هدير الصمت

هذا الموقع معني بـ: قصص ، رواية، نقد ، مقال سياسي ، مقال فلسفي ، شعر

<!--

<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman";} </style> <![endif]-->

درامية الواقع / درامية التجربة

(سياحة جمالية في ميدان المرايا للشاعر جمال الجزيري)

نشرت في مجلة الشعر العدد 2012 ـ العدد 146

بقلم : عبدالجواد خفاجى

نحن مع نصوص / مرايا الذات المؤهِّلة لاكتشاف الحياة في اللحظة التي يكتشف الشاعر ذاته فيها، هي نصوص كاشفة إذن، وقد آثر الأديب أن يجعل منها ـ حال تجمعها ـ ميدانا  يحرر فيه الأديب ذاته من عقال الصمت إلى حالة من البوح والإفضاء، لتجمع النصوص بين المنحى الذاتي الذي يشف عن عاطفة مفعمة بالرغبة في الحياة الشعرية على نحو جمالي يؤكد كل المعاني الإنسانية وأولها الحرية في خلق هذا العالم على نحو يتسم بالشاعرية، والمنحى الدرامي الذي يكشف عن طبيعة الحياة والواقع ، حيث المتناقضات والمفارقات المثيرة للتساؤل والدهشة والاستغراب.

 نحن أمام نصوص قصيرة موجزة، تعتمد على آلية السرد والمفارقة المولدة للدهشة، وقد اعتاد النقاد إطلاق تسميات مختلفة على هذا الشكل الفني، فبينما يسميه أحدهم النصوص الصاروخية نظرًا لما تنطوى عليه من طاقة تفجيرية ضخمة تصل إلى هدفها بسرعة، يسميه آخر النص الومضة ؛ نظرًا لأثره الخاطف السريع .. وإن كنا لسنا بصدد النقاش حول تسمية ما عُرِف فى أصله الغربى بـ " الإبيجراما ".

فالمعلوم  أن الإبيجراما فن أدبي  موجز يعتمد المقطوعة الشعرية، أو النثرية القصيرة المكثفة والمركزة، التي تحمل معني دلاليا حاداً ومفارقًا  في الوقت نفسه، مقترنة بالهجاء، أو السخرية ، أو النقد اللاذع، ويشير  بعض النقاد الإنجليز إلى أهمية هذا الفن وبزوغة  في الشعر الإنجليزي  إذ يمثل ظاهرة واسعة  احتفى بها الشعراء  الإنجليز و على رأسهم  جون دن ، وجورج  برنا رد شو ، وأوسكار وايلد وغيرهم،  وإن كان قد سبقهم  شعراء اليونان من أمثال فليتاس، ملياجروس السوري ، وأسكليباديس فى العصر السكندري .

ويعد  طه حسين أول من أدخل  هذا الفن في اللغة العربية، وعده فنا  قوليـــا، لم يلتفت إليه أحدٌ من الأدباء المعاصرين في وقته، حيث يقول في مقدمة كتابه "جنة الشوك" : "هذا لون من ألوان القول لم يطرقه أدباؤنا المعاصرون، لأنهم لم يلتفتوا إليه ولم يحفلوا به  مع أنه من أشد فنون القول ملاءمة لهذا العصر الذي نعيش فيه" ويضيف "لا يعرفُ لهذا الفن من الشعر في لغُتنِا العربية اسما واضحا متفقا عليه،  وإنما يعرف له اسمه الأوربي، فقد سماه اليونانيون واللاتينيون " ابيجراما " أي نقشا، واشتقوا هذا الاسم اشتقاقا يسير قريبا من أن هذا الفن قد نشأ منقوشا علي الأحجار، فقد كان القدماء ينقشونه علي  قبور الموتى وفي معابد الآلهة وعلي  التماثيل والآنية والأداة  البيت أو الأبيات من الشعر ....  وقد أطلق اليونانيون  واللاتينيون  كلمة " ابيجراما " أول الأمر على هذا الشعر القصير الذي  كان يُنقََشُ على الأحجار،  ثم  على كل شعر قصير، ثم علي  الشعر القصير الذي كانت تصور فيه عاطفة من عواطف الحب  أو نزعة  من نزعات المدح أو نزعة من نزعات الهجاء".

وقد أشار الدكتور عز الدين إسماعيل إلى أن " هذا النوع ينتسب إلى ماهو معروفٌ في اللغات الأوربية باسم ( الإبيجراما ) وحين تذكر الإبيجراما في النقد الأدبي  يكون المقصود بها بصفة عامة القصيدة القصيرة  التي تتميز علي وجه  الخصوص  بتركيز  العبارة و إيجازها وكثافة  المعني فيها ، فضلا عن اشتمالها على مفارقة وتكون مدحا أو هجاء أو حكمة. 

 ومن شعراء العرب في العصر الحديث كان عبد الوهاب البياتى  هو أول من الشعراء الذين اتجهوا إلى ككتابة  "الإبيجراما"، إلا أن الإبيجراما قد راج فى حقبتى السبعينيات والثمانينيات في الأدب العربي كثيرا بين الشعراء العرب، وقد شهدت الحقبة الأخيرة من الألفية المنصرمة رسوخ هذا اللون من القصائد ونضجها .

