدر لأحد الماضين من كبار قومهم في الجاهلية مثل أبي لهب، وأبي جهل أن يبعثا بيننا لما وجدا صعوبة أو كبير عناء في التكيف والتأقلم مع الثقافة والمحيط لتناسب الحالة، وتقاطعات مجال العلاقة.
ولعاجب أن يعجب كيف لا يتغير وضعنا - مثلا - منذ ستين سنة خلت ؟ !، فمنذ إطلالة الإبراهيمي - رحمة الله عليه – من على صفحات سفر البصائر، وتحدثه إلينا عن الأزمات التي تفت في عضد الأمة ، والاتصال الحلقي لها عبر مدار الزمن العربي راصدا بالشرح والتحليل للجوانب القلقة فيها ، ساردا ومحذرا من التمادي بنذرها، إلا أن المتابع يقطع بالرأي قطع المطمئن : أن دار نوح لا تزال على حالها، وأن الليلة صنو البارحة ، حتى لكأن كليشهات المرحلة تلك لا تزال غضة طرية كأنها بنت اللحظة ، أو كأن تاريخنا متوقف من تلك الفترة التي كان الشيخ يسطر ويؤرخ لفصولها.
إنه ثبات بعضه فوق بعض وإن بدت معه بعض التحولات الشكلية التي لا نختلف فيها كثيرا عن دول متراجعة نتقاسم معها الاستحقاق التخلفي عن الحضارة، ومن تلك التحولات الشكلية أننا نحتاز لوجودنا المادي جغرافيا بحدود مرسومة هي دوما محل نزاع وشقاق بين الأشقاء ، ولنا على تلك الجغرافيا أعلام ذات أشكال، وألوان لا حصر لها ؟، ولنا على تلك الجغرافيا، وتحت أعلامها عملات نمارس بها فنتازيا سيادتنا وفرادتنا عن بعضنا العربي والإسلامي أيضا، ولا نذكر شيئا اسمه الوحدة والألفة إلا حين نتعامل بالعملة الغربية المسماة " الصعبة "، فهي من تؤلف بين قلوب وجيوب مترفينا، ولا تعترف بالعملات " السهلة " ( الداخلية )، وتتجاوز الجغرافيا لقابليتها للصرف في كل بلد عربي وهي فوق هذا كله عزيزة عزة تشاقق النفس والروح.
كل هذه الأحداث في الأمة حدثت بعد وفاة الإبراهيمي – رحمة الله عليه – فكيف لم يتغير شيء وقد مر زمن ليس بالقليل ؟ .
كل هذا في ميزان الحضارة تغير قشري لامس الجسم لكنه لم يلامس الروح والفكر والثقافة، وترميم العقليات المتحجرة، إن التغيير في اللفظ لا يغير من حقيقة المعنى وجوهره، هذا الذي لم نستفده ولم نسترشد به، الأمر الذي يجعل ما يتوعدنا به - الشيخ الإبراهيمي - من ويل وثبور، وفظائع الأمور حقيقة لا غبار عليها ، وأن الأمة التي لا تتعلم من أخطائها، وتلدغ من الجحر المرة والمرتين ثم لا تعتبر ولا ترعوي جديرة بالتكبير الرباعي عليها إعلانا عن وفاتها ، واستقالتها - غير المأسوف عليها - من التاريخ ، مع أن الظاهر من بؤس الحال أن تكسب المصائب المصابين مناعة للأفراد والجماعات ، فتتحول المحن إلى منح، والضعف إلى قوة، والخطو للوراء خطوات للأمام..
غير أن ناقوس الخطر الذي دقه الشيخ الإبراهيمي منذ ما يزيد عن نصف قرن لا يزال يرنن ويرن - وكأنه دقه اللحظة - على تردد : " ويل للعرب من حبل قد اضطرب، وشر قد حلّ ولا أقول قد اقترب، قسم الويل على العميم والخُويل، فويل للعرب من ملوكهم، وويل للعجم من سلوكهم، وويل للروم من صعلوكهم، جنت على الأصفر ناره، وعلى الأبيض ديناره، وعلى الأسود فدامته واغتراره، وعلى العربي ركبُه البطي، ولسانه النبطي... مجلس الأمن مخيف، والراضي بحكمه ووضعه ذو عقل سخيف، إنهم ليسوا من شكلك، وإنهم متفقون على أكلك "([2]).
