آليات صعود السلطة وانهيارها في «عشى ليلي»

النسخة: الورقية - دولي الأحد، ٨ يونيو/ حزيران ٢٠١٤ (٠٠:٠٠ - بتوقيت غرينتش) آخر تحديث: الأحد، ٨ يونيو/ حزيران ٢٠١٤ (٠٠:٠٠ - بتوقيت غرينتش) سلمان زين الدين

«عشى ليلي» للكاتب المصري ماهر مهران (دار الساقي) هو الكتاب السادس عشر له بعد تسع مجموعات شعرية، وأربعة أعمال درامية، وروايتين اثنتين، أصدرها خلال ستة عشر عاماً. و «العشى الليلي»، بالمعنى الحقيقي، هو ضعف القدرة على الرؤية والتمييز بين الألوان ليلاً. وبالمعنى المجازي، هو ضعف القدرة على اتخاذ المواقف السياسية المناسبة، ما يؤدي إلى نتائج وخيمة. والمعنيان كلاهما موجود في الرواية، ولكل منهما نتائجه المباشرة.

تتناول الرواية علاقات الصراع على النفوذ والسلطة في قرية مصرية، خلال السنة التي أعقبت ثورة يناير 2011، وهو صراع محلي يشكّل صورة مصغّرة عن الصراع الأكبر، يختلط فيه العائلي بالسياسي، والمحلي بالوطني، ويتمظهر في تمظهرات مختلفة تتراوح بين الصدام المباشر والانتخابات النيابية والرئاسية، وتُستخدم فيه شتى الأسلحة، المشروعة وغير المشروعة، وينجلي عن صعود عائلات وانهيار أخرى، ويؤدي إلى نتائج خطيرة.

الفضاء الروائي الذي ترصده الرواية هو فضاء ريفي- زراعي- قَبَلي- شعبي. تتأثر فيه علاقات السيطرة والقوة بمراكز القوى المحلية المتوارَثة وبالتحولات الوطنية الكبرى، فثمة تصادٍ بين المحلي والوطني، وتلعب الخيارات الفردية دورها في مسار الأحداث، فربّ خطأ فردي في الحسابات تترتّب عليه نتائج جماعية.

يصطنع ماهر مهران في روايته راوياً عليماً واحداً. يشهد على الأحداث ويرويها من دون المشاركة فيها، فيُمسك بخيطين سرديّين طويلين: أحدهما فردي، يتعلّق بحكاية حميد رزق السقّا، الرجل الستيني المصاب بعشى ليلي، وعلاقته بزوجته سنية، وما تؤول إليه. والثاني جماعي، يتعلّق بالصراع على زعامة القرية بين عائلة أبو الشامات التي تتوارث الزعامة أبًا عن جد، ومعارضيها من العائلات الأخرى مستفيدةً من التحولات التي أعقبت ثورة يناير 2011، وما يؤول إليه. والخيطان يتوازيان، ويتواشجان، وينتظمان في جدلية الظهور والاختفاء. وتكتنفهما خيوط أخرى قصيرة. والرواية هي هذا التواشج بين الخيوط المختلفة، طويلها وقصيرها.

في الخيط السردي الأول، نتلمّس حياة الهامشيين المهمّشين الذين لا يشكّلون جزءاً من الصراع على النفوذ. ومع هذا، هم ضحاياه. هذه الشريحة الاجتماعية تتمظهر في الرواية من خلال السقّاء المتسوّل حميد رزق وزوجته سنية اللذين يتألّب عليهما حكم القدر وعبث الناس ما يؤدي إلى موت الزوجة على أبواب الفساد الطبي، وخروج الزوج عن طوره في وقفة احتجاج على ظلم القدر والناس. فحميد الستيني الذي يكدح في سقاية أهل القرية في مناسباتهم وأعمالهم مقابل التصدّق عليه بما ملكت أيمانهم، وينغّص علاقته بسنية عدم وجود ولد في حياتهما، تفاجئه زوجته بخبر حملها مستندةً إلى ارتفاع بطنها عن مستواها الطبيعي. وحين يقوم بعرضها على طبيب فاسد يؤكد له الخبر ويستغلّه بالتواطؤ مع صيدلي فاسد بدوره، حتى إذا ما مرضت سنية وتفاقم مرضها، يكتشف طبيب فاسد آخر عدم حملها وضرورة معالجتها من مرض الكبد. وإذ تضيق الدنيا في وجهه، يقوم حميد ببيع حيواناته القليلة ليعالج زوجته، لكن عشاه الليلي يجعله يفقدها في المستشفى ليعثر عليها ميتة لاحقاً، ولا يُسمح له بتسلّمها إلا بعد نزع بعض أعضائها. وحين يرفض اللحّاد دفنها من دون أجرة، يقوم حميد بحفر قبرها بنفسه. وهكذا، يتضافر على حميد وزوجته العقم والمرض والفساد الطبي والإداري والفقر والتجاهل... من هنا، صرخته الاحتجاجية في وجه ظلم القدر والناس حين يتسلّق شجرة الجمّيز أمام بيته، يضحك ضحكاً هستيريّاً، يُخرج عضوه ويبوّل على الناس، في خطوة رمزية خارجة عن المنطق، يرفض فيها الواقع الظالم.

