الروائي ماهر مهران يسلط الضوء على قرية مصرية تحكمها النزاعات والمحسوبيات، ولم تتغير بتغير نظام الحكم، بل أفضت إلى المزيد من الدماء.
العرب عمّار المأمون [نُشر في 06/09/2014، العدد: 9671، ص(16)]
ماهر مهران يرسم حالة الريف المصري في ظل ثورة يناير ووصول الإخوان إلى الحكم
دمشق - كل ثورة لها خاسروها، أولئك المهمّشون الذين لم تسنح لهم فرصة المشاركة في الحراك الثوري، الذين لا تصلهم الثورة إلا بعد أن ينقض عليها المستغلون. في الريف المصري في قرية “قاو” يرسم الروائي المصري ماهر مهران في روايته “عشى ليلي”، الصادرة عن دار الساقي (2014) قصة قرية تحكمها النزاعات و المحسوبيات، والتي لم تتغير بتغير نظام الحكم، بل أفضت إلى المزيد من الدماء، التي تحكمها النزوات والرغبات الشخصية، والصراع الذي يقتات على حساب البسطاء بعد صعود الإخوان وغياب التغيير الحقيقي.

نقف في “عشى ليلي” أمام حبكتين؛ الأولى قصة العجوز حميد رزق السقا وزوجته سنية، التي تجاوزت الخامسة والأربعين، أمّا الثانية فهي الصراع بين أسرتي أبو الشامات وأبو كرسي على زعامة القرية، بعد انهيار نظام مبارك، وإعادة تقسيم القوى، حيث تسعى كل منهما إلى فرض نفوذها وتحقيق أكبر المكاسب. حرفيّة عالية نشهدها في عمل مهران، فكلا الحبكتين تمثلان انعكاسات رمزية لواقع الريف المصري، حتى أن قصة حميد وسنية هي اختزال مجازي للريف من جهة، وللثورة المصرية من جهة أخرى.

ازدواجية التفاصيل

يشكّل مهران صورة بصرية غنية، حيث يغرق في التفاصيل التي لا تدخل في الابتذال، بل تحافظ على شعريّة عالية، تصور لنا طيبة وبساطة تلك الفئة الاجتماعية، وحتى مفرداتها ولغتها ليرسم لنا فضاء حيا متكاملا، وذلك عبر حياة حميد وبساطته، وسعيه إلى الذرية، بالإضافة إلى إصابته بالعشى الليلي، الذي يعتبر معادلا لحالة الشعب المصري في خضم الثورة، إذ يبصر نصف اليوم فقط، أما الباقي فيضيع في الرؤى والتخيلات التي يخلقها العشى.

يشكل مهران صورة بصرية غنية حيث يغرق في التفاصيل التي لا تدخل في الابتذال بل تحافظ في لغتها على شعرية عالية

كما يروي الكاتب قصة الوزير أبو الشامات، وتسريب المقطع الصوتي الخاص بزوجته فيفي، وهي تبادل عشيقها رامي الغرام، لتبدأ القرية بعدها بالانقسام والانهيار على الصعيد الأسري، لدرء الفضيحة وإخفائها وعلى الصعيد المحلي في ظل ظهور التيار السلفي الذي ظهر فجأة دون سابق إنذار، حيث تتداخل الأحداث والفضيحة والأطماع الشخصية، لتنتهي بحرب دامية بين العائلتين، وموت وإصابة الكثيرين في ظل غياب تدخل الدولة، بالإضافة إلى الفساد وتهريب السلاح والحشيش، بل وأسوأ من ذلك بيع الأعضاء، وهذا ما حدث مع سنية زوجة حميد، التي ظن هذا الأخير أنها حامل بعد طول انتظار، ليكتشف لاحقا أنها ليست حاملا، وإصابتها بمرض يودي بحياتها، إذ تموت في المستشفى المليء بالمصابين، وتضيع بينهم، لينتهي بها الأمر جيفة يتقاسم جثتها الأطباء ويبيعون عينيها وقلبها ورئتيها، ثمّ يحملها حميد عائدا إلى القرية لدفنها.

بالرغم من عدم تداخل الحبكتين، وكأنهما مساران متوازيان، إلا أن ما يحدث في القرية وفي مصر أصاب حتى البسطاء الممثلين بحميد، والذي عجزت المستشفى عن احتواء زوجته وتركته لعشاه ونظره شبه المفقود، إذ من المستحيل له أن يرى الحقيقة كاملةً.

