الدكتور أحمد عبد الظاهر أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

قراءة في حكم محكمة القرن (1-3)

 

بقلم الدكتور أحمد عبد الظاهر

أستاذ القانون الجنائي المساعد بجامعة القاهرة

 

        في الثاني من شهر يونيو الحالي، أصدرت محكمة جنايات القاهرة حكمها في القضية رقم 3642 لسنة 2011 جنايات قسم المنيل المقيدة برقم 157 لسنة 2011 كلي وسط القاهرة والقضية رقم 1227 لسنة 2011 قصر النيل المقيدة برقم 57 لسنة 2011 كلي وسط القاهرة. وقد اشتهرت هذه القضية في وسائل الإعلام تحت اسم «قضية القرن» أو «محكمة القرن»، وهي القضية المتهم فيها الرئيس السابق «محمد حسني مبارك» ووزير الداخلية الأسبق «حبيب العادلي» وستة من مساعديه ونجلي الرئيس السابق «علاء مبارك» و«جمال مبارك» ورجل الأعمال الهارب «حسين سالم». وتتلخص الاتهامات الموجهة إلى المتهمين في شقين: (الأول) الاشتراك في قتل المتظاهرين السلميين يومي 25 و28 يناير 2011م، والمتهمين في هذه الجريمة هم الرئيس السابق ووزير الداخلية الأسبق ومساعديه الستة. (الثاني) استغلال النفوذ والرشوة، وتتعلق بتقديم رجل الأعمال الهارب حسين سالم خمس فيلات إلى الرئيس السابق ونجليه في مدينة شرم الشيخ.

 

        وبعد أن نظرت المحكمة القضية، جاء حكمها على النحو التالي: إدانة الرئيس السابق ووزير الداخلية الأسبق بالسجن المؤبد، وتبرئة المساعدين الستة، وذلك فيما يتعلق بجريمة قتل المتظاهرين السلميين. أما فيما يتعلق بجريمة استغلال النفوذ والرشوة، فقد قضت المحكمة بانقضاء الدعوى الجنائية، الأمر الذي يؤدي عمليا إلى عدم إمكان ملاحقة الرئيس ونجليه ورجل الأعمال الهارب عن الجريمة آنفة الذكر بتوصيفها القانوني المشار إليه. وبمجرد صدور الحكم، ثارت ردود أفعال واسعة تصاعدت إلى احتجاجات وتظاهرات ضد الحكم. وقد عمد بعض مرشحي جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية إلى محاولة استغلال الأمر سياسيا، حيث تعهد مرشح حزب الحرية والعدالة بأنه في حال فوزه برئاسة الجمهورية سيعمل على إعادة المحاكمة من جديد، وفق أدلة جديدة. بل لقد وصل الأمر إلى حد قيام مجلس الشعب بتخصيص جلسته المنعقدة يوم 3 يونيو 2012 لمناقشة الحكم، وتسابق الأعضاء في توجيه الانتقادات اللاذعة إلى الحكم. ونظم نحو ثلاثة آلاف متظاهر مسيرة احتجاجية حاشدة من ميدان التحرير إلى دار القضاء العالي، حاملين أعلام مصر وصورا للشهداء. وقد حاول بعض المتظاهرين اقتحام المبنى، إلا أن الأمن منعهم. وطالب المشاركون في المسيرة بإعادة محاكمة المتهمين أمام محاكم ثورية، قصاصا لأرواح الشهداء، كما طالبوا «بتطهير القضاء» على حد وصفهم. والغريب أن العديد من رجال القانون والقضاء قد صبوا جم غضبهم على الحكم، موجهين إليه العديد من سهام النقد، دون أن يكونوا قد اطلعوا على الحكم أو وقفوا على الحيثيات الواردة فيه. وقد تذرع البعض في ذلك بأن التعليق على أحكام القضاء أمر جائز ولا غبار فيه. وهكذا، راح البعض يتحدث عن «التأبيدة العجيبة». وثمة مقال اختار صاحبه له عنوان «الخبير القانوني سلامة يدحض أحكام وأسانيد محكمة القرن». والقائمة تطول من المقالات الصحفية والأحاديث التليفزيونية التي تناولت الحكم بالنقد الذي يصل أحيانا كثيرة إلى حد التسفيه. وقد ذهب أحد رجال القضاء السابقين إلى وصف الحكم بالتناقض، مشيرا بذلك إلى إدانة الرئيس السابق ووزير داخليته، بينما تمت تبرئة مساعدي الوزير الستة.

 

والواقع أن ثمة آداب معينة للتعليق على الأحكام القضائية؛ إذ ينبغي دائما إبداء الاحترام والوقار الواجب للسلطة القضائية، والابتعاد عن كل ما من شأنه المساس بهيبة القضاة أو توجيه الإهانة لهم. وإذا كان من الجائز أن يتم التعليق على أحكام القضاء في المجلات الفقهية القانونية أو أن يتم مناقشتها في الندوات العلمية المنعقدة بكليات الحقوق، فإن هذه المناقشة لا يجوز أن تتم بأي حال من الأحوال في جلسات البرلمان أو في ميدان التحرير. فالقانون علم له أصوله ومبادئه ونظرياته التي تخفى على بعض رجال القانون أنفسهم. فمما لا شك فيه أن الخاصة ممن تدخل دراسة القانون في عملهم، أصبحوا يضيقون بحالة السيولة الزائدة التي تصدر بها التشريعات في الوقت الحاضر، ومن تشعب المواد التي تصدر فيها. ولا تقتصر هذه الظاهرة على دولة دون أخرى، وإنما تكاد تشمل العالم بأسره، ويمكن التعبير عنها باستخدام مصطلح «التضخم التشريعي» (inflation législative). وقد قاد كل ذلك إلى أن غدا تحديد النص القانوني واجب التطبيق في كل دعوى من أبرز المشكلات التي يواجهها القاضي. كما يترتب على التضخم التشريعي قيام الصعوبة لدى رجال القانون في ملاحقة النصوص القانونية، والتعرف على أحكامها، والوقوف على ما هو نافذ وغير نافذ منها. وإذا كان الحال كذلك بالنسبة لرجال القانون، فما بالكم بالشخص العادي. وكما أنه لا يجوز لغير الأطباء أن يتكلموا في الطب، فليس من السائغ أيضا لغير القانونيين أن يتحدثوا في القانون.

 

من ناحية أخرى، ينبغي أن يتحلى رجل القانون بالتواضع عند تعليقه على الحكم القضائي. فلا يجوز له الجزم بخطأ الحكم القضائي أو أن يوجه إلى هيئة المحكمة بعض العبارات التي قد يستشف منها الاستخفاف بهيئة المحكمة أو الانتقاص من قدرها. ونرى من المناسب أن يضع القائم بالتعليق نصب عينيه دائما عبارة الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه: «رأيي صحيح يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب».

 

وأخيرا، نعتقد بأن التعليق على الأحكام القضائية غير جائز قبل الاطلاع على الحيثيات الواردة فيها. وحتى يتسنى لنا بيان مدى الظلم الذي تعرضت له هيئة المحكمة التي أصدرت الحكم في قضية القرن، نرى من الملائم إلقاء الضوء على بعض الفقرات التي وردت في هذا الحكم، وذلك حتى يتسنى لنا الوقوف على حيثياته، وبيان ما إذا كان قد صدر مطابقا للفهم الصحيح للقانون أم لا. وسنخصص لذلك المقال القادم إن شاء الله.   

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 219 مشاهدة
نشرت فى 19 يونيو 2012 بواسطة law

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

163,707