المواطنة والدستور
مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر
أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة
ظهر مصطلح «المواطنة» في الحياة الدستورية المصرية لأول مرة، على إثر التعديلات التي دخلت سنة 2007 على الدستور المصري لعام 1971م، والتي جعلت المواطنة أساساً للنظام السياسي. ففي العام 2007م، خضعت المادة الأولى من الدستور المشار إليه للتعديل، بحيث غدا نصها على النحو الآتي: «جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطي يقوم على أساس المواطنة».
أما دستور 2012م، فقد تجاهل النص على «المواطنة» في الباب الخاص بمقومات الدولة كمقوم رئيسي لنظام البلاد، حيث ارتأى المشرع الدستوري آنذاك حذف هذا اللفظ من مادة الصدارة.
ولكن، ووفقاً للمادة الأولى الفقرة الأولى من الدستور المصري الحالي لعام 2014م، «جمهورية مصر العربية دولة ذات سيادة، موحدة لا تقبل التجزئة، ولا ينزل عن شيء منها، نظامها جمهوري ديمقراطي، يقوم على أساس المواطنة وسيادة القانون». وقد ورد هذا النص ضمن مواد الباب الأول للدستور، وعنوانه «الدولة»، والذي يعد من أهم أبواب الدستور، وهو الباب المتعلق بمقومات الدولة أو ما اصطلح عليه بباب الهوية. وهكذا، أعاد المشرع الدستوري المصري النص على المواطنة ضمن مقومات الدولة.
ومن خلال العرض السابق لنصوص الدساتير آنفة الذكر، يبدو جلياً أن المشرع الدستوري المصري لم يورد تعريفاً للفظ «المواطنة»، حيث خلت الدساتير من هذا التعريف، ومن ثم يبدو من الضروري التوقف عند هذا اللفظ ومحاولة تحديد مدلوله ومعناه. وفي هذا الصدد، وإزاء خلو نصوص الدساتير من تعريف المواطنة، يرى البعض وجوب الاحتكام إلى التعريف العام للمواطنة باعتبارها تساوي المواطنين في الحقوق والواجبات العامة (إبراهيم الهضيبي، المواطنة في الدستور، جريدة الشروق، القاهرة، مقالات الرأي، الجمعة 9 مارس 2012م).
ويرى البعض أن مفهوم المواطنة يقوم على عدة مبادئ، في مقدمتها تساوي الناس في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن العرق أو الدين أو اللهجة أو النوع أو الوضع الطبقي. وتبدأ هذه العملية بتساوي الناس أمام القانون، في «مواطَنة مدنية»، يحميها القضاء، بما يعطي الفرد حصانة ضد الاعتقال التعسفي، ويعطيه الحق في حرية التعبير عن الرأي، والحق في الملكية. وتأتي بعدها «مواطًنة سياسية» قامت على أكتاف المؤسسات التمثيلية (البرلمانية)، التي يحصل الفرد من خلالها على حق الانتخاب والترشح. ثم تأتي «المواطنة الاجتماعية» التي تقوم على توفير الرفاه الاجتماعي والاقتصادي للفرد، بما يؤمِّن له حياة كريمة، تلبِّى فيها حاجته إلى الغذاء والإيواء والكساء والدواء والترفيه، ويجد الخدمات التي يحتاجها من تعليم وصحة... الخ. ويقابل هذه الحقوق أداء الفرد ما عليه من واجبات، ومنها طاعة القوانين، ودفع الضرائب، وأداء الخدمة العسكرية أو العامة، أو الاشتراك في الدفاع عن الوطن (د. عمار علي حسن، الإعلام والمواطنة، جريدة الوطن، القاهرة، الأربعاء 29 أبريل 2015م).
