هدير الصمت

هذا الموقع معني بـ: قصص ، رواية، نقد ، مقال سياسي ، مقال فلسفي ، شعر

<!--

<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman";} </style> <![endif]-->

الأسطورة والخرافة

في رواية أرض الحرابة

لعبد الجواد خفاجي

                                                                بقلم / نبيل بقطر

عبد الجواد خفاجي واحد من المهمومين بالفعل الإبداعي في صعيد مصر، يرفض أن يبيع نفسه على مقاهي القاهرة مفضلا الصعيد الجواني كنزه الروائي؛ ليسخر من هناك كل طاقاته الإبداعية، شعر ، قصص قصيرة، روايات، دراسات؛ للتعبير عن هذه البقعة بكل ما تحمل من موروث بيئي مترع بالخرافة يشدها للأسفل، مواصلا مسيرة صعبة أشبه بالنحت في الصخر.

 في روايته الرابعة أرض الخرابة التي صدرت عام 2010م عن دار سندباد للنشر والإعلام في مائة صفحة من القطع المتوسط يؤرخ لكل ما هو غرائبي وأسطوري ، فى هذه الرواية جاء الراوي مشاركا في الأحداث ، كأحد الشخوص الأساسية فيها، بدا ذلك من أول كلمة بدأ بها روايته "جميعنا يعرف"ثم توالت بعد ذلك كلمات مثل/ نحن الصبية/شاهدتهم/سمعت/ قالت أمي....الخ.

كان الصعيد هو مسرح الرواية، أما زمنها فقد شمل فترة مهمة في التاريخ المصري تمتد من  بعد ثورة يوليو وحتى نهاية الستينيات، وقد جاءت الرواية في ثمانية أجزاء تحمل العناوين: عبد الفضيل وسنينه.. اسما عين ويومه الأسود .. سيدي المبروك .. مدد ياسيدى أبا العسران .. عركة المسطح .. اختفاء غامض.. عود أحمد.. المقام. وقد ترك نهايتها مفتوحة للدلالة على استمرارية الأحداث ثم أضاف بعد النهاية كلمة، كانت بمثابة عظة أو تنبيه لهذا الجيل جاءت أقرب إلى المباشرة.

في هذه الرواية رسم الكاتب صورة بانورامية حيَّة تعبيرًا وتأريخا للراوى وللصعيد بأسلوبه الذي جاء رشيقاً مشوقاً ساخرًا مثيرًا للدهشة بجمل وألفاظ سهلة ويسيرة وموحية لما يريد البوح به وقد وردت كلمات شائعة الاستخدام في الصعيد كانت حتمية التضمين، ولم يجد الكاتب بدا من تزييل الرواية بهامش لتوضيح معناها ، من هذه المفردات: السهراية، بلاليص، أستك ، مخمرة، البورة، عرقي، أتلحس، النزازة، السبالون، الجلاب، الدمور، مشخلعة،  الغلق، المنضرة، مخاوى، هتاش، لقية.  كما اعتمد الراوي على ذكرياته منذ أن كان طفلاً، وعلى حكايات الأهل والأجداد؛ ليتماس الراوي مع الكاتب الذي أهدى روايته لأرواح الجد والجدة وضيوفهم الذين لم تكن سلواهم غير الحكايات.