إن كل تقصير في العمل، وجناية في التدبير،أو ضلالة في التفكير إلا ويحيق بنا مكرها السيء ويقع على أم رؤوسنا، ولا يراكم السوء إلا سوءا، ومن أهون ثماره أننا غدونا – مع كل أسف - أمة لا يخف الميزان بها ولا يرجح، لا لها في العير ولا النفير، فقد طمع فيها من لا يدفع عن نفسه، وتساوى عليها الطامعون: الرومي ، والأصفر، والأسود،
ويذكرنا هذا التداعي الناهم بما نبه إليه الرسول الأكرم – صلم – في حديث تداعي الأكلة على قصعتها، وليست القصعة غير أرضنا، وليس الطعام المأكول غيرنا.
ولهذا رتب الشيخ الإبراهيمي على هذا قاعدة ذهبية بهدي من حدسه النافذ إلى حقائق الأمور وأشيائها ـ وآه لو كانت القواعد عاصمة ـ أن " من لان للأكل فليس من حقه أن يلوم الأكلة "، فلا تكن بصلا ولا موزا، ولا فاكهة ولا دقيقا وإلا أكلت وتحول الكثير منك إلى فضلات ولات ...
· البصيرة الثالثة
· " حدثونا عن العدل فإننا نسيناه "
لشدّ ما وعدنا منظرونا بالمستبد العادل، وزفوا للأمة البشرى بأوان ظهوره، فجاء لميقاته ولم يجئ العدل معه، وللعاقل أن يسأل عن هذه العقلية الخارقة للعادة والعبادة كيف يجتمع لها مفاعلة العدل والاستبداد في ذات الآن، اللهم إلا أن نكون بلداء مغفلين لأننا لم ندرك حكمة ذلك لأن هذا المستبد العادل* عندما يئين أوانه، سيكون بكل بساطة عدلا مع خصوم الأمة وطيب زيادة عن اللزوم مع عداتها.
أما عدّته في الداخل فستكون الاستبداد والاستبداد فقط، لأن الذي يحمي الظلم هو الظلم، والذي يحمي العدل هو العدل. هذا تعبير أحجية " المستبد العادل " التي شغلت بال الكثيرين ردحا من الزمن، وطفقت تعمل في الأمة دون كلل وملل حتى هيأتها لاستمراء الظلم وتوارث جرثومته ثقافيا، وبدا قطاع عريض من أبنائها يشرعن للاستبداد الذي أفقدها مع الزمن - في الغالب الأعم - حاسة الإحساس بالظلم، وأجمل بقول مارتن لوثر : "من يستسلم للشر دون مقاومة فإنة يكون فاعلا له".
لقد هضمت معدتنا الحضارية طوال فترات ضعفها في التاريخ كل النقائض : السالب والموجب ، الحار والبارد، الضار والنافع ، وربما وقفت من هذا كله على مسافة واحدة، وهذا يفسر كيف أن أمسنا الدابر لا يختلف كثيرا عن يومنا الحاضر بل هما شبيهان بالوجهين في العملة الواحدة، وهذا يفسر - أيضا - كيف أننا غالبا ما نلتمس الحلول لمشكلاتنا في العقليات التي أنتجت الأزمات، ونضحت بتلك الإخفاقات.
ولا يجب أن ننسى ونغفل أن لذلك أسبابا أوصلتنا لما أوصلتنا إليه ، ولعل أسّها وعلى رأس القائمة منها غياب العدل في صحراء الثقافة العربية الشديدة الظمأ لشيء اسمه عدالة ولو بالتأنيث. وبسبيل هذا المعنى ما يطرحه الإبراهيمي من مساءلات مع الذات مفادها : " كيف لا تنسى العدل أمة لبثت في ظلمات الظلم أحقابا ، وعقبت في ظل يحمومه أعقابا ؟ أم كيف تذكره بعد أن محت آيته آية السيف ، فلم تنعم منه بإلمامة الطيف ؟ .