وهناك من يميز بين أربع صور حديثة للمواطنة، الأولى هي الصورة «الجمعية»، حيث تدل المواطنة ضمناً على المشاركة والخدمة الاجتماعية من أجل المنفعة العامة، مستندة إلى المرتكزات الأساسية للجماعة ومنها الثقافة والقيم الأخلاقية. والثانية هي «الصيغة الجمهورية المدنية»، وتنصب فيها المواطنة على المشاركة السياسية، إذ لا تشير المواطنة هنا إلى نظام أخلاقي أساسي، أو إلى تجمع أصلي، ولكنها تشير إلى فكرة مساهمة المواطنين في صنع القرار، وإضفاء القيمة على كل من الحياة العامة والجدل العام. والثالثة هي «الليبرالية الجديدة» أو المفهوم التحرري للمواطنة، والذي ينظر إليها بوصفها وضعاً قانونياً، ينحسر فيه المجال السياسي إلى أقل حد ممكن، من أجل منح الفرد أكبر قدر ممكن من الحرية. وفي هذه الحال يصبح المواطنون مبدئياً مستهلكين عقلاء للبضائع العامة، وتبقى المصلحة الشخصية هي الدافع الرئيسي المحرك للمواطنين. أما الرابعة، فهي الصيغة «الليبرالية الاجتماعية للمواطنة» التي صارت مسيطرة في معظم الديمقراطيات الغربية منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. وتركز هذه الصيغة على حقوق الفرد مثل الحق في إبداء الرأي، والتصويت، والضمان الاجتماعي، مقابل الالتزام بدفع الضرائب، وبالخدمة في الجيش، والالتزام بالتقدم إلى الوظائف، وقبولها في حال توافرها، بدلاً من العيش عالة على معونة الدولة. وطبقاً لهذه الصيغة تكون المواطنة شاملة وقائمة على المساواة في الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية، في المجال العام، وحصول الفرد على أكبر قدر من التحرر لممارسة حقوقه، وتطوير شخصيته. ومن هنا، يسعى الأفراد إلى وضع حد لتدخل الدولة في حياتهم (راجع: د. عمار علي حسن، دور الإعلام في دعم المواطنة، جريدة الاتحاد، أبو ظبي، الجمعة 12 أبريل 2013م).
ويرى البعض أن مفهوم المواطنة يشير إلى ثلاثة جوانب. فهو أولاً يتضمن علاقة قانونية هي علاقة الجنسية. وهي علاقة بين الفرد والدولة بمقتضاها تسبغ الدولة جنسيتها على عدد من الأفراد وفقاً للقوانين المنظمة ذلك. وهو ثانيا يشير إلي علاقة سياسية تشمل مجموعة من الحقوق والحريات والواجبات. فالمواطنون وحدهم هم الذين من حقهم الاستفادة من الخدمات الاقتصادية والاجتماعية التي تقدمها هيئات الدولة, وهم وحدهم الذين يحق لهم ممارسة الحقوق السياسية كالانتخاب والترشيح وتكوين الأحزاب. ومؤدي ذلك أن مفهوم المواطنة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمشاركة المواطن في الحياة العامة. ثم هو ثالثاً علاقة معنوية وعاطفية ترتبط بحب الوطن والولاء لمعطياته ورموزه من لغة وتاريخ وثقافة وغير ذلك من رموز الهوية والانتماء (نوري صبيح، المواطنة في الدستور العراقي، جريدة البينة الجديدة، الثلاثاء 17 يوليو 2012م).
ويرى البعض الآخر أن المواطنة مفهوم قانوني في المقام الأول، تتجسد نظرياً في مبادئ وقواعد دستورية وقانونية تحدد شكل النظام السياسي والقيم والأهداف، التي يقوم عليها، وكذا في الكيفية، التي يشارك بها المواطنون في صنع القرارات والسياسات العامة. وترتكز هذه القواعد الدستورية والقانونية المجسدة للمواطنة على مبدأ المساواة بين الأفراد والجماعات في الحقوق والتكاليف العامة. ومن هذا المنطلق، فإن المواطنة، بما تتضمنه من حقوق وواجبات، ومشاركة واعية، وإحساس ناضج بالانتماء، هي حجر الأساس في البناء الدستوري والسياسي للدولة الحديثة؛ فالفكر السياسي الحديث يعتمد في البناء القانوني للوطن على هذا المفهوم، ويحدد له جملة من الإجراءات والاعتبارات (عبد الجليل أبو المجد، المواطنة في مشروع الدستور الجديد، المغربية، تصدر في المملكة المغربية، 30 يونيو 2011م).
ويرى البعض أن المواطنة هي مشاركة نشطة للأفراد، وتتضمن إحساسهم بالارتباط والولاء للدولة وليس للشخص أو الأشخاص الحاكمين، وتقوم على فكرة الانتماء، والأشياء المشتركة داخل الدولة، في إطار من المسؤوليات والحقوق يحددها الدستور (د. سعيد خمري، حقوق الإنسان والمواطنة في الدستور المغربي الجديد، كلمة ملقاة في الندوة العلمية الدولية تحت عنوان: «حقوق الإنسان بين الحقيقة والاستغلال» بمناسبة الذكرى 43 لانتفاضة محمد بصير التاريخية بالعيون، التي نظمتها الطريقة البصيرية يومي 17 و18 يونيو 2013. بمقر الطريقة بزاوية سيدي ابراهيم البصير ببني عياط إقليم أزيلال؛ د. سعيد خمري، دستور 2011 بناء جديد للمواطنة، دروس كرسي جامعة القاضي عياض للمواطنة وحقوق الإنسان، 27 مايو 2013م).
ساحة النقاش