العمل يشكل صورة بصرية غنية تحافظ في لغتها على شعرية

الجانب المظلم

بالرغم من الثورة وقيامها في مصر والمطالب الشعبية التي أدّت إلى الإطاحة بالرئيس مبارك، فما زالت القوى في صراع على الحكم، والشعب ما زال مهدور الحق، فالتفاصيل اليومية التي تصف حياة حميد بشعرية عالية لم تتغير، و مع أنه لم يرغب في التغيير إلا أنه خسر زوجته، وفي اختزال لحال ما تمرّ به مصر نرى الدلالات التي تعبق بها حياة حميد وحياة مَن حوله مِن البسطاء فمشهد إخصاء الجدي ذو رمزية عالية لركوب الثورة واستغلالها، وحتى النهاية التي نرى فيها حميد يقف على شجرة الجميزة، ويتبول على الجميع، ساخرا من كل ما يحدث، فهذا البسيط الذي لم يطلب شيئا انهار كل عالمه بسبب تردّي الأوضاع، وغياب التغيير الذي كانت تعد به الثورة في البداية.

كذلك تفضح الرواية غياب الأمن وسلطة الدولة، إذ تنتشر تجارة السلاح بين ليبيا ومصر، وتتواصل استعانة الشعب بالمحسوبيات والمصاهرات مع السلطة، للحفاظ على النفوذ وشراء الأصوات، بالإضافة إلى تجارة الأعضاء، فالميت ثمنه أغلى من الحي، وغيرها من التصرفات التي لم تغير الثورة منها شيئا، حتى أن العادات التي من المفترض أن يتخلص منها المجتمع ما زالت منتشرة، كالثأر والاختطاف، فمظاهر المدنية لم تصل إلى الريف المصري، ومازالت الأحلام البسيطة جدا ببيت من الإسمنت تراود الكثيرين.

الفضيحة التي نالت الوزير أبو الشامات سببها مقطع صوتي تم تناقله عبر الهواتف النقالة، في تعبير مجازي عن مساوئ التكنولوجيا في انهيار هيبة الوزير، وكأنها تحمل الخراب معها، حيث تسببت بفضيحة كبرى.

القدر بمواجهة البسطاء

يكمن المعنى في عنوان الرواية، الذي يصف حالة مرضية وهي “العشى الليلي” المصاب بها حميد، وكأنه محكوم عليه بأن لا يرى نهاية النهار أو ظلامه، بل يكتفي بأحلامه وتهيؤاته المضيئة، فمصر أيضا عالقة في دوامة قدرية، لن تخرج منها إلا بانتصار أولئك المهمّشين، فبعد الإخوان أتى العسكر.

أما النهاية التي تحملها الرواية فهي تعبير عن عمق المأساة التي تنتهي بتصعيد غروتوسكي يبرز المفارقة التاريخية، التي تسحق الإنسان البسيط في ظل الأزمات الكبرى. إذ لا تتغير موازين القوى بل تتغير الحسابات والأطراف التي يجب أن تهادن أو تصالح، أو تلك التي يجب أن تحارب، حيث يحتفظ الكبار بمراكزهم، أما المسحوقون فلا مكان لهم في عجلة التاريخ.

المصدر: العرب اللندنية
mahermohran

ماهر مهران

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 106 مشاهدة
نشرت فى 6 سبتمبر 2014 بواسطة mahermohran

الشاعر : ماهر مهران

mahermohran
هنا صوتُ المهمشين والبسطاء والمقهورين ، وهنا شاعريةُ ُالدفاع عن حق الناس فى العيش بعدل وكرامة وحب وإنسانية ، هنا صوت لايشبه الآخرين من حيث التناول والمفردة وتركيبة الجمل الشاعرة ، هنا شاعرٌ اضطهده الجميع لحدة موقفه ، فهو مستقلٌ منذ بدأ الكتابة ، لم ترض عنه الحكومات ، ولم »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

25,119

نبذه صغيرة

شاعر من شعراء العامية المصرية التي يتميز بحسه المرهف وكلماته الجميلة التي تناقش واقعنا العربي والمصري والانساني  الذي نعيش فيه فهو كثيراً ما كتب وتطلع للتغيرات التي سوف تحدث وسوف يحدثها هذا الشعب المصري العظيم وبجانب شعره  بالعامية  المصرية كتب روايات تغوص في الواقع المصري وتكشف الغامض والمهمل والمهمش في صعيد مصر كما انه كتب العديد من المسلسلات الدرامية  .