الدكتور أحمد عبد الظاهر أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

قراءة في حكم محكمة القرن (3-3)

بقلم الدكتور أحمد عبد الظاهر

أستاذ القانون الجنائي المساعد بجامعة القاهرة

 

بعد أن استعرضنا في المقال السابق حيثيات الحكم الصادر من محكمة جنايات القاهرة في القضية المعروفة إعلاميا تحت اسم «محاكمة القرن»، يغدو من المناسب أن نقوم بدراسة هذا الحكم والتعليق عليه، وذلك حتى نتبين وجه الصواب أو الخطأ فيه. وكما هو واضح من الحيثيات، يتبنى الحكم الاتجاه القائل بجواز تحقق المساهمة الجنائية أو الاشتراك في الجريمة بطريق الامتناع.

 

الامتناع – في الاصطلاح القانوني – هو «إحجام الجاني عن إتيان فعل إيجابي معين، كان المشرع ينتظره منه في ظروف معينة، بشرط أن يوجد واجب قانوني يلزم بهذا الفعل وأن يكون في استطاعة الممتنع القيام بهذا الفعل». ونستخلص من هذا التعريف أن الامتناع يقوم على عناصر ثلاثة، هي: (الأول) الإحجام عن فعل إيجابي معين؛ (الثاني) وجود واجب قانوني يلزم بهذا الفعل؛ (الثالث) الصفة الإرادية للامتناع.

 

وينبغي التمييز في هذا الصدد بين القتل بالامتناع وبين المساعدة أو المساهمة الجنائية عن طريق الامتناع. ففي الحالة الأولى، أي القتل بالامتناع، يلاحظ أن الامتناع هو السبب البشري الوحيد لتحقق القتل، دون أن يساهم شخص آخر في ارتكاب فعل إزهاق الروح. والمثال الأبرز في هذا الشأن هو امتناع الأم عن إرضاع طفلها أو عن قطع حبله السري، وبحيث يترتب على ذلك وفاة الطفل. ومثال ذلك أيضا، من يعهد إليه برعاية مريض عاجز عن الحركة، فيمتنع عن تقديم الطعام أو الدواء إليه، حتى تفارق روحه جسده. ومعلم السباحة الذي يمتنع عن إنقاذ تلميذه، فيغرق. أما في الحالة الثانية، أي المساعدة أو المساهمة الجنائية عن طريق الامتناع، فإن أحد الأشخاص يقترف فعل القتل، بينما يساهم شخص آخر أو أشخاص آخرون بامتناعهم في تحقيق النتيجة الإجرامية.

 

وفي هذا الشأن، يمكن القول بأن تحديد ما إذا كان الامتناع يصلح صورة للمساعدة محل للخلاف في الرأي. إذ يذهب الفقه التقليدي إلى إنكار ذلك، بينما يرى الفقه الحديث صلاحية الامتناع كوسيلة للمساعدة. وقد انحازت محكمة النقض المصرية إلى المذهب التقليدي، فقضت بأن «لا جدال في أن الاشتراك في الجريمة لا يتكون إلا من أعمال إيجابية ولا ينتج أبدا من أعمال سلبية» (نقض 28 مايو سنة 1945م، مجموعة القواعد القانونية، الجزء السادس، رقم 583، ص 719). وهذا القضاء ليس مستحدثا، وإنما ذهبت إليه محاكم الاستئناف قبل إنشاء محكمة النقض والإبرام في سنة 1931م. فقد قضي بأنه إذا قدم المأمور بأمر المدير متهمين في سرقة إلى أحد الأعيان ووضعهم تحت تصرفه ليناقشهم ويحصل منهم على اعتراف، فأمر العين رجاله فضربوهم وحبسوهم حتى اعترفوا، وكان ذلك بحضور المأمور واطلاعه، ففضلا عن أن ذلك لا يعد أمرا من المأمور بتعذيب المتهمين، فإنه لا يعد اشتراكا منه في جريمة الضرب (حكم محكمة الاستئناف المؤرخ في 10 مايو سنة 1902م، الحقوق، س 17، ص 106).