فى كتابه " الشعر العربى المعاصر " يذهب الدكتور عـزالدين إسماعيل إلى أن الإبيجراما " تقوم على أساس اتخاذ بؤرة واحدة للنظر فى واقع الحياة ومظاهر الوجود ، والتركيز عليها، وغالبًا ما تقع العين عندئذٍ على المفارقة التى يقوم عليها هذا الواقع، أو يتأسس عليها هذا الوجود، وعلى هذا فإنه فى أقل قدر من الكلمات يصل الشاعر إلى هدفه، لكنه يفجر فى نفس المتلقى أكبر طاقة تعبيرية ممكنة " وكلام الدكتور عـزالدين إسماعيل يُفهم منه محددات ثلاثة للإبجراما :

أولها : أنها نص درامي في الأساس؛ لأنه معني بالنظر في واقع الحياة ومفارقاتها، ويتمحور حول بؤرة ما تجسد حدثٍ ما ينمو لحظيًّا نحو صنع مفارقة النهاية، والمفارقة تتولَّد أساسًا من الصراع والحركة بين قطبين ، ومن عناصر التناقض التى تشتمل عليها الحياة التى يستكشفها الشاعر أو الأديب، وبخفوت عناصر الدراما الثلاثة هذه لن نصل إلى مفارقة النهاية النصِّيّة التى تعكس نهاية الحدث أو الموقف.

ثانيها :أنها مكثفة مكتنزة بالطاقة الشعرية والرؤيوية فى عبارات موجزة .

ثالثها : مستنتج من الأول والثاتى أنها تعتمد على عنصر السرد كآلية تعبيرية ، إذ لتوفر الشرط الأول والثانى لابد أن تكون الوسائل التعبيرية درامية ، أو بالمعني: أنها تعتمد على عنصرى السرد والمفارقة التى تلعب دور التنوير كما  في القصة القصيرة .

والحقيقة أن المكونات الشكلية الثلاثة السابقة متوفرة فى نصوص الأديب جمال الجزيري، بما يتأكد معه الأمر أننا أمام نصوص تحقق شرطها النوعي الأدبي ـ من جهة أخرىـ  كنصوص ذات فضاء متسع ولغة محملة بأكبر قدر من الإغراب وأقصى قدرة من التخييل وصولاً إلى طقس رؤيوى حدسى شفيف يمتزج فيه الفكر بالوجدان .

يجدر بنا إذن ونحن نعاين الطبيعة الدرامية للتجربة أن نرصد في تجارب النصوصية التي أمامنا الملامح الدرامية للحياة والواقع المعاصر والتي تتركز أساسا في عناصرها الأساسية : الإنسان والصراع وتناقضات الحياة .

إننا عندما نقرأ نص "انهزام مزمن" تتجسد أمامنا صورة الإنسان كطرف في صراع لا يريم حتى لو خلا مشهد الحياة من الآخر المفترض لتأجيج الصراع، عندها  يشتق الإنسان من ذاته نقيضاً يفرض الصراع ويعكس طبيعة الحياة المتناقضة التي لا تستمر بغير الصراع.

فِي زَاوِيَةِ التَّذَكُّرِ لَكَ مَجْلِسٌ، / تَلْتَقِي كُلَّ حِينٍ وَحِيدًا بِكَ، / تَخُوضُ الْمَعَارِكَ الْقَدِيمَةَ نَفْسَهَا، / وَبِرَغْمِ تَبَدُّلِ أَسْلِحَتِكَ / تَخْرُجُ مِنْ كُلِّ مَعْرَكَةٍ مُنْهَزِمًا."

الذات هنا التى تشتق من نفسها أنيساً يشكل آخر مهماً في إقامة الحوار بين إلفين وإن بدا نقيضين إذ تتجدد في لحظة اللقاء معارك قديمة، وكان اللقاء إلى حد ما كافٍ لتأجيج صراع بين نقيضين ينهزم أحدهما كالعادة، ورغم هزيمته هو يعاود اللقاء عله يكون منتصرا هذه المرة.. نعم إنها الذاكرة كفيلة بإعادتنا إلى ذواتنا في لحظات ماضية خضنا فيها صراعاً جوهريا في هذه الحياة، كنا نظن أننا فيه سننتصر، وفيما تبدو الذاكرة هي وسيلتنا لإستعادة هزائمنا الماضية، ولأننا لن نتخلى عن ذاكرتنا، كما أننا لن نتخلى عن رغبتنا في الظفر من الحياة بما نأمل يستمر الصراع بين شعورين نقيضين أحدهما يشدنا نحو معاودة خوض الصراع على أمل الظفر، وآخر محبط يعيدنا إلى الهزائم المتكررة في الماضي. وما بين اليأس والرجاء يستمر الصراع وتلك طبيعة الإنسان في هذه الحياة، بل إنها طبيعة الحياة التي لا تخلوا من النقيضين، والتي لن تتحول إلى جنة  تخلو من النغصات ومن تبدد الأحلام  التي هي بالنسبة لنا كطيف نستشعره فينا ولا نراه، ومهما بدت الطيوف بعيدة ومهما كان البادي من هذه الحياة مجسدا كنقاطا سوداء على الجبين متمثلة في فشل أم هزائم أو احباطات أو غير ذلك، فإن ذلك لن يمنعنا عن مواصلة مشوار الحياة مع الصراع ومع متناقضات الحياة ومفارقاتها .

