إصلاح جهاز الشرطة
مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر
أستاذ القانون الجنائي المساعد بجامعة القاهرة
الثامن والعشرين من شهر يناير سنة 2011م يوم لا ينسى في التاريخ المصري، وسيظل محفورا في الذاكرة المصرية. فقد شهد هذا اليوم جمعة الغضب التي كانت بمثابة البداية الحقيقية لثورة الخامس والعشرين من يناير المباركة، بحيث انطلقت اعتبارا من هذا اليوم المظاهرات والاعتصامات المتواصلة لإسقاط نظام الرئيس السابق «حسني مبارك». ومع تصاعد المظاهرات التي شهدها هذا اليوم، وخروج الأمر عن سيطرة رجال الشرطة، أصدر الرئيس المخلوع بوصفه الحاكم العسكري قرارا بحظر التجوال في محافظات القاهرة الكبرى والإسكندرية والسويس من الساعة السادسة مساء وحتى السابعة صباحا. كما أصدر الحاكم العسكري قرارا بأن تقوم القوات المسلحة بالتعاون مع جهاز الشرطة بتنفيذ هذا القرار، للحفاظ على الأمن وتأمين المرافق العامة والممتلكات الخاصة. وعلى إثر ذلك، ورغم أن القرار نص صراحة على تعاون القوات المسلحة مع جهاز الشرطة في تنفيذ القرار، فإن وزير الداخلية الأسبق «حبيب العادلي» قد أصدر أوامره لأجهزة الشرطة بالانسحاب، تاركا المهمة بأكملها للقوات المسلحة، الأمر الذي أدى إلى نوع من الفراغ الأمني، وظهور الآلاف من البلطجية الذين يعيثون في الأرض فسادا، حيث تم الاعتداء على السجون وأقسام الشرطة، وإخراج السجناء من زنازينهم. ويبدو أن ذلك كان مدبرا، بقصد إرباك الثورة، وإيهام المواطن العادي بأن الثورة ستحمل في طياتها غياب الإحساس بالأمن، وأن يترحم بالتالي على أيام «مبارك» التي كانت في سبيلها إلى الزوال آنذاك.
ومنذ ذلك التاريخ، ما زالت مصر تعيش في حالة من الفراغ الأمني وانتشار عصابات البلطجة المأجورة، الذين وصل عددهم – بحسب تصريح صادر عن وزير العدل في حكومة «عصام شرف» – إلى خمسين ألف بلطجي، يتقاضى الواحد منهم خمسة آلاف جنيه في اليوم الواحد، نظير الإسهام في إحداث حالة من الفوضى في الشارع المصري، والقيام بعمليات ترويع للمواطنين الآمنين.
ومع غياب رجال الشرطة عن الشارع المصري، وللقضاء على فلول الثورة المضادة، بدأ البحث عن سبل حل المشكلة ومحاولة إيجاد آليات للقضاء على حالة الانفلات الأمني شديدة الوضوح. حيث نادى البعض بتعيين ضباط شرطة من خريجي الجامعات. ولم يقف الأمر عند حد الاقتراح، وإنما تعداه إلى مرحلة الدراسة الجدية، حيث كشف اللواء «منصور العيسوي» وزير الداخلية عن أن أكاديمية الشرطة تعكف على دراسة مقترح بتعيين ضباط من خريجي الجامعات، بشرط استيفائهم لسنة أو أكثر في دراسة مواد الشرطة. كذلك، نادى البعض باستيعاب بعض الدفعات من الشباب المتقدمين للتجنيد في القيام بأعمال الشرطة وحفظ الأمن. وفي هذا الإطار أيضا، أي محاولة إصلاح جهاز الشرطة، يمكن أن نشير إلى قرار وزير الداخلية في حكومة «عصام شرف» بإلغاء جهاز مباحث أمن الدولة، وإنشاء قطاع جديد تحت مسمى قطاع الأمن الوطني. بل أن البعض ذهب إلى حد رفع دعوى أمام القضاء الإداري، مطالبا بإلغاء جهاز الأمن الوطني.
ولأن الشرطة تحتاج إلى إصلاح حقيقي، وليس مجرد مسكنات أو حلول مؤقتة، فإن الأمر يحتاج إلى ما هو أبعد من تغيير المسميات أو تغيير الزي. وفي اعتقادنا أن الإصلاح الحقيقي يكمن في القضاء على الأسباب التي أدت إلى «تغول» جهاز الشرطة، واقتلاع عناصر الحساسية بين الشرطة والمواطن العادي من جذورها. ولن يتأتى هذا إلا من خلال البدء فورا وحالا في خمسة أمور:
(الأول) الفصل التام بين وزارة الداخلية وبين جهاز الأمن الوطني. وهذا الفصل موجود فعلا في العديد من الدول الأخرى. ويكفي هنا أن نشير إلى جهاز الشاباك أو الشين بيت في الكيان الصهيوني، والذي يخضع مباشرة لرئيس الحكومة، ويعتبر من أصغر الأجهزة الاستخبارية، ويتكون من بضعة آلاف من العناصر، ويقتصر دوره على جمع المعلومات عن حركات المقاومة الفلسطينية والسعي لإحباط عملياتها ضد دولة الاحتلال، وكذا جمع المعلومات حول الأشخاص المرشحين لمناصب ووظائف حساسة.
(الثاني) نقل تبعية جهاز المباحث إلى وزارة العدل بدلا من وزارة الداخلية، بحيث يتم إنشاء جهاز تحت اسم الضبطية القضائية، يضم عناصر من رجال الشرطة، ويختص بالتحري عن الجرائم وضبط مرتكبيها، مع تقرير تبعيته للنائب العام. ويكفل ذلك ألا تتوزع تبعية مأموري الضبط القضائي من رجال الشرطة بين النائب العام وبين رؤسائهم في وزارة الداخلية كما هو الحال في ظل الوضع الحالي.
(الثالث) نقل تبعية السجون من وزارة الداخلية إلى وزارة العدل. وهذا النظام موجود فعلا في النظام القانوني الفرنسي، وفي غيرها من الدول الديمقراطية الأخرى. وقد نادى بذلك العديد من المتخصصين في علم العقاب وعدد كبير من فقهاء القانون الجنائي.
(الرابع) إدخال مادة حقوق الإنسان كمادة أساسية في جميع سنوات الدراسة بكلية الشرطة.
(الخامس) إعداد مشروع قانون جديد لهيئة الشرطة، يكفل نوعا من الاستقرار الوظيفي لرجل الشرطة، ويراعي تحقيق مبدأ المساواة بين أعضاء قوة الشرطة. إذ أن فاقد الشيء لا يعطيه. ورجل الشرطة الذي يفتقد إلى الاستقرار الوظيفي، ولا يحظى بالحماية القانونية لحقوقه، لن يكون بمقدوره احترام حقوق وحريات الآخرين.
ساحة النقاش