بدأت الرواية بعبد الفضيل الذي أعطى له الكاتب حيزا كبيرًا حتى صار أسطورة تضاهى أسطورة أبى زيد الهلالي التي يتناقلها الناس، رغم أن عبدالفضيل لم يكن أكثر من شخص هامشي في الحياة، ليتضح ملمحاً أساسيًا لمضمون روائي ينحاز بداية للمهمشين.. وعبدالفضيل ـ كما قالت جدة الراوي ـ : " فقرى ونقرى ولا تعيش له نسوان .. تزوج خمس حريم وأكلهم كلهم وبقى وحداني" .. بيد أننا نلمح في شخصية عبدالفضيل بعداً رمزياً يشير إلى الصعيد كله، بما يعانيه من تهميش وإهمال ، وعبدالفضيل " ما حلتهوش غيرجزمته السوداء  والكلبة السوداء والحمارة السوداء وسنينه السودا....أعوذ بالله" ومنزله مثل معظم منازل الصعيد الواطئة القديمة الطلاء ، المسقوفة بالبوص والجريد الذي يرتاح على أفلاق النخيل، بوابته مصنوعة من شجر السنط ، يشي بالعوز وشدة الحاجة والفقر المدقع، له فسحة بها شجرة نبق ومكان للحمارة والبلاليص  وثمة قفة بها بتاو وبعض الفراريج.، وغير ذلك ثمة كثير من العناكب والفئران والناموس والسحالي والأبراص والذباب،  وواجهته كالحة مبلطة بالطين المختلط بالتبن، وهو  على النقيض تماماً من "المصلحة" (خرابة الإنجليز) التي بُنيت على تبة عالية بحوائطها الشاهقة و غرفها الكثيرة ، متفاوتة الاتساع والممرات والنوافذ والتي كانت إحدى النقط الإدارية التي في فترة الاحتلال الإنجليزي لمصر ،  وقد سمَّاها الناسُ المصلحة لارتباطها بالمصالح الرسمية للبلد .. يذهب إليها الصبية للحفر والبحث عن الأغطية المعدنية وخرمها ولضمها في أستك ووضعها في بكرة خشبية؛ لتكون عجلا للكاريتات وهى إحدى الألعاب المتاحة للصبية في الصعيد وعبد الفضيل لا مهنة له غير بيع الفجل أو البلح ، يجوب البلدة صائحاً: "حرات يا فجل، أو ورد يا بلح "يبادل أهل القرية بما لديه بالبتاو أوالحبوب (في إشارة على ندرة العملة) ، لا ينظر لواحدة من نساء القرية ، في إشارة إلى العادات والتقاليد الصعيدية، وهى نفس العادات التي تجمع أهل القرية على قلب رجل واحد عند موت أحدهم ، مثلما حدث يوم موت عبد الفضيل الذي لم يكن يرتدى إلا فردة حذاء وحيدة من مخلفات الإنجليز، أمعن الكاتب في وصفها،  صيفا وشتاء يلبسها مرة في قدمه اليمين ومرة في قدمه اليسرى، وقد وجد المغسلان ـ يوم وفاته ـ  في قدميه مسامير منثنية وقطع خشب منغرسة ، وحاولا نزعها بكماشة ، لولا أن الشيخ متولي(السلطة الروحية في البلد) رأى أن يتركوها لتدفن معه مثلما عاشت معه لأنها صارت جزءا من قدميه، في إشارة إلى الألم و المعاناة عندما يستمران ليدفنا مع صاحبهما.

وعند الخروج بالنعش قاوم النعش الحركة حتى أتوا بفرده الحذاء ووضعوها معه ولكنه بقى كما هو حتى أتوا بكلبة عبدالفضيل ومددوها فوق النعش، ورأي الناس أغرب ما رأوا، نعشاَ مسجى عليه جثمان عبدالفضيل تستلقي بجواره كلبته وفردة حذاؤه الوحيدة، وعندما تحركوا به اتجه بهم نحو الخرابة ولم يتجه نحو المقابر وبعدها لم يدخل الجثمان القبر إلا بعد أن اصطحب معه كلبته والحذاء إلى داخل القبر. كل ذلك وما قيل على لسان المغسلين من أنه عند وضع القطنه في شرجه فتح عينيه وكح وقالوا عطس، ثم بصق عليهما واستأنف موته، الأمر الذي جعل الناس يلوكون قصته وأصله وفصله، لينفتح السرد على تفاصيل كثيرة باتساع المخيلة الجمعية لأهل القرية.