وإلى ذلك تتجه الرؤية أيضاً في نص "بدت لي سوءة" إذ يجد الإنسان نفسه طرفا في صراع مفروض عليه هاربا إلى الحلم بالجنة فاراً من إحباطات الواقع التى تبدو كنقاط سوداء فوق جبين الحياة نفسها قبل أن تكون فوق جبين الإنسان الذي يخوض تجربة الحياة:

"بُقْعَةٌ تَتَشَكَّلُ بِأَلْوَانٍ خَارِجَ حُدُودِ الطَّيْفِ  / تَرْسِمُ نُقْطَةً سَوْدَاءَ عَلَى جَبْهَتِي، / وَمْنْ أَيْنَ لِي بِجَنَّةٍ / أَخْصِفُ مِنْ أَشْجَارِهَا وَرَقًا  / أُدَارِي بِهِ سَوْءَةً بَدَتْ عَلَى جَبِينِي؟"

والذي يطالع نص" لِسَانُ السُّفَرَاءِ" تصدمه تناقضات الواقع، ومفارقاته :

" بَارِدٌ مَاءُ وَجْهِهِ / وَحَارَّةٌ لَسَعَاتُ الْلِسَانِ، / وَعِنْدَمَا تَنْظُرُ إِلَيْهِ أَوْ تُحَاوِرُهُ،/ يَرْتَدِي لِسَانَ السُّفَرَاءِ / وَيَجْلِسُ لِيَتَحَدَّثَ عَنْ الْمَحَبَّةِ وَالإِخْوَةِ

وَأُمَّةٍ فَضَّلَهَا الله عَلَى الأُمَمِ."

 فما بين برودة الوجه وحرارة اللسان يكمن تناقض الشخصية على المستوى الظاهري، إلا أن زيفها يتجلى عندما تتحاور، وحوارها يشف عن تناقضها الداخلي، عندما تحاول الخداع وهي ترتدي مسوح السفراء وهي تسلك سلوكاً مزيَّفا تتوارى خلفه الحقائق، الإشكالية ليست في هذا، فمثل هذا النمط من البشر تحفل به الحياة وهو موجود في كل المجتمعات، لعل الإشكالية في المفارقة الأخيرة أكثر من كونها في وجود مثل هذا النمط من الأشخاص.. والمفارقة الأخيرة تضع المزيفين موضع السفراء، وتلك إشكالية تخص الحياة نفسها وتعكس صورة الواقع المتناقض والمفارق.

على أية حالة نحن أمام العناصر الموضوعية للدراما، تلك التي لا يمكن أن تبرز إلا من خلال التركيز على إلتقاط صورة الواقع في اتصال الذات المباشر به أو في المسافة التى تفصل بين الذات والواقع، وفي الحالتين لا تبدو الذات منفصلة عن واقعها، وهي تمارس تأملاتها والتقاط صور الواقع والتعليق على ما تراه، أو السخرية منه، أو تفنيد علاته، أو إثارة التساؤلات حوله، لتشف النصوص عن رؤية درامية للواقع وهي تشف في الوقت ذاته عن موقف الذات  الفكرى والشعوري.

فمن حيث الرؤية فإن الفنان ـ عموما ـ  في إطار التفكير الدرامي يدرك أن ذاته ليست معزولة عن بقية الذوات الأخرى في العالم الموضوعي بعامة، وإنما هي ـ ومهما كان استقلالها ـ ليست إلا ذاتاً مستمدة من ذوات تعيش معها في عالم موضوعي تتفاعل معه ، وهو ينفتح ببصيرته على دراما الحياة في مسيرة سعيه الدؤوب لرصد الأشياء وفهم الحياة، وكأنه ينفتح ببصيرته على التناقض الذي يتمثل في أبسط جوانب الحياة قبل أن يكون في أكثر الجوانب تعقيداً. وهو ـ أي الفنان ـ في حالتي الصراع ورصد المتناقضات، و المفارقات قادر على أن يقدم إلينا نتاجاً درامياً من الطراز الأول، إذ يستطيع أن يقيم بناء فلسفياً يفسر لنا الحياة والأشياء تفسيراً خاصاً، ومن ثم ـ وفي إطار التفكير الموضوعي ـ لا يمكن للفنان أن يصب شعوره  أو فكره إلا في إطار البنية الدرامية العامة للحياة.

وهكذا ترى الذات نفسها في خضم الواقع .. في اتصالها لا انفصالها عن بقية الذاوات، ولعل هذا مدخلاً مناسباً لنقل رؤية درامية ذات تفاعلات حيَّة مجسدة ، إذ الدراما لا تتجسد في المجردات.

بيد أنه ليس المهم أن تشفَّ النصوص عن الموقف الفكري والشعوري الذي يعبر من خلاله الشاعر عن درامية الواقع ومآسيه، تلك التي تقف كمحرك أول لمآسي الذات الشاعرة، وتعمل على تفاقمها، إذ الأهم والأولى نصوصياً أن تتنحى الذات الفنان أو الأديب عن عرض الدراما أو التعبير عنها بوسائل مباشرة، أو حتى التدخل كعنصر من عناصر الدراما .. تتنحى عن ذلك لتتجه وجهة أخرى تسمح لها باكتشاف الدراما لا التعبير عنها، ذلك لأن الدراما تقع حقيقة في المسافة الفاصلة بين الذات والموضوع، ومهمة اكتشافها يقع على عاتق الفنان وحده .

ولعلنا قد لاحظنا في نص "لسان السفراء " تلك االمسافة الفاصلة بين الذات والواقع، إذ تقف الذات متأملة وراصدة لتناقضات الواقع ممثلا في تناقض ذوات مائعة مقنَّعة، لا تقدم حلولا حقيقة بقدر ما أنها تقدم الكلام المعسول، والمسكنات الوهمية وكل رأسمالها كلام في كلام لتستمر الحياة بغير معناها، وليستمر الواقع أسير شخصيات مزيفة.  

