د عبد العزيز بن سعد دغيثر
الموقف الفقهي من مقاطعة الدول الظالمة
أباح الشارع للمسلم أن يتعامل مع غير المسلم بجميع المجالات إذا لم يكن في ذلك ضرر، ونتيجة لمواقف الدول الغربية وقيامهم بانتهاكات لحقوق المسلمين أو التعدي على حرماتهم تعالت صيحات المسلمين بضرورة مقاطعة هذه الدول التي لها مواقف ظالمة، فما موقف الشرع من هذه المقاطعة ، وما مدى توافقها مع المقاصد الشرعية.
<!-- نجد أن الأعداء يستخدمون المقاطعة الاقتصادية للضغط على المسلمين كثيرًا، وأشهر مقاطعة من هذا النوع ما وقع من كفرة قريش في مقاطعتهم لبني هاشم حتى يسلِّموا لهم النبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم لما واعد بعض أصحابه في مكان بمكة: « نحن نازلون غدًا إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر، وذلك أن قريشًا وكنانة تحالفت على بني هاشم ألا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم » . وقد استمرت هذه المقاطعة الظالمة ثلاث سنين ذاق فيها بنو هاشم وبنو المطلب أبناء عبد مناف أشد البلاء، وقد يكون موت أبي طالب من آثاره وكذلك ماتت بعده خديجة رضي الله عنها بثلاثة أيام. ولا تزال الدول القوية تستخدم هذا السلاح للضغط على الدول الضعيفة لتحقيق مطالبها.
<!--يجوز معاملة الكفار بالبيع والشراء سواء كانوا أهل ذمّة أو عهد أو حرب، إذا وقع العقد على ما يحل، ولا يكون ذلك من موالاتهم، ودليل ذلك ما رواه البخاري عن عبد الرحمن بن أبي بكر -رضي الله عنهما- قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء رجل مشرك مشعان طويل بغنم يسوقها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبيعًا أم عطيّة؟ أو قال: أم هبة؟ قال: لا، بل بيع. فاشترى منه شاةً. كما دل عليه حديث تجارة أبي بكر - رضي الله عنه - في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الشام، وهي حينذاك دار حرب، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في "فتح الباري" (9/ 280): « تجوز معاملة الكفار فيما لم يتحقق تحريم على المتعامَل فيه، وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم ومعاملاتهم فيما بينهم ».
<!-- جواز أن يمنع المسلم نفسه من التعامل مع من يراه محاربًا لله ولرسوله، حيث جاء عند البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قِبلَ نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « ماذا عندك يا ثمامة؟ »، فقال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغدِ فقال: « ما عندك يا ثمامة؟»، قال: ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكرٍ، وإن تقتل تقتل ذا دم وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان من الغدِ فقال: « ماذا عندك يا ثمامة؟ ». فقال: عندي ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دمٍ، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أطلقوا ثمامة ». فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، والله ما كان من دينٍ أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إليَّ، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليَّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر فلما قدِم مكة قال له قائل: أصبوت؟ فقال: لا ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم خرج إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئًا، فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إنك تأمر بصلة الرحم، فكتب إلى ثمامة أن يخلي بينهم وبين الحمل إليهم "فتح الباري.
<!-- والامتناع عن التعامل مع المحادين لله ورسوله صلى الله عليه وسلم مأثور، فقد ورد أن البهلول دفع إلى بعض أصحابه دينارين ليشتري له بهما زيتا يستعذبه له، فذكر للرجل أن عند نصراني زيتا أعذب ما يوجد، فانطلق إليه الرجل بالدينارين فأخبر النصراني أنه يريد زيتا للبهلول فقال النصراني: نحن نتقرب إلى الله بالبهلول كما تتقربون أنتم إليه، وأعطاه بالدينارين من ذلك الزيت ما يعطى بأربعة دنانير من دنيء الزيت ثم أقبل إلى البهلول فأخبره الخبر فقال البهلول: قضيت حاجة فاقض لي أخرى، رد علي الدينارين، فقال: ولم؟ قال: ذكرت قوله تعالى: ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [المجادلة: 22]، فخشيت أن آكل زيت النصراني فأجد له في قلبي مودة، فأكون ممن حاد الله ورسوله على عرض من الدنيا يسير.