وإذا كان عبد الفضيل قد مات مع نهاية الفصل الأول من الرواية ومرت على وفاته أربعون عاما إلا أنه عاد ليستأنف حياته الروائية من جديد مع بداية الفصل الثاني ليذكرنا ذلك بواقعية" ماركيز" السحرية في" مائة عام من العزلة"، ولعل ذاكرة السارد وتداعياتها كتقنية روائية من تقنيات أخرى كثيرة معتمدة أهلته لعجن الأزمنة، واستدعاء الشخوص مرة أخرى بعد موتها..عاد عبدالفضيل مع حمارته وفرده حذائه البشعة ليبحث عن إسماعين الذي غرق في الترعة،  إسماعين الذي كان يلهو مع أقرانه بالقفز في الماء بعد أن يمرغ جسده بالتراب ، كعادة الصغار في القرى، ألقى بنفسه في الماء ولكنه غطس ولم يعد وعندما علم عبدالفضيل بالخبر من صديقيه سبهما وسب أمهاتهم  ثم ألقى بنفسه في الماء في المكان الذي غرق فيه إسماعين، وتبعه أهل القرية ، ليتجلى وقوف أهلها على قلب رجل واحد وتوحدهم عند حدوث كارثة، وبعدما أضناهم التعب وفشلوا في العثور علي إسماعين الغريق عادوا إلى بيوتهم ليتحول الحديث آخر الليل إلى الجِنيَّة التي أغرقت إسماعين ، تلك الجنيَّة التي تسكن تحت الصفصافة والتي أكد عبد الحكم أو "عواجه" رؤيتها، وأعطي أوصافاً لها ، لتستمر الأحاديث حول الجنية حتى يفوق أهل القرية على حادثة جديدة هي هروب أم اسما عين من القرية، وكالعادة رآها "أبوالوفا" الخفير الذي أكد أنها كانت تهيم على وجهها صوب الغيطان.

  بعد اختفاء أم اسما عين ذهب كثيرون إلى أن الجن هو الذي اختطفها لتذهب إلى عالمة مع ابنها، وتستمر تداعيات المخيلة الجمعية لتفسر اختفاء أم إسماعين،  قالت أم الراوي أنها ملبوسه وأكدت جدته أن الجنية تخطف منها الرجال ... فالكل هنا يعرف تاريخ الكل وسيرة جدود الأجداد، فأم اسما عين ـ الذي أصر الراوي على أن يكتب اسمه بالنون كما ينطق في الصعيد وليس باللام ـ كانت متزوجة من مجاهدو الذي اختفى ولا أحد يعرف أين ذهب، وكان ابن ليل كما وصفه الجد و"مشيه بطال" ـ على حد تعبير الجدة ـ والكل متفقون على أنه كان لصاً خرج ذات ليلة مع رجاله قاصدين لقمة عيشهم وبعد أن شرب ثلاث زجاجات عرقى سمعتهم أم اسما عين يقولون في نفس واحد "يارب سهل" ولم يعد لا هو ولا رجاله،  وكالعادة في هذا المجتمع البدائي ـ الذي يعتمد في تفسير الظواهر على المخيلة بكل إرثها الخرافي ـ يلجأون إلى أسهل التفسيرات وأقربها إلى نفوسهم فيربطون بين الجنِّ وما يحدث لهم من اختفاء الأشخاص في ظروف غامضة، وتستدعي ذاكرتهم تفاصيل حياة أم اسماعين التي  لا يدوم لها أزواج ،  فجميعهم طفشوا حتى أن زوجها الثاني "المبروك" ومنذ حادثة سقوط ابنه إسماعين في بئر الجامع وبعد إنقاذه له مع رجال القرية أصابته حمى لا علاج لها عندهم إلا منقوع الأوراق التي يكتبها المشايخ ووصفات العطارين وبعد فترة من الليلة الطين ـ على حد التعبير الساخر للراوي ـ طفش من البلدة يوم عيد الأضحى ، في وقت يستعد فيه الناس لذبح النذور، والرواية لم تخل من السخرية والتشبيهات الصعيدية : " بارك كبعير أجرب على تراب الأرض أمام بيته"  ويقول " ، بَيْدَ أنني كنت مشفقاً على أم إسماعين التي  ولاشك ستعانى الكثير من أجل الحصول على شحم القنفذ".