غير أننا نلحظ في النص توظيف الأسلوب القصصي كأحد العناصر التعبيرية للدراما، ولقد استخدم الجزيري هذا الأسلوب لالتقاط الدراما في الواقع، وتسجيل بعض التفاصيل القصصية الدقيقة للعناصر الدرامية الموضوعية ، من خلال التركيز على أوصاف الشخصية من الخارج وما يمكن أن تدركه حواسنا بشكل مباشر منها، ثم التركيز على أفعالها؛ ليتضح التناقض بين الشكل والمضمون، أو بين مظهر الشخصية ودورها وسلوكها، ثم لنفاجأ بأنها شخصية مسئولة إذ تقوم بمهمة تبصيرية عندما تتحدث علناً عن الأمة التى فضلها الله عن العالمين ، وتلك هي المفارقة عندما تأتي النتائج عكس المقدمات، و عندما ينضح الوعاء بغير ما فيه، وبغير ما نتوقع.

في نص " صمت مقيم " تستمر المسافة الفاصلة بين الذات والموضوع إذ لم تتدخل الذات بفرض شعورها الخاص على ما ترصده.

"ِقطَارَاتُ النَّهَارِ الْبَعِيدِ قَارَبَتْ مَحَطَّاتِ الْمَغِيبِ / وَالصَّمْتُ مِنْ حَوْلِهَا يَعْوِي كَخَيَالٍ مُقِيمٍ، / لا الْقِطَارَاتُ أَحَسَّتْ بِالجَّبَرُوتِ / وَلا الصَّمْتُ أَحَسَّ بِالْمَلَلِ ".

في هذا النص كانت الذات محايدة تماماً وهي تعرض تفاصيل الحدث، ، ولم تتدخل بفرض شعورها الخاص، ولا بفرض موقفها الفكري الذي قد يلون الأحداث، لكنما قد يبدو ذلك مخالفاً لمقولة: " لا حيادية في الأدب".. والحقيقة ـ ومهما بدت أدوات الفنان محايدة ـ  فإن عدم الحيادية موجود في التجربة التي نحن بصددها، وفي غيرها؛  إذ الذات الشاعرة ـ أولاً وآخراً ـ هي التي تفرض زاوية الرصد وتمتلكها وحدها، وهي وحدها التي اختارت أن تقف لتتأمل جبروت قطارت النهار البعيد في محطة للمغيب، لا لشيء إلا لتثير تساؤلاتنا عن محطات الشروق الغائب من منظومة الزمن، ولتلفت إلى هذا الصمت المطبق على الوجود رغم ذلك، لنتساءل عن الكلام الذي من المفترض أن يكون بديلا للصمت، الكلام الذي من المفترض أن ننشغل به لفضح صورة الواقع الهارب بآمالنا نحو محطات بعيدة.. هكذا يبدو النص مثيرا للتساؤلات، وربما أن قيمته الرؤيوية تكمن في هذا، غير أن براعة الرصد تجسدت بشكل فني في حيادية الذات التى لم تتدخل بفرض تساؤلاتها.

إذن عدم الحيادية موجود خلف النص لا أمامه، عدم الحيادية موجود إذ توجد الذات التي ترى، والتي اتخذت موقفها من الحياة والكون، ولكن عليها أن تنقل لنا مكتشفاتها بأدوات محايدة تماماً، ومن دون أن تتحول هي إلى أداة .

في نص "اختلاس" استمرار لنفس المسافة الفاصلة بين الذات والموضوع من خلال استخدام ضمير المخاطب، وكأن الموضوع يعني ـ بشكل ضمني ـ آخر:

"عِنْدَمَا تَنْظُرُ عَيْنَاكَ / فِي عَيْنَيِّ الْقَمَرِ، / عَيْنٌ تَنْهَلُ مِنْ بَهَائِهِ، / وَعَيْنٌ تَقَفُ عَلَى الْبُعْدِ تُرَاقِبُ الطَّرِيقْ!"

ورغم أن المشهد محفوف بمحاولة التواصل الجمالي مع الوجود الفطرى ومع الطبيعة، إلا أن هذه المحاولة محفوفة بالاختلاس والتوجس. وما بين الاختلاس والتوجس تنطرح بعض الأسئلة : كيف يختلس الإنسان لحظة للتواصل الجمالى مع الحياة الفطرية / الطبيعة التي هو جزء منها ، وكيف يبدو ذلك الفعل محفوفا بالتوجس رغم براءته؟ ولماذا يفرض الواقع حصاره شبه البوليسي على مثل هذا التواصل، وكيف أن العين الأخرى للناظر مشغولة بمراقبة الطريق الذي تسكنه رغبات أخرى مغايرة؟؟ .. هكذا يبدو الطريق / الواقع مدانا إذ يفرض حصاره ومراقبته على التواصل الجمالي الفطري بما يعكس الطابع المجافي المغاير للواقع.

لعل النص نقل لنا رؤية إلى حد ما تشف عن موقف الأديب من واقعه دون أن يكون مصرحا بذلك، ولعله أيضاً كان مثيراً للتساؤلات أكثر من كونه مقرراُ لرؤيته بشكل مباشر، وهكذا بدا الأيب معنيا باستكشاف الطابع الدرامي المفارق للواقع دون أن يفرض شعوره الخاص.

