هدير الصمت

هذا الموقع معني بـ: قصص ، رواية، نقد ، مقال سياسي ، مقال فلسفي ، شعر

<!--

<!--

قصيدة وقراءة :

 

"دعاء" محمد الشلطامي، وملامح الاغتراب الوجودي

ــــــــــــــــــ

 

 

أولا: القصيدة :

ـــــــــــــــــــــــــ

دعاء

شعر: محمد الشلطامي

(شاعر ليبي)

 

 

يا رب ها هي يدي ممدودةٌ

فكما تحب ومثلما تبغي

يدي مفتوحة لك

تشرئب من الشروق إلى المساء

  وبكل ما في عالمي المجنون من حمّى

  أمدّ إلى الرجاء

 كالمعول المفلول أرفعها

 كأعمدة الدخان نحو السماء

فأين أنت

  وأين ..أين هو الرجاء؟!

 هذا الشتاء يهبّ

والأبواب موصدة

وكفي للعطاء مفتوحة

  والليل طال به المكوث

وها هنا أنا منذ أن جرحتْ سديمَ الأفقِ أروقةُ الضياء

أتوه

  منذ أن لفظتني أكفاني أجوع

لاشيء يمنحني الحياةَ

إلا اختلاج ظَلّ يصهرني

ويصخب في العروق

الليل طال فما الشروق؟

أنا منذ أن ولد الظلام

 ولدت أعبر للحياة

جسراً من الأشواك

أحبو فوقه

والليل تاه

  حطَّ الرحال عليّ

غاصا في فؤادي مخلباه

 الليل فجري

والظلام رفيق ميلادي وفكري

ما يزال يحبو على صدر المدى المجهول

يرفعه الخيال حينا

  فيصفعه السؤال: من أنت ؟

أنا من أنا ؟

يا لي نسيت

 أكاد يدهمني الخريف،

أنا قد ولدت على الرصيف

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القصيدة  كتبت في 1 /1 / 1963 ومنشورة ضمن ديوان (تجربة شخصية)

 

*******************

 

ثانيا : القراءة

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

 

في تجربة مشمولة بالشعور بظلامية المصير، وانفلات التساؤلات الحائرة ، تبدأ التجربة  تَجسُّدَها نصوصياً ، معبرة عن حالة اغتراب وجودي ضالع الارتماء في سواد المصير وملامح عالم ملفع بالموت واللامعنى سوى معني الموت، أو الجوع المفضي إلى موت، ولعله جوع إلى معرفة الحقائق، وموت يؤول إلى موت الحقائق في عالم يتسم بالجنون والشح والبرودة والحصار، وكلها ضد ما تبغيه الذات الباحثة عن معني الحياة الحقيقية المتسلحة بالعقل ومنطقه، والرغبة في ملامسة دفئها ، والعطاء المتنامي نحو اجتياز الحرمان من الحياة الحقيقة،  والحرية التي لا تعرف الحصار:

 

ـ  " وبكل ما في عالمي المجنون من حمى / أمد الرجاء "

ـ  " هذا الشتاء يهبٌّ / والأبواب موصدة / وكفي مفتوحة / والليل طال به المكوث"

 

ومن خلال هذا الرصد لملامح هذا الوجود، ومتطلبات الذات وتطلعاتها تتضح مساحة الهوة بين الذات الشاعرة والحياة نفسها بوصفها تجسيدا للـ (لامعنى) والظلام، ولعل هذه الهوة كانت مناسَبَةً أو مدعاة لإطلاق التساؤلات الحائرة المُشِفَّة عن حالة الاغتراب ، إذ يتساءل عن "الأنا" المضيعة، أمام صفعة الوجود وإنكاره للذات متسائلا : " من أنت ؟" ، ولتتجسد حالة التوه والضياع المقرون بالألم والمعاناة، نصوصياً في كثير من الصور والتعبيرات :

 

ـ ولدت أعبر للحياة / جسراً من الأشواك /  أحبو فوقه والليل تاه

ـ وها هنا أنا / منذ أن جرحتْ سديمَ الأفق أروقةُ الضياء / أتوه.

ـ المدي المجول

ـ من أنا؟

ـ ولدتُ على الرصيف.

 

لقد بدا الوجود ملفعاً بالظلام .. ولقد تكررت تيمة "الظلام" ودلائلها مثل "الليل" في القصيدة بشكل ملفت، بما يؤهل هذا الحقل الدلالي من قيامه كموضوعة رئيسة تشكل هاجس التجربة وتلون رؤيتها .

 

لقد وقف الشاعر في ميدان الوجود فاكتنفته الظلمة، وحاول أن يبحث في المجهول ، لعله يجد إجابات لأسئلة تلح عليه حتى يريح عقله ووجدانه دون جدوى، فقد ظلت المأساة الوجودية تلفُّه من كل جانب وبقيت نفس الشاعر موزعة بين الأسئلة وحالة التوه، وكأن الوجود بلا إجابات أو لكأنه اللغز الكبير، ومن ثم تجد الذات نفسها في حالة دعاء إلى الله / عنوان النص كملاذ أكيد، ترفع الأكف إليه في ضراعة ورجاء تلتمس من الله التدخل، إلا أنها في لحظة صادمة ـ للوهلة الأولى ـ تتوجه إلى الله بالتساؤل: "أين أنت؟" .. هو تساؤل صادم للوعي الإيماني بقدرة الله وحقيقة وجوده، بيْدَ أن ما نؤكده هنا أن تساؤل الشاعر لم يكن إنكارياً ، بل كان تساؤل مستغيثٍ يستعجل الغوث، ليظل على إيمانه بقدرة الله على الإغاثة. وأيضاً تساؤل المستغيث عن الرجاءات الكثيرة التي ذهبت في فضاءات السماء سدى:

 

ـ " وبكل ما في عالمي المجنون من حمى / أمد الرجاء / كالمعول المفلول أرفعها/ كأعمدة الدخان إلى السماء / فأين أنت / وأين .. أين هو الرجاء؟ "

 

ولعل الجزئية الأخيرة من السؤال : " أين .. أين هو الرجاء ؟!" تجسيد للشعور بعبثية الرجاء نفسه أمام حالة الإغلاق الدائم أما مساعي الذات لاجتياز الحياة/ الظلام؛ فالأبواب على ما يبدو مغلقة في الأرض وفي السماء!! .. هكذا تمارس الذات أقصي ما لديها من تشاؤمية لصيقة بحالة اغتراب وجودي فادحة الوقع.