 

وباستقراء موقف القضاء الفرنسي في شأن ذات الموضوع، يلاحظ أن الأحكام الصادرة عن محكمة النقض ما تزال تردد مبدأ «عدم صلاحية الامتناع لقيام المساعدة به». ومع ذلك، وفي أحكام عديدة، أقرت محكمة النقض الفرنسية عقاب شخص امتنع عن الحيلولة دون ارتكاب جريمة، معللة ذلك بأن من شأن الامتناع تقديم عون معنوي للفاعل أو تهيئة ظروف مواتية لارتكاب الجريمة. وتطبيقا لذلك، أقرت المحكمة إدانة شخص بتهمة الاشتراك في إجهاض عشيقته، وذلك لمجرد حضوره أثناء إجرائه. إذ أن هذا الحضور، وما أضمره من تأييد له، قد مثل عونا معنويا لفاعل الجريمة. وأقر كذلك إدانة «محرر عقود» لم يكشف عن رهون رسمية على عقار، باعتباره شريكا في نصب وخيانة أمانة، لأن سلوكه قد انطوى على تسهيل ارتكاب هاتين الجريمتين. وأقر القضاء الفرنسي أيضا إدانة «خبير محاسب» باعتباره شريكا في غش ضريبي، لأنه لم يقم بواجبه في مراجعة وتصحيح الدفاتر الحسابية لعميله.

 

وعلى هذا النحو، يمكن القول بأن محكمة جنايات القاهرة قد انحازت في قضية القرن إلى الرأي القائل بصلاحية الامتناع لتحقق المساعدة به، وذلك خلافا لما استقرت عليه أحكام محكمة النقض المصرية، وعلى خلاف القاعدة العامة المستقرة في القضاء الفرنسي. وبناء على تبني محكمة جنايات القاهرة لهذا الرأي، قضت بإدانة كل الرئيس السابق «حسني مبارك» ووزير الداخلية الأسبق «حبيب العادلي». ومع ذلك، وبمجرد صدور الحكم، ثارت المظاهرات ومسيرات الاحتجاج على الحكم، مطالبة بتطهير القضاء.

 

من ناحية أخرى، ادعى البعض وجود تناقض في الحكم. إذ يرى البعض تناقضا بين إدانة الرئيس السابق ووزير داخليته وبين تبرئة مساعدي الوزير الستة. والواقع أن المحكمة نفسها قد تكفلت – في حيثيات الحكم – بالرد على مثل هذا الزعم، مؤكدة أن «ما نسب إلى الرئيس السابق محمد حسنى مبارك ووزير داخليته حبيب العادلى تم عقابهما من اجلها الاشتراك بالامتناع ــ فعل الامتناع ــ وقد يثار أن تلك الأفعال قد يتم نسبتها إلى باقي المتهمين إلا أن ذلك لا يصح في الفكر القانوني السليم وكذلك لا يصح في الأذهان وذلك لأن المراكز القانونية لحسنى مبارك والعادلي تختلف عن المراكز القانونية لباقي المتهمين، وبصفة حسنى مبارك رئيسا للجمهورية والعادلى وزيرا للداخلية مكنهما من اتخاذ القرار ولدى كل منهما سلطة إصدار الأمر الواجب إطاعته قانونا وباقى المتهمين لا يملك أي منهم بصفته الوظيفية هذا الأمر وما هم إلا أدوات تنفيذ في يد مبارك والعادلى».

 

وهكذا، يبدو جليا أن الحكم الصادر في محاكمة القرن قد صدر مطابقا لصحيح القانون. وبناء على ذلك، نرى من الملائم أن نقول شهادة حق وأن ننبه إلى خطورة الدعوات المنادية بتطهير القضاء، والتي تتجاهل التاريخ ناصع البياض للقضاء المصري الشامخ عبر العصور، والذي أثبت دوما أن قضاة مصر العظام هم الحصن الحصين للحقوق والحريات، دون أن يؤثر فيهم سطوة سلطان جائر أو رأي عام ثائر. هذا هو القاضي المصري عبر كل الأزمنة والعصور. وإذا كان القضاء المصري قد حافظ على حياده واستقلاليته ونزاهته في ظل النظام البائد، فمن الطبيعي أن يبقى على عهده من الحيدة والنزاهة والاستقلال في ظل مصر الثورة.

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 289 مشاهدة
نشرت فى 19 يونيو 2012 بواسطة law

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

158,093