في نفس المسار يأتي نص "خَدْشُ الصَّحْرَاءِ" ليعبر عن توجس الطبيعة من الإنسان الذي أضحى موحشاً أكثر من وحش الصحراء التى بدت أكثر براءة وحياء منه، ومهما كان التوجس قائما إلا أننا نتساءل عن أسبابه لنتجه بالإدانة إلى صورة الواقع الذي مسخ إنسانه بما يؤكد غربته عن الطبيعة، وبما يؤكد التوجس عندما ينظر إليها مختلسا النظر من وراء حجاب! :

"مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ / تَطُلُّ عَلَيَّ خَرْبَشَةُ الصَّحْرَاءِ / وَكَأَنَّنِي غَرِيبٌ يَخْدِشُ حَيَاءَهَا الْمُسْتَعَارَ!"

في مثل هذا الواقع المجسَّد نصوصياً من خلال مشاهد مفعمة بالتناقض والمفارقة ، نتلمس موقف الذات المنحازة لقيم الإنسان الفطرية ولرغبة التواصل الجمالى مع الحياة واستسلام الإنسان ليقين المشاعر الإنسانية عندما تندغم مع الحياة؛ لتتلمس يقينها وفق نوازعها الفطرية النقية .. لكأن ما تراه الذات وترصده هو مجرد مشاهد تؤكد غربتها عن / في واقعها، أو ربما تؤكد غرابتها عن الآخرين بما يغزز غربتها أيضأ.

في نص "يقين الرمال":

"تَفِيضُ أَحَاسِيسِي / وَتَنْهَمِرُ عَلَى رِمَالٍ لا تَصُونُ شَيْئًا / فَأَجِدُنِي كَالأَهْبَلِ

وَسَطَ أُنَاسٍ لا يَفْقَهُونَ سِوَى الْيَقِينِ!"

 يبرز ضمير الأنا، إذ تبدو الذات ملتحمة بواقعها كطرف نقيض، ولتتعزز الرؤية على النحو الذي سلف من خلال التناقض بين يقينين، أحدهما يقين الأهبل، حسب رؤية الآخرين (العقلاء) .. الأهبل الذي يتجه نحو الطبيعة والداخل الإنساني ، بينما الأخرون الذين يزعمون امتلاك الحقيقة بالعقل وحده، هؤلاء ـ فيما بدا ـ يسيطرون على الواقع بيقينهم المغاير،  ويزعمون ألا يقين غير ما يملكون في هذه الحياة، إذ يهملون يقيناً آخر يفيض إحساساً على رمال الحياة التي لم تعد غير مضيِّعة لهذه الأحاسيس. ومهما بدت لنا مفردة "الأحاسيس" هنا مجافية للمضمون الرؤيوي للتجربة ، إلا أننا لن نجادل كثيرا في الاستخدامات الشائعة لمثل هذه المفردة حين تضع الأحاسيس موضع المشاعر.

**********

كيف استطاعت التجارب أن تخرج من ذاتية صرف إلي واقع موضوعي ، وكيف حدث العكس؟.. إنها جدلية العلاقة بين الذات والموضوع تجسدها نصوص توظف العناصر التعبيرية الدرامية مثل السرد المشبع بالدلالات، والحوار والمنولوج المجسدين للمشاعره والأفكاره .. نصوص تمور بالحركة والحركة المقابلة وهي تضع المقابلات تجاه بعضها لتتجسد في النهاية مفارقات الحياة والواقع، وليتجسد موقف الأديب من الواقع سواء كان موقفاً ناقداً أو ساخراً أو مفنداً لعلاته، ولتتجسد رؤيته للحياة من خلال عملية استكشاف للطابع الدرامي للحياة التى تجمع الأضاد والمفارقات المثيرة للدهشة والغرابة والأسئلة.

يمكننا أن نرصد كثير من عناصر التعبيرالدرامية في النصوص ، كما في نص "صَمْتٌ مُقِيمٌ":

قِطَارَاتُ النَّهَارِ الْبَعِيدِ قَارَبَتْ مَحَطَّاتِ الْمَغِيبِ / وَالصَّمْتُ مِنْ حَوْلِهَا يَعْوِي كَخَيَالٍ مُقِيمٍ، / لا الْقِطَارَاتُ أَحَسَّتْ بِالجَّبَرُوتِ / وَلا الصَّمْتُ أَحَسَّ بِالْمَلَلِ."

نلاحظ الجمع بين الأضداد " النهار ، المغيب " ، " البعيد ـ قاربت" " الصمت ـ يعوى " وثمة تقابل بين حركة النهارات التى لا تريم وهي تتقاطر نحو المغيب وبين ديمومة الصمت وثباته، وإن كان الذي يجمع النقيضين هو فقد الإحساس، وتلك هي المفارقة أن يكون بين النقيضين شيء مشترك يؤكد البلادة التي أضحت بدورها المسيطرة على المشهد الموزع بين الجبروت الذي يشف عن القدرة على الفعل وبين الملل الذي يشف عن اللافعل واللاجديد،  كما أنه موزع بين الحركة والثبات، والنهار والمغيب / الحدثين اللذين يرسمان بتواليهما حركة الزمن/ وعاء الحياة التى أتت محصورة بين نقيضين.