وكيف يجد العدل مجالا بين حاكم لا يسأل عما يفعل، وبين محكوم يسأل عما لم يفعل ؟ ... الاحتقار هو الأساس الخلقي الذي وضع عليه الاستعمار قواعده ، وبنى عليه قوانينه، وإن ملكة الاحتقار هي الغاية في العالم الاستعماري ينتهي إليها عالمه، وحاكمه ومشرعه ومنفذه... بمجرد أن يجرد المستعمر من أسباب القوة والحياة .. ( ويعمل على ) ترويضه على الذل حتى يطمئن إليه ويعتقد أنه كذلك خلق ، أو لذلك خلق ، فإذا سلب ماله عد سلامته من الضرب غنيمة، وإذا ضرب جسمه عد نجاته من ضرب العنق منحة كريمة، وإذا تأوه للألم النفسي أو البدني عدّ التأوه منه جريمة "(3).
فإذا عرف السبب بطل العجب - كما يقال – فلا غرو أن يكون هذا وضعنا بين الأمم، كون المناخات غير متاحة، والناس تتصرف وفق ظروفها وأنساقها الثقافية، إذا لا يمكن للناس أن يتصرفوا بشكل طبيعي إلا في أجواء طبيعية.
· البصيرة الرابعة
· أيها العـــــــرب
وينحى الإبراهيمي باللائمة على وضع مختل راكمت سلبياته أزمان من التخلف يشترك في ذلك الحاكم والمحكوم، وحاضنة ذلك كله ثقافة مأزومة تمحض عنها النموذج الاتسائي العربي الذي لا يزال يحيا بعناد وإصرار شديدين على العيش في جلباب أبيه، ولهذا وجدنا الإبراهيمي هنا يحدد المسؤوليات أمام ظاهرة الإرباك الفظيع الذي يعيشه الفكر العربي المتمزق بين أحسن التنظيرات وأسوإ التطبيقات، ويلقي بتبعات ذلك على رؤوس الأمة ومرؤوسيها، وكيف أننا لم نحسن التلمذة حتى على ثقافتنا، وعملنا على مفاعلتها بشكل سلبي لا يخلو من غرابة وتخبط.
يقول الإبراهيمي " أيها العرب أطعتم الكبراء فأضلوكم ، وخضعتم للأمراء فأذلوكم حتى لنتم للعاجم، ودنتم للأعاجم ، وحتى ألقيتم بالمقاود .. فو يحكم أغني ويقترض ، ومحجوج ويعترض ؟ لم يأس جراحكم ألف " دكتور " ، فهل يأسوها " ديكتاتور ... وضع الأجداد العقال للرجل فنقلته الأحفاد إلى الرأس، وعدلوا به من الأباعر إلى الناس ، وما بين النقل والنقل ضاع العقل.. والتصريف للألفاظ كالتصرف في الأموال فيه القصد والسرف "(4).
· البصيرة الخامسة
· " سجع الكهان " وجاء النبأ من سبأ
يرى مالك بن نبي أن جرثومة قاتلة تعمل في المجتمعات فتحط بأقدارها، وتنزل بها إلى الحضيض تلك الجرثومة هي " القابلية للاستعمار " ، وربما لخصها الأستاذ - فيما أذكر – بالجهل ، والمرض، والفقر، والتخلف هذه الصهيونية الداخلية هي أعراض لتلك القابلية المقيتة، وأن اليمن الذي لم يتعرض للاستعمار يدين إلى محض الصدف ولطف الأقدار، ولا تزال هذه الأعراض أكثر إعرابا وترجمة عن نفسها على جبين الوجه اليمني الأسمر ، وإلا بم تفسر هاته الأخبار التي تترى هذه الأيام وتتوالى شفعا ووترا وتنذر بالمشأمة ؟ لما يحدث على فترات متقطعة منذ مدة في اليمن السعيد الذي لم يعد سعيدا لما أناخ بساحته مما يؤذي ويشين كل محب لبني قومه وأهل عقيدته.
فهل هذه حالة مرضية مزمنة مقدرة لليمن، واليمن مقدر لها ؟ ! . وهل وافق شن طبقة ؟ ! .
قلت لعل وعسى.. وقلت لا تتكهن فالكهانة رجم بالغيب، وهي بحسبان الثقافة الإسلامية نقص وعيب، وهل واقع اليمن في قرنه الماضي يختلف عما هو حاصل في يمن هذا القرن أم القرنان سيان لأنهما من نفس الراس.