في هذا الخيط، ثمة وقائع مفاجئة مؤثّرة لم يرهص بها ما قبلها، لكنها كانت مؤثّرة في ما بعدها. ومنها: الحمل، عدم الحمل، المرض، الضياع، والموت. وهي كلها تتعلّق بالزوجة، وتترك تأثيرها في الزوج. وثمة وقائع عادية تملأ الفراغ بين واقعة مؤثّرة وأخرى.

«العشى الليلي» الحقيقي يحول دون رؤية حميد السقّا بيته في الوحدة السردية الثانية، ويجعله يخلط بين زوجته وشوال القمح في الوحدة الثالثة، ويجعله يُفقدها في مستشفى القصر العيني في الوحدة الحادية والعشرين. أمّا «العشى الليلي» المجازي فتكون له تداعيات أخرى.

في الخيط السردي الثاني الجماعي، يكون «للعشى الليلي» معنى مجازي يترك تأثيره في الجماعة وليس في الفرد كما في الحالة الأولى. ويؤدي إلى فقدان عائلة أبو الشامات زعامتها على القرية. في هذا الخيط يتناول مهران آليات الصعود والانهيار لعائلات سياسية وتيارات دينية. وهي، في معظمها، آليات غير مشروعة، فيبدو زعيم العائلة أقرب إلى زعيم عصابة منه إلى رجل سياسي، يمارس البلطجة والتشبيح وصرف النفوذ والاحتيال والتجارة السوداء والسطو ولا يتورّع عن القتل...، ويستخدم زعيم العائلة المعارضة الآليات نفسها؛ فعائلة أبو الشامات، الحاكمة في قرية قاو، يبدأ نفوذها مع الجد الذي يخون قريته ويتحالف مع الحكومة ضدّها، فتمنحه لقب «بك» وتجعله نائباً للخديوي، ويتوارث الأبناء والأحفاد النفوذ، ويكون منهم نواب ووزراء. تبسط نفوذها بعروض القوة والتحالف مع السلطات المتعاقبة والرشوة والخدمات حتى تؤول الزعامة إلى الوزير الشاب الذي ينتمي الى النظام السابق، ولا تكشف الرواية عن اسمه وكنيته حتى الصفحة الثالثة والثمانين، فنعرف أن اسمه ياسر وكنيته أبو لؤي، وقد يعود ذلك إلى أن المسمى يغني عن الاسم في هذه الحالة، فالمهم الدور وليس الشخص.

مع سقوط النظام السابق، ينقضّ المتربّصون بالعائلة النافذة، المرتبطة بالنظام، على زعيمها الوزير مستغلّين حواراً جنسيّاً مسجّلاً على الهاتف بين زوجته الثانية وعشيقها، ينشرونه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فتغدو سيرة زوجة الوزير على كل شفة ولسان، وتُروى شطور من الحكاية في أماكن مختلفة من أناس مختلفين، يرويها عامل النظافة في المدرسة، والمرأة الأربعينية في مبنى الشؤون الاجتماعية، والفلاح في الجمعية الزراعية، وصياد السمك على ضفة الترعة...، وتترتّب على هذه الفضيحة نتائج ومضاعفات اجتماعية وسياسية مدمرة، تتراوح بين الطلاق والفرار والشقاق والطرد والقتال...