مثلما نلاحظ في نص "أَنْفَاسٌ" :

"لِمَ لا تُحِسُّ بِشَيْءٍ الآنَ / وَأَنْتَ فِي هَذَا الصَّقِيعِ / بِإِمْكَانِكَ أَنْ تُدْفِئَ كُلَّ هَذَا الْعَالَمِ / بِقَطْرَةٍ مِنْ دَمِكَ؟ / لِمَ لا تُحِسُّ بِشَيْءٍ / رَغْمَ أَنَّ أَنْفَاسَكَ تُذِيبُ ثَلْجَ ذَلِكَ الْقَلْبِ / وَبِإِمْكَانِهَا أَنْ تَتَوَغَّلَ فِي آذَانٍ حَدِيدِيَّةٍ؟ / أَهُوَ سِكُونٌ يَعْتَرِيكَ؟ / أَمْ أَنَّكَ تُهَيِّئُ نَفْسَكَ لِخَوْضِ نَهْرٍ جَدِيدٍ  / مِنَ الإِحْسَاسِ وَالتَّوَقُّدِ وَالاِنْطِلاقِ؟"

نلحظ الجمع بين المتناقضات أيضاً حيث ( الصقيع والدفء)، و (حرارة الأنفاس ، وثلج القلب)، وبين(إمكانية التوغل، والاستسلام للسكون) وبين (السكون والتهيئة) ، وبين (الصقيع والسكون من جهة والتوقد والانطلاق من جهة أخرى). وبين (التوغل في الحديد والتهيؤ للسيولة) في مشهد يسيطر عليه أيضاً عدم الإحساس بالخارج رغم توقد الداخل ، في مثل هذا التناقض المثير كان لا بد أن تتفجر الأسئلة التى تعكس الحيرة.

 ومثلما نلحظ أيضاً في نص "رَصَاصَةٌ":

"مَنْ يُقَايِضُ صَمْتِي بِلِسَانٍ وَقَلَمٍ وَبُنْدُقِيَّةٍ؟ / سَأَهِبُهُ رَصَاصَةً يُطْلِقُهَا عَلَى لِسَانِي / فَرُبَّمَا حِينَ التَّمَزُّقِ / يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْطُقَ حَرْفَيْنِ: / لامًا وَأَلِفًا / وَبَعْدَهَا قَدْ يَمُوتُ شَهِيدًا."

ثمة حالة من الرفض الثوري والاعتراض والرغبة في الاحتجاج و التفلت من حالة الصمت إلى حالة قصوى من الرغبة في الفعل الذي يمكن الذات من اجتاز الصمت إلى التعبير باللسان أوالقلم، أوالتعبير بالبندقية لو لزم الأمر، حتى لو كان المقابل هو الاستشهاد في سبيل امتلاك حرية الاعتراض .. حالة يجسدها المنولوج المشحون بالتبرم والتساؤل الحائر.

وف نص "جَزَاءُ التَّأْجِيلِ" نجد الحركة والحركة المقابلة بين الممكن والمستحيل، يجسدها المنولوج المعبر عن جوانيات الذات في شعورها بالخيبة  بين حالتي تأجيل متضادتين في الأولى تضطر لتأجيل أحلامها في واقع أشبه بالمتاهة يشغلها عن ملامسة أحلامها، وفي الثانية تهجر الأحلامُ الذات وقد أضحت الذات غير مهيئة حتى للحلم ، هما حركتان نفسيتان يأتيان على النقيض من بعضهما،  أولاهما في أول المتاهة ـ الحياة ، حيث تبدو الذات آملة في ملامسة أحلامها وإن بدت مضطرة إلى تأجيلها قسراً، وثانيهما في آخر المتاهة حيث النكوص واليأس والعزوف وقد أضحت إمكانية تحقيق الأحلام مستحيلة ومن ثم تكف الذات عن الحلم:

"َ أحْلامٌ تُؤَجِّلُهَا، / تُدِيرُ لَهَا ظَهْرَكَ وَتَنْشَغِلُ، / يَأْخُذُكَ دَرْبُكَ إِلَى سَفَرٍ،
فَتَكْتَشِفُ فِي نِهَايَةِ الْمَتَاهَةِ / أَنَّ أَحْلامَكَ قَدْ أَجَّلَتْكَ لِلأَبَدِ."

ثمة عجز عن تحقيق الأحلام عبر مراحل مضطردة من تأجيل الأحلام قسراً في واقع يباعد بين الذات و أحلامها حتى لأن الحياة تبدو كما لو كانت متاهة لا يكاد يعثر فيها المرء على ذاته، أو لكأن الحياة متاهة الذات عن أحلامها ، تضطر فيها إلى تأجيل أحلامها يوما بعد يوم حتى تكتشف في النهاية أنها ذات غير صالحة حتى للحلم، وقد هجرتها الأحلام كلية لتمضي بغير حلمها وكأن الأحلام هي التى أجلتها.

هذا وإن كان عنوان النص يضعنا إمام إشكالية "الجزاء" وكأن الأحلام تهجر صاحبها جزاء له على هجره لها، وكأن الإنسان بيده ألا يهجر أحلامه في متاهة الحياة؟ .. بّيد أن مفردة" سفر" تضعنا أمام السبب المباشر لهذا الجزاء، لتتتضح لنا صورة أخرى لنوع من الصراع أشبه بصراع سندباد أساء اختيار الطريق إلى أحلامه في رحلة لا يكف فيها عن مواصلة السفر.