هل تغير يمن أمس عن اليوم ؟ وما اليمن غير مثال لما يمكن أن يحدث في كل قطر عربي ، ولنقارن على وجه التقابل بين شهادتنا - نحن اليوم – على اليمن بما سجله الشيخ الإبراهيمي ـ شاهد أمس ـ عنه في مقاله المعنون :
سجـــــــع الكهــــــان "
أخنى الزمن على اليمن أبدلــــها صابــا بمن) *
جيش الشقا لها كمن مهزولة على السمن
مغصوبة بلا ثمن دستورها : لا تفهمن
لا تقرأن لا تعلمن سل سيفها* أنت لمن ؟
سل سيفها بيد من أغربـــــــة على دمن
لا ناصر لا مؤتمن عد للحمى يا ابن اليمن
يا وانيا لا تقعدن يا ساهيا لا ترقدن
يا خاملا لا تزهدن ولا تغب بل اشهدن "
سموك السعيدة فشقيت بمن ولدت وما سعدوا ولا سعدت، فأين أنت اليوم ممن كنت سعيدة بهم وكانوا سعداء بك ؟ أين أنت من سعد العشيرة ، وحماة الأهل والجيرة ؟ أين أنت من حمير وأشياعهم، وتبع وأتباعهم ’؟ أين ؟ لا أين ؟.
كذب الرعد، وأخلف الوعد ، وأورد الإبل سعد، فضاع ( قبل )، ولم يحفظ ( بعد )، ... سل سبأ هل جاءها النبأ ، وقل صدق المثل ( تفرقوا أيدي سبأ ) فيك مرتين، وأعاد التاريخ نفسه كرتين، لقد سار أعقابكم في الزمن الحثيث سيرة وانية فبادوا في الجيل الحديث بيدة ثانية " (5).
وإذا أقصينا نظرية المؤامرة على غير العادة المكرورة في ثقافتنا التي تولي التدخل الأجنبي المتآمر المعامل الأكبر في حسبان المعدل العام لصيرورتنا التاريخية خاصة في نقط الإخفاق التي لم نحصّل فيها معدلا مؤهلا لدورة حضارية أخرى على غرار الدورة السابقة لأسلافنا القدامى.
لقد تسللت ثقافة المؤامرة في تفسير التاريخ والواقع والخيال إلى عقول جماهير الناس في الوطن العربي، فالمرأة إذا عنست ولم يقدر لها أن تتزوج فـ " معمول لها عمل "، والطالب إذ كسل ولم ينجح في امتحانه أصابته عين شريرة، والمريض النفسي به مس جني، وإذا ذكرت القضية الفلسطينية وقيل إن تحريرها فريضة عينية على المسلمين قيل إن ذلك من علامات الساعة وهكذا تبقى القائمة مفتوحة ...
نعود لنقول ما أصابنا بالأمس وما ابتلينا به اليوم من إخفاق، وانحسار على أكثر من صعيد مرده إلى الذات لا إلى خارجها، وواجب الإنصاف يقتضى أن نقول بالفم الملآن : إن ذلك مما عملته أيدينا، وأن الزارع لن يحصد إلا ما زرع، وهذا مضمون الآيتين الكريمتين : ) بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره ( 6 ، وقوله تعالى : )وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى ( 7، ولهذا كان القرآن دقيقا في تحديد مسؤولية آدم من التآمر والتواطؤ الذي قاده إبليس ضده ، والذي جره إلى خارج الجنة، وخارج الخطة الرسالية التي كان يجري التربص لأجلها، فوجد نفسه خارج السياق فاسترجع وأناب إلى ربه، فتقبله ربه بقبول حسن، وقد عقب القرآن الكريم على هذا الموقف محملا آدم تبعة انسياقه وانجراره وراء الوهم الإبليسي الواعد بجنة خلد، وملك لا يبلى فقال القرآن تعقيبا على الحادثة ) فعصى آدم ربه فغوى (8 ، ولم يشفع له أنه كان ضحية رغبة فطر عليها، ونزوة ضعف بشري استغلها إبليس للتسلل الآثم ثم الإيقاع به .
وفي هذه الآيات البينات ما يجعلنا نتبصر بعواقب الأمور ومباديها، وتلك حكمة البصائر في أهل البصائر.
margin: 0cm 0cm 0pt; text-align: justify; unicode-bidi: embed;
ساحة النقاش