<!--لا يجوز التعامل التجاري مع من يسعى في الإضرار بالمسلمين . بأن يستخدموا ما اشتروه لقتال المسلمين ، فقد سئل الإمام ابن تيمية - رحمه الله - عن معاملة التتار فقال: « يجوز فيها ما يجوز في معاملة أمثالهم ويحرم منها ما يحرم في معاملة أمثالهم، فيجوز أن يبتاع الرجل من مواشيهم وخيلهم ونحو ذلك، كما يبتاع من مواشي الأعراب والتركمان والأكراد ويجوز أن يبيعهم من الطعام والثياب ونحو ذلك مما يبيعه لأمثالهم. فأما إن باعهم أو باع غيرهم ما يعينهم به على المحرمات كبيع الخيل والسلاح لمن يقاتل به قتالًا محرمًا فهذا لا يجوز، قال تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2
وبالجملة، فمن نوى بترك شراء بضائع الدول الظالمة واعتاض عنها ببضائع المسلمين حبا للإسلام وأهله وكرهًا للكفر وأهله فنيته مأجور عليها، ومن عجيب ما يذكر في ترجمة الإمام أحمد - رحمه الله - أنه كان إذا نظر إلى نصراني غمض عينيه فقيل له في ذلك فقال: لا أقدر أنظر إلى من افترى على الله وكذب عليه.
<!-- والمسلم إذا وطن نفسه ألا يعين الكافر الظالم على كفره بشراء بضاعته فإنه سيحصل على فوائد له ولمجتمعه منها:
<!--أنه سيؤجر على صدق نيته وحبه للمؤمنين وبغضه لمن حاد الله ورسوله.
<!--أن ذلك الولاء والحب للإسلام وأهله والبراء والبغض للكفار الظالمين سيتجدد دوما وتزيد مما ينتج عنه زيادة ترابط المسلمين واتحاد قلوبهم قبل بلادهم.
<!--أن هذا سيزيد اقتصاد الدول الإسلامية وسيضعف اقتصاد الدول الظالمة على المدى البعيد.
<!--قال العلامة الشيخ عبدالرحمن السعدي - رحمه الله - في خطبة له: « ومن أعظم الجهاد وأنفعه السعي في تسهيل اقتصاديات المسلمين والتوسعة عليهم ، وتوسيع مكاسبهم وتجاراتهم وأعمالهم ، كما أن من أنفع الجهاد وأعظمه مقاطعة الأعداء في الصادرات والواردات، فلا يسمح لوارداتهم وتجاراتهم، ولا تفتح لها أسواق المسلمين، بل يستغني المسلمون بما عندهم من منتوج بلادهم، ويوردون ما يحتاجونه من البلاد المسالمة. وكذلك لا تصدر لهم منتوجات بلاد المسلمين ولا بضائعهم، وخصوصًا ما فيه تقوية للأعداء كالبترول، فإنه يتعين منع تصديره إليهم.. وكيف يصدر لهم من بلاد المسلمين ما به يستعينون على قتالهم؟؟! فإن تصديره إلى المعتدين ضرر كبير، ومنعه من أكبر الجهاد ونفعه عظيم. فجهاد الأعداء بالمقاطعة التامة لهم من أعظم الجهاد في هذه الأوقات، وركن عظيم من أركان الجهاد، وله النفع الأكبر وهو جهاد سلمي وجهاد حربي.
<!--ومن قاطع المعتدين بنية طيبة، فإنه مأجور بنيته، والغيرة للدين القويم والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم دليل إيمان، قال الله تعالى ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ﴾ [التوبة: 120].
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
<!--