يتهم الوزير صديقه السابق مرسي أبو كرسي، زعيم العائلة المعارضة الأخرى، بالوقوف وراء نشر الحوار، ويقرّر الانتقام منه، ويضرب عرض الحائط بنصيحة والده بعدم تعريض العائلة للاختبار لئلا يكشفها، لكن «العشى الليلي»، المجازي، المصاب به الوزير، يدفعه إلى اتخاذ قرارات خاطئة، تتحالف ضده العائلات الأخرى، تستميل التيار الديني الصاعد بأساليب ملتوية مستغلاًّ الفقراء والمحتاجين والجهلة والغاضبين والمأزومين نفسيّاً، وتتمخّض المواجهة بين الفريقين عن هزيمة عائلة الوزير في الانتخابات النيابية والرئاسية، وعن هزيمتها في الصدام المسلّح الذي يُصاب فيه الوزير نفسه. وهكذا، يؤدي «العشى الليلي» المجازي معطوفاً على التحولات العامة إلى انهيار عائلة نافذة لتصعد أخرى، وإلى «أن الحكومة ومرسي وعائلة أبو الشامات يضربون بعضهم بعضاً بالأسلحة الثقيلة ضرباً مبرّحاً...»، كما تنتهي الرواية (ص144).

يكتب ماهر مهران روايته بصيغة المضارع، ما يحرّر السرد من ماضويّته، ويمنحه راهنيّة معيّنة. يُمسك بخيوط سردية عدة في الوحدة الواحدة بدءاً من السابعة. يُغرقنا في الوصف والتفاصيل والنعوت، ما يجعل الرواية تنوء بوقائع غير منتجة روائيّاً، فيهتم بالأطر والخلفيات والفضاء أكثر من الأحداث، ويجعل حركة السرد بطيئة. يُكثر من استخدام أدوات الربط، فيستخدم «ثم» أربعاً وعشرين مرة في الوحدة الثانية عشرة وحدها، على سبيل المثال. يُكثر من استخدام النعوت المشتقّة من الألوان، في تضادٍّ، واعٍ أو غير واعٍ، مع عنوان الرواية، وفي تعارض بين الكاتب وبعض شخصياته. يُؤثر الجمل القصيرة والمتوسطة. يُكثر من المفردات التقنية، ويشرحها في الحواشي. يستخدم المحكية في الحوارات القليلة. يستخدم الأمثال الشعبية ما يضيء الخلفية الريفية- الشعبية- الزراعية لشخصياته.

«عشى ليلي» رواية التحولات التي واكبت ثورة يناير المصرية وأعقبتها، غير أنها تتوقّف عند لحظة سياسية معيّنة تأتي التطوّرات الراهنة لتتجاوزها. وبذلك، تغدو الرواية شهادة على لحظة مضت وإن كانت ارتداداتها لا تزال مستمرة.

المصدر: الحياة
mahermohran

ماهر مهران

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 73 مشاهدة
نشرت فى 8 يونيو 2014 بواسطة mahermohran

الشاعر : ماهر مهران

mahermohran
هنا صوتُ المهمشين والبسطاء والمقهورين ، وهنا شاعريةُ ُالدفاع عن حق الناس فى العيش بعدل وكرامة وحب وإنسانية ، هنا صوت لايشبه الآخرين من حيث التناول والمفردة وتركيبة الجمل الشاعرة ، هنا شاعرٌ اضطهده الجميع لحدة موقفه ، فهو مستقلٌ منذ بدأ الكتابة ، لم ترض عنه الحكومات ، ولم »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

25,124

نبذه صغيرة

شاعر من شعراء العامية المصرية التي يتميز بحسه المرهف وكلماته الجميلة التي تناقش واقعنا العربي والمصري والانساني  الذي نعيش فيه فهو كثيراً ما كتب وتطلع للتغيرات التي سوف تحدث وسوف يحدثها هذا الشعب المصري العظيم وبجانب شعره  بالعامية  المصرية كتب روايات تغوص في الواقع المصري وتكشف الغامض والمهمل والمهمش في صعيد مصر كما انه كتب العديد من المسلسلات الدرامية  .