في نص "لَعَلَّ صَمْتَكَ يَنْفَعُكَ" جملة حوارية تشتمل على حالتي نقيض هما الصمت والثرثرة حيث يحاور الصديق الشاعر صديقه الذي يلوذ بصمته نائيا عن القصيدة، ليتجسد أمامنا مفهوم الثرثرة شعراً ، وكأن القصيدة فرصة للثرثرة، وكأن الشاعر مجرد ثرثار، عندما يستحيل الشعر بديلا للصمت.

"لَكَ الصَّمْتُ، / وَلِي الثَّرْثَرَةُ عَلَى حَوَافِ الْقَصِيدَةِ، / لِي أَنَا الثَّرْثَرَةُ يَا صَدِيقُ / فَلَعَلَّ صَمْتَكَ يَنْفَعُكَ!!"

وإن كان الأولى أن ننظر إلى "المنفعة" بالنظر إلى الجملة الإخيرة المباغتة " لعل صمتك ينفعك" وكأنها ضمنيا تؤكد أن الصمت غير نافع؟ لينطرح التساؤل: وأي ثرثرة أجدى من الصمت؟ وربما أننا لن ننساق طويلا وراء الثرثرة على حواف القصيدة في معرض الإجابة، وقد تصدمنا الثرثرة بلا جدواها هي الأخرى ـ وإن جاءت على حواف القصيدة ـ إلا في طقس مفعم باللاجدوى في حالتي الصمت والكلام، وتلك هي المفارقة أن يكون الصمت كالكلام ـ وإن ارتقى إلى مرتية الشعر ـ كلاهما بلا جدوى.

وفي نص "هِوَايَةُ التَّجْمِيعِ" نجدنا مع السرد المشبع بالدلالات، وصوت السارد الذي ينقل الحدث بضمير" الأنا" ليتحول السارد إلى مسرود عنه وقد أضحى محور الإحداث الذي تتجسد من خلال توالى أفعال الشخصية: يتعلم الحبو، أجرب طعم كل الكلمات، أَمَلُّ ، أكسر كلماتٍ، أرتضيها صلصالا، فأعود، أجرب لذة:

"كَرَضِيعٍ يَتَعَلَّمُ الحَبْوَ / أُجَرِّبُ طَعْمَ كُلِّ الكَلِمَاتِ عَلَى شَفَتَيَّ، / وَحَينَ أَمَلُّ
أُكَسِّرُ كَلِمَاتٍ أَنِسْتُ لَهَا / وارْتَضَيْتُها صَلْصَالا يُشَكِّلُنِي  / لِتَنْتَثِرَ حُرُوفُا عَلَى أَرْضِي / فَأَعُودُ / وَأُجَرِّبُ لذَّةَ تَجْمِيعِ الحُرُوفِ عَلَى لِسَانِي / عَلِّي أَرْتَادُ / حِينَ اللِقَاءِ / مَطَرًا يُخْضِرُ أَوْرَاقِي."

هي تجربة تتواضع  بلذة الكتابة إلى مستوى لذة الطفولة البرئية باللعب وتكسيرها وإعادة تشكيلها من جديد.. ليس الأمر لهوا على ما يبدو؛ لأن الطفل لا يدرك أنه يلهو، بل على العكس من ذلك هو يدرك أنه يقوم بعمل جوهرى بالنسبة إليه يجعل لحياته معنى، ويجعله سعيدا، تماما كحالة الشاعر وهو يشكل قصيدته وينتهي منها بعد عدة محاولات من محو الكلمات وإثباته، حتى يكتمل بناء قصيدته وهنالك يرى الدنيا خضراء فوق الورق.

في نص " تَكَشُّفٌ"  تتكشف التجربة من خلال السرد وحالة السارد/ الشاعر الذي يغلق السر على لحظة كتابته القصيدة، مصوراً حالة التجاذب بينه وبين القصيدة التى تنتهي بالتمنع بعدما كان يراها مهيأة .

"حِينَ دَاعَبْتُ أَطْرَافَ الْقَصِيدَةِ / وَهَمَسْتُ فِي أَنْفَاسِهَا  / وَفِي بَاطِنِ مَفَاصِلِ السِّطُورِ لاعَبْتُهَا، / تَكَشَّفَتْ وَتَهَيَّأَتْ لِي تَهَيُّؤَ الْعَاشِقَاتِ،
فَهَمَمْتُ بِهَا / وَمَنَحَتْنِي لآلِئَ أَسْكَرَتْ دَمِي. / لَكِنَّنِي عِنْدَمَا طَلَبْتُهَا بِالاسْمِ
وَمَدَدْتُ لَهَا قَلَمِي رَاجِيًا / وَجَدْتُهَا فِي دَوْرَةِ اعْتِكَافٍ عِنْدَ أَلْسِنَةِ النَّبْتِ."

سرد يعمتد على التصوير الشعري للقصيدة العصية وعلاقة الشاعر بها في لحظة تهيؤه لمغازلتها لتستمر العلاقة بين الاستجابة والتمنع، ولتتكشف لنا معاناة الشاعر من أجل اصطياد اللحظة الشعرية المناسبة لمكاشفة قصيدته، وإن كنت أجد غموضاً في استخام" ألسنة النبت" التعبير الذي يظل بغير دلالة حتى نكتشف العلاقة بين دورة الاعتكاف والنبت والألسنة، وإن كنا قد فهمنا أن الشاعر فوجئ باعتكاف القصيدة في النهاية، وكأن الاستخدام " وجدتها معتكفة" ، أو "وجدتها قد اعتكفت" كافيا لإنتاج مفارقة النهاية، لتظل " ألسنة النبت" غامضة وزائدة عن الحاجة.