وبالقدر نفسه يتجسد أمامنا شعور الذات الشاعرة بعبثية المسعى نفسه في مثل هذا الوجود الصارم المغلق في وجهها. . لقد ذهبت كل مساعي الذات سدى، وكل محاولاتها للتفلت من رِبْقة الحصار/ الظلام السادر.

 

ماذا بقي إذن غير الموت الأكيد .. إنه الوجود العبثي المفضي إلى موت ، إذ يبدو النص محتضنا لهذه القيم الموتية أيضاً:

 

 ـ " منذ لفظتني أكفاني أجوع / لا شيء يمنحني الحياة / إلا اختلاج ظل يصهرني / ويصخب في العروق"

 

هكذا ينحصر معنى الحياة إلى مجرد اختلاجات في العروق، ولعلها الشاهد  على كل هذه المعاناة، والشاهد على استمرار حالة التوه في هذا الظلام.

 

الحقيقة أن نص الشاعر  مفعم بمشاعر الاغتراب والقهر واليأس والقلق ، يكفينا لندرك ذلك معاينة التعبيرات الدالة والصور المتلاحقة التي تؤكد ذلك:

ـ هذا الشتاء يهبُّ / والأبواب موصدةٌ

ـ والليل طال به المكوث

ـ منذ أن لفظتني أكفاني أجوع / لا شيء يمنحني الحياة.

ـ الليل طال فما الشروق؟ أنا منذ أن وُلد الظلام / ولدتُ أعبر للحياة / جسرا من الأشواك / أحبو فوقه / والليل تاه.

ـ والظلام رفيق ميلادي وفكري / ما زال يحبو على صدر المدى المجهول!

 

ثمة ضفيرة بطول النصِّ، ينجدل فيها اليأس بالتشاؤم بالتساؤلات الحائرة ، بمشاعر الاغتراب الباحث ليس عن الذات المضيعة فحسب ، بل عن معني وجودها وقد أضحى المصير مجهولا في عالم مُسَيَّج بالظلام الذي تضيع معه الحقائق والملامح وتنعدم الرؤية البصيرية.

 

 ولعل رمزية الظلام الذي تكررت تيماته في النص تؤكد هذا المنحي، فعند انعدام الرؤية البصرية مع ديمومة الظلام حتما تنعدم الرؤية البصيرية، وقد أصبحت كل معالم الحياة خارج الإدراك. هذا فضلا عن رمزية الليل إلى الخوف والمجهول، وانعدام الأمن، فضلا عن دلالاته على التشاؤم، فكل معاني الليل ودلالاته ورمزيته تتجه بنا للسير مع رؤية الشاعر نحو مصير مجهول في حياة هي بين قوسين ظلام متكاثف ممتد بطول الحياة وعرضها:

 

ـ "والظلام رفيق ميلادي / ما زال يحبو على صدر المدي المجهول / يرفعه الخيال حيناً / فيصفعه السؤال / من أنت؟"

 

هكذا يصل الضياع حد التشكيك في الذات الشاعرة نفسها ، وقد تناست أمام مساحة الاستجهال والتعمية من هي: "أنا .. من أنا؟ / يا لي نسيت!"

وليأخذ التساؤل ـ في إطار هذه الرؤية ـ مشروعيته:" فما الشروق؟"

 .لم يقل الشاعر : أين الشروق، أو متى الشروق؟ .. لم يعد التشوُّف ممكنا ولم يعد للمكان والزمان قيمتهما وقد فقدت الحياة معناها وطابعها الثنائي بين تعاقب النور والظلام، ولذلك يصبح التساؤل: "ما الشروق ؟" تساؤلا عن المعنى.. ما معنى وجود الشروق وقد أمسى الظلام المضطرد هو سيد هذا الوجود؟، ما معنى الشروق وقد تأكدت عدمية النور؟

 

أمام هذه الحيرة البالغة والشعور بالضياع وسواد المصير وانعدام الرؤية البصيرية المفضية إلى" لا أدري"، والمفضية إلى تساؤلات كبرى حول معني الحياة ومفرداتها، أمام كل ذلك تبدأ ملامح الاغتراب الوجودي في التشكل أمامنا، وقد أمسى الإنسان مضيَّعا ملقى في المجهول ، أو بالمعني الذي يؤكده الوجوديون أمسى صفراً على الشِمال في هذه الحياة بانتظار أن يبتلعه المجهول ، بل أمسى وجوده بلا مبرر، أو كما يرى سارتر في نظرته العدمية للإنسان في هذا الوجود: شهوة لا جدوى منها، وقد ولد بلا مبرر، ويستمر عن ضعف ويموت مصادفة.

 

**************

 

 

 

 

 

khfajy

سترون أبيضي عندما يلوح بياض الآزمنة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 172 مشاهدة
نشرت فى 7 إبريل 2014 بواسطة khfajy

ساحة النقاش

عبدالجواد خفاجى

khfajy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

17,878