" ويتدخل الراوي  ساخرا " ، وإن كان بودي أن أسألها عن الإحليل والعصعوص اللذين ستدهنهما "  واستمرارا للخرافة وتأريخا لبعض الموروثات الصعيدية أورد الراوي كيف كان الصبية  يخرجون عند خسوف القمر أو اختناقه حاملين قطع الصفيح وهم ينقرون عليها ويتصايحون " يارب إحنا عبيدك .... يا رب الأمر بأيدك" .. وعن الترامي نحو الغيبي وخضوعاً لفكرة الولاية التي تسيطر على وعيهم ظهر بعد اختفاء" المبروك" من يدعي أنه يختلف على منام أحد الصالحين وأخبره عن جريدة خضراء في أرض الخرابة، وقد بحث أهل القرية  عنها كثيرا حتى وجدها أحدهم، وكالعادة اشترك أهل القرية جميعا في بناء مقام" سيدي المبروك" تماما مثل خضوعهم للغيبي لتفسير ما يجرى في حياتهم ،عندما رددوا ما قاله "عواجه" عن الجنيَّة التي تسكن تحت الصفصافة وتسبب لهم البلاوى، و وتفسيراتهم التي حالت بينهم وبين قطع الصفصافة خوفا من الجنيَّة التي لن تتركهم في حالهم.

 ومثلما اختفت أم إسماعين فجأة ظهرت  فجأة  سيرتها مرة أخرى على السطح بعد أن علم أهلها بوجودها عند مقام" سيدي أبو العسران" لتظهر أيضا موروثات أخرى وعادات يعيشها الصعيد كما في قولهم :" إن من تبيت خارج بيت أهلها أو خارج بيت زوجها ليلة واحدة تذبح أو تدفن حية"  فما بالنا وقد مضى على اختفائها ثلاثة أشهر، ربما لذلك  توقع الجميع إحضارها وذبحها على عتبة طاحونة احد أبناء القرانيب (عائلتها) يوم افتتاحها ، كعادات متعارف عليها عند افتتاح الطواحين.

ومن الطقوس الكثيرة التى ترسَّم ملامح البئية على الصعيد المثيولوجي نرى ما يفعله الناس حول مقام "سيدي أبي العسران " من  طقوس، إذ يبدأون بالصعود إلى تل ضخم يقع في  أعلاه ضريح بجواره بئر ماء يشرب القاصدون من مائه قبل أن يستحمون به، ثم يتدحرجون بأجسادهم من أعلى التل إلى أسفله، كي يخرج الجن الذي يتلبس أجسادهم، وهناك وجدوا أم اسما عين عند الضريح تناجى أبا العسران أن يحضر لها ابنها - الذي غرق- من عند الجن .. وهى نفس الطقوس التي مارسها عم الراوي معه عندما كان صبيا واصابتة الحمى، وكيف أنهم فوق ذلك  سقوه من منقوع الأعشاب وأوراق المشايخ  ووصفاتهم مثل التهام كبد أبى فصادة و طحال تيس أسود و قلب غراب يتيم ..  كل هذا لم يفلح مع الصبي و لم يخرج من  حالته إلا عندما ذهبوا به لأحد بيوت القرانيب ليجد هناك أم اسما عين بابتسامتها المعهودة.

الفراغ والبطالة والقمع وضحالة الثقافة ومحدودية التفكير يعطى الفرصة للغمز واللمز ويفسح المجال لسيرة الآخرين لذا كان من الطبيعي أن يرفض الناس ما ردده أهل أم إسماعين من أن نفرا منهم رأوا في المنام أبا العسران الذي أوصاهم بها خيرا وبان احد الطيبين سوف يتزوجها وعليهم إلا يرفضوا ولذلك قامت عركة المسطح- الذي هو حيز من الفراغ غير مزروع يفرش فيه المزارعون نتاج أرضهم وتعريضه للشمس- بسبب معايرة "الضوى" وهو من عائلة" السعادوة "لأبي دراع" وهو من عائلة "القرانيب" بأم إسماعين قائلا له: "روح اغسل عارك من أم إسماعين ال..." وقد راح ضحيتها خمسة من القتلى غير المصابين وكان لعبدالفضيل دور أساسي في حسمها، وصار بعدها مثله مثل أبى زيد الهلالي في معاركه الأسطورية يقول الراوي :" وشاهدته وهو يتصرف كبغل..  يركس على الأرض، معطياً مؤخرته للعدُو، مشرِّعاً إياها إلى أعلى، حتى إذا ما أقدموا عليه بفؤوسهم ونبابيتهم رفسهم رفسات متتالية؛ فتتطاير فؤوسهم ونبابيتهم ويقعون على الأرض.." و "لم يكن يعبأ بالفؤوس أو المطارق التي  تنهال عليه، ولم يكن يمسك بمطرق أو نبوت أو فأس.. رأيته يمسك بأجساد البشر.. يرفع الرَّجل من "السعادوه" يطوِّحه في الهواء ويلقيه على الآخرين، فينزل عليهم كجبل؛ فيقعون على أعقابهم"  وفي موضع آخر يقول " والرصاص يدوى حوله، بدا كما لو كان محصناً ضد الرصاص والفؤوس والمطارق، يقال إن الرصاصة ترتد عن جسده .... ما أن تصطدم الرصاصة بجسده حتى ترتد وتنحرف إلى الأرض، كما لو كانت نواة بلح قذف بها صبي"