في نص "بِئْرٌ جَافَةٌ" :

يبأ النص بتساؤل يشف عن الحيرة والعجز عن التوصيف، ليبدأ السرد حول تفصيلات الحكاية / السؤال.

"كَيْفَ تَصِيرُ الْكَلِمَاتُ ؟!  / وَالزَّمَنُ يَلْعَبُ فِي الجِّوَارِ / وَعِنْدَمَا يَمُرُّ عَلَى قَرْيَتِنَا / يَنَامُ فِي حُضْنِ الذِّكْرَيَاتِ / وَيَتْرُكُنَا أَسْرَى الْحَنِينِ / نَكْتَفِي بِسَنَوَاتٍ وَلَّتْ / وَنَدُورُ حَوْلَ بِئْرِنَا الْقَدِيمَةِ / كَأَنَّنَا لا نُبْصِرُهُا مَرْدُومَةً
وَلا نُبْصِرُ سُخْفَ دَوَرَانِنَا؟"

ها إنها التفصيلات تنجلي بين المتناقضات حيث الزمن المتحرك والقرية الثابتة، والحياة التى تتجه إلى الإمام / الحاضر المنزلق نحو المستقبل والقرية التي تولي وجهها شطر الماضي مخلصة للسنوات التى ولت، وكأن الحياة فيما مضي! وفيما بدا أن الإشكالية تتلخص في أزمة الوعي بأن البئر قد جفت وبسخف الدوران في المكان، إنه الدوران المساوى حقيقة للثبات إذ لا جديد ولا حركة نحو الأمام.

لا شك أن اللغة محملة بقدر من الرمزية ، فمهما كانت القرية دالة على المكان إلا أنها مفردة ثرية الرمز للدلالة على الريف، والخضرة ، والنماء، والعشيرة ، والاستقرار، وارتباط الإنسان بالأرض والاخلاص للعرف، وإن كانت دالة على الموطن الذي نشأ فيه السارد الذي بدا أكثر وعيا من الآخرين من أبناء قريته، حيث بدا متبرما من خضوع أهل قريته لسخف عاداتهم وثبات حياتهم عند نمط تليد وهم يولون وجوههم شطر الماضي فيما تتجه بهم الحياة إلى الأمام، وفيما بدت الحياة خلف ظهورهم تمور بالحركة والتقدم يظلون هم ثابتين، وإن كانت كل حركتهم هي الدوران في المكان الثابت حول بئرهم الجافة، بيد أن مفردة "بئر" ثرية الرمز تعطي دلالتها في الحياة نفسها إذ الماء هو الحياة، ومن ثم فجفاف البئر يعني جفاف الحياة نفسه.. وهكذا تصمنا النهاية عندما نكتشف المفارقة أن تكون كل معاني القرية وتداعياتها الرمزية محل مراجعة وقد اختصت بالجفاف أو اختص الجفاف بها، لنجد أنفسنا في حالة ما من الرثاء والحيرة والتساؤل.

في نص "صَمَمٌ" مشهد شعري يجسد الرغبة في فعل التغيير، وهو يجمع بين ألسنة الريح والصمم كطرفي نقيض، حيث تتطاير فيه الحروف مع الريح محدثة دويها الذي يتحدى الصمم ، للتجسد الرغبة في الكلام / الكتابة وفي تحمله دلالات الحروف على الشعر أو غيره من كل ألوان الكتابة أداة المعرفة وناقلتها، ووسيلة تجدد الوعي والحوار والرأي ، ولتتجدد مراهنة الأديب على هذه الوسيلة/ الأداة في إحداث التغير المطلوب.

"تَتَطَايَرُ الْحُرُوفُ فِي وَجْهِ الْمَدَى / تَلْتَصِقُ بِأَلْسُنِ الرِّيحِ، / وَعِنْدَمَا تَهِبُّ مُنْدَفِعَةً / تَلْطُمُكَ عَلَى أُذُنِكَ الصَّمَّاءِ."

*****

لا شك أن السياحة الجمالية مع إبيجرامات الأديب جمال الجزيري كانت ممتعة ، ومحفزة على فعل القراءة  وكانت بحالة ما مؤهلة لنا للخضوع لحالة منتجها، والتحمس لها باعتبارها حالة مشمولة بخلق عالمها على نحو يخلو من مؤرقات الروح ويتسم بالجمال والنماء والإنسانية الوارفة، وإن بدا أنه يتجه بنا نحو إدانة واقع مرفوض يتسم بالتجهم والمفارقة، الأمر الذي كان مدعاة لإطلاق كثير من الأسئلة الحائرة التى حفلت بها النصوص.. أسئلة ـ إلى حد كبير ـ  كانت دليل حياة ويقظة ووعي، وإحساس مفعم بالرغبة في خلق عالم يخلو من المؤرقات، وبالقدر نفسه كانت مدعاة للبحث عن الإجابات.

عبدالجواد خفاجى

7 / 4 / 2011 م

ميدان المرايا : ديوان شعري للمصري جمال الجزيري صادر عن داردار التلاقي للكتاب بالقاهرة عام 2012 م

 

 

 

 

 

 

 

khfajy

سترون أبيضي عندما يلوح بياض الآزمنة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 76 مشاهدة
نشرت فى 24 ديسمبر 2013 بواسطة khfajy

ساحة النقاش

عبدالجواد خفاجى

khfajy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

17,896