بعد عركة المسطح استعرت الأحاديث من جديد حول سيرة أم إسماعين وأخلاقها وعن اختلاف الدراويش عليها عند ضريح أبي عسران في الظلام وهى نائمة كالقتيل، بل وصل الأمر إلى أنهم قالوا أنها"حضرت شايله وحريم إخوتها نزلوه" فلم يجد أهلها بدا من وضعها في زكيبة لقتلها في أرض الخرابة"هكذا رددوا وهكذا قرروا، ليأتي دور عبدالفضيل مرة أخرى كمنقذ لأم إسماعين ، مجهزاً على إخوتها في أرض الخرابة وحملها على كتفيه ، ليبدأ السارد في نقل حوار مثير للسخرية بين عبدالفضيل والشيخ متولى حول رغبات عبدالفضيل في الزواج من أم إسماعين :

"- كل الرجال يركبوا حميرهم في النهار ونسوانهم في الليل إلا أنا ما باركب غير حمارتى وبس

- اتق الله يجعل لك مخرجا

- المخرج موجود وعندي في البيت

- ايوه .....أم اسما عين"

وكان رد الفعل لزواجه بها انطلاق الألسنة:"تاريخ زواجه هو تاريخ بيع الحمارة لقرني اليابس - أتلم المتعوس على خايب الرجا – باع الحمارة واشترى حرمة – عبد الفضيل بيقرض الحريم وأم إسماعين بتقرض الرجال...بكره نشوف مين فيهم يقرض التانى ".

حتى علاقته الجنسية كانت مثارًا للجدل والتأويل فقد كانوا يسمعون صراخاً مدويًا لأم إسماعين ونارًا تخرج من البيت وعندما نزلوا ذات ليلة للبيت ليروا ما الذى يحدث لم يجدوا عبد الفضيل ولا زوجته وعندما سألوها قالت:"عبد الفضيل زى الجحش ...لامؤاخذه حا يجيب أجلى .... أنا بأنام زى القتيل بعد عبد الفضيل ما يفضها سيرة" أما عن النار فانتهى الرأي لما ذهب إلية الشيخ متولي "بأنهم نفر من الجن المؤمنين بالله....والله اعلم".

ذات الفتاوى ونفس الأقاويل أثيرت صباح أحد الأيام عندما اختفى عبد الفضيل وزوجته والباب مغلق والكل يؤوِّل ويفسر حسب مزاجه .. إنه الواقع الخرافي الذي يعيشونه يتقولون ويصدقون ما يخترعونه، منهم من قال إنه قتل أم إسماعين وهرب ومنهم من ذهب إلى أنهما من الجن وذهبا إلى العالم السفلى، حتى الحمارة دخلت حيزهم الخرافي بعد اختفائها وهى مربوطة أمام الطاحونة،  ورأينا "قرني اليابس" الذي اشتراها من عبالفضيل يقول إنها عفريته وأكد أنها كانت تطول وتقصر به، وإنها من حمير الجن رغم علم الجميع أن عبد الفضيل اشتراها ذات ثلاثاء قبل عشرين عاما، وثمة إشكالية أخرى وهى الزمر والطبل الذي يدوى في الهزيع الأخير من الليل في بيت عبدالفضيل ويقلق منام الجيران، ولكنها إشكالية لها حل لديهم وهى أن عبد الفضيل وزوجه وحمارته من الجن، ويضيف الشيخ متولي بصفته المرجع الديني والفكرى ليعلق بالقول: الله اعلم.

ولأن شخوص عبد الجواد خفاجي الخرافية- في هذه الرواية-  تختفي فجأة وتظهر فجأة فقد عاد عبد الفضيل- فجأة – للمرة الثانية،  ولم يكن عند البدو كما زعم البعض بل كان في الحج وأم إسماعين ماتت ودفنت هناك، وكعادة أهل القرية كتب على باب بيته"زار وحج" ثم أقيم العزاء ثلاثة أيام في أم إسماعين زوجته، ولم تزل الألسنة تتساءل هل سافر على قدميه أم على جمل؟ أما "قرني اليابس" الذي أقسم أنه سوف يقتل عبد الفضيل لأنه باع له جنية وليست حماره فلم ينقذه قسمه، وقد شاهد الجميع عبدالفضيل باركاً فوق صدره ، يوشك أن يفصل رقبته عن جسده لولا حضور الشيخ متولي، وبعد أن ردد قرني اليابس وراء عبدالفضيل: "آخر مرة أجيب سيرة الحمارة".

مات عبد الفضيل... وجدوه ملقى على عتبة داره ، وهم ذاهبون إلى عملهم، تشاءموا قليلاً وهم يردون: يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم وأعوذ بالله .. بعد دفنه حضر الدراويش وأقاموا في بيته حضرة ، أحياها" التكروني" الذي كان يطير في الهواء ويأكل الجمر، ولأن الأسطورة لا تموت قالوا إن عبد الفضيل منهم وهو أخ لهم، وفوق ذلك قالوا: عبدالفضيل ولي من أولياء الله، واستمرارًا لما يغرقون فيه من خرافة قال كبيرهم أن عبد الفضيل أخبره ـ في المنام ـ  عن جريدة خضراء سوف يجدونها مغروسة في مكان ما، وهناك سوف يبنون مقامًا لعبدالفضيل الولي، بحثوا عنها حتى وجدوها مغروسة في الخرابة، وهناك شرعوا في بناء المقام بجوار مقام سيدي المبروك، بيد أنهم سمعوا صوتاً قوياً هز أطراف القرية ، قالوا أن الملائكة فرحت معهم ببناء المقام وهي الآن تضرب ناراً في السماء، غير أنهم أثناء الحفر لبناء المقام، وجد أحدهم فردة الحذاء الأخرى التي تشبه تلك التي كان يرتديها عبدالفضيل طوال حياته، وهنالك لبسها كبير الدراويش وظل يحجل في الخرابة،  استمرارا لما تغرق فيه القرية والصعيد من خرافة وليطلب الناس المدد من الله ومن سيدي المبروك وسيدي عبد الفضيل رغم أنهم علموا بعد ذلك أن الصوت الذي هز القرية ما هو إلا صوت القنابل التي ألقتها إسرائيل على قناطر نجع حمادي التي تبعد عن القرية سبعة أميال... إنه تاريخ الراوي وتاريخ القرية وتاريخ الصعيد ومثلما أرخ" ماركيز" لتاريخ قارته في" مائة عام من العزلة "أرخ عبد الجواد خفاجي للصعيد بكل ما يحمل من أسطورة وخرافة هي حقيقة يعيشون فيها بل غارقين فيها رغم أنها تشدهم للأسفل /الجهل /الفقر /المرض/ ورغم التطور والتغيير الذي طرأ على القرية/الصعيد/ حيث أصبحت ارض الخرابة سوقا تجاريا أسمته الحكومة"حي البساتين" إلا أنهم يصرون على انه" أرض الخرابة"  ورغم مرور السنوات إلا أن الدولة البوليسية مازالت هي المسيطرة على قلوب وجيوب ورقاب وحياة العباد مستمرة في بطشها وظلمها وعسفها في البحث عن عبد الفضيل أحمد القرنيب، في ذات الوقت يظل الصعيد مستمرا في دجله واستنساخ أساطيره منحدراً إلى أسفل في ظل عدم أي تواجد رسمي إلا من رجال البوليس في إشارة واضحة للطابع البوليسى لدولة تستمرئ تخلف الصعيد وجهلة وتغيُّبه في عصر متخم بالمتغيرات .

                                                                          نبيل بقطر

khfajy

سترون أبيضي عندما يلوح بياض الآزمنة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 192 مشاهدة
نشرت فى 7 يناير 2014 بواسطة khfajy

ساحة النقاش

عبدالجواد خفاجى

khfajy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

18,542