سنتناول في هذا المقال أجزاء جديدة من النخلة وكيف تم الاستفادة منها في العديد من الصناعات التي مكنت أسلافنا من التأقلم مع البيئة المحيطة واستغلالها.
نوى رطب النخيل
النوى والمفرد نواة وهي البذرة التي توجد داخل ثمرة النخيل أي الرطب أو التمر وتسميها العامة «طعامة» و»فصمة», وخلافا للعديد من النباتات فلا يتم استخدام البذور للتكاثر وذلك أن النواة عندما تزرع لا تعطي بالضرورة نخلة فربما يكون الناتج فحال وإن كانت نخلة فربما لا تكون بجودة النخلة التي أنتجتها وبذلك يلجأ الفلاح لزراعة الفسيلة لضمان أن تعطي نخلة شبيهة تماما بالنخلة الأم. وعلى الرغم من ذلك يقوم البعض بزراعة النوى وينمو منها نخيل تسمى «نشوات» (جمع نشوى) والتي غالبا ما تكون أصنافا غير جيدة وفي الأصل فإن جميع أصناف النخيل حسب اعتقاد الفلاحين أصلها نشوات جيدة تم الإكثار منها.
النوى كعملة يقايض بها
قد يعتقد البعض أني أتحدث عن ألف عام من الزمان بينما أتحدث عن حقبة قريبة العهد فصور المقايضة بنوى التمر لا زالت حاضرة في ذاكرة كبار السن وخاصة النساء وهي عادة لم تنقرض في يومنا هذا بل تطورت وتقلصت لتعطي الصورة القديمة ذاتها. فقد كانت النوى منذ عهد قديم تستخدم كعلف للماشية وبقيت حتى يومنا هذا سواء في البحرين أو في بلدان أخرى, وفي البحرين كان النوى يخلط مع فضلات أطعمة أخرى كبقايا الخبز أو فضلات أخرى فلا يوجد ما يرمى من بقايا الطعام إلا العظام بعد ذلك يتم مقايضة تلك الفضلات مع بائع الخضار الذي تسميه العامة البگال (البقال) والذي يكون عادة مزارع يفضل تصريف بضاعته بنفسه. عندما يوضع التمر على مائدة الغذاء يوضع بالقرب منه إناء لتجمع فيه نوى التمر ثم يخلط مع ما تبقى من فضلات الغذاء وبعض النساء يخرجن بحثا عن نوى التمر في مجمع الأوساخ الذي تسميه العامة السمادة. يجمع كل ذلك ويوضع في قفة (وعاء يصنع من الخوص) ومن ثم ينتظرون قدوم البقال. يحضر البقال كل صباح برفقة حمار وقد وضع بضاعته المكونة من الخضار والمحاصيل الأخرى في مرحلتين (المفرد مرحلة وهي وعاء كبير يصنع من الخوص) ويضع تلك المرحلتين على ظهر الحمار. في هذه الأثناء تكون النساء قد تجمعت وكل واحدة تحمل قفتها لتقايضه, يجلس الخضار ويخرج ميزانا خاصا للمقايضة به كفتين كل كفة عبارة عن قفة وأحيانا توجد نساء لا تكترث للأسبقية فترى كل واحدة قد ملأت كفها بمقدار من النوى وتكون الأسبقية لتلك التي تضع ما بكفها في قفة الميزان. وهناك طريقة خاصة لحساب المقايضة فأحيانا يقوم البقال بتقسيم ما يعطى له من فضلات إلى قسمين متساويين في الوزن فيضع نصف له ويقايض النصف الآخر بنفس وزنه من الخضار أي لكل فرد يعطي خضارا بمقدار وزن نصف الفضلات التي يقايض بها, وفي أحيان أخرى يرتفع سعر الخضار فتتم المقايضة بوزن ثلث الفضلات فقط.
هذه الصور من المقايضة لم تختفِ فنجد اليوم من تخصص في جمع فضلات الخبز حيث تباع على المزارعين كعلف للماشية بسعر الخيشة. وإن كان أحد يعجب لوجود نساء كانت تجمع نوى التمر من السمادة بسبب الفقر فهذه الصورة لم تتغير فقد استبدلت السمادة بحاويات القمامة والذي تخصص البعض في البحث عما بداخلها من علب فارغة أو فضلات تصبح ذات قيمة مادية بسيطة عندما تجمع, فما أشبه اليوم بالبارحة.
مستقبل اقتصاديات نوى التمر
ربما ينظر البعض في وقتنا الراهن لهذه النواة نظرة دونية متجاهلا ما يمكن الاستفادة منها ولكن عندما نراجع أقاويل الشعوب القديمة من بلدان مختلفة نجد أن تلك الشعوب كانت تقدر هذه النعمة وهي نواة الرطب, وانطلاقا من تلك الأقاويل القديمة بدأ عدد كبير من الباحثين بدراسة هذه النواة والتحقيق في مزاعم أسلافهم, هناك كم كبير من النتائج العلمية التي لا يسعني هنا أن أعرضها بأكملها ولكن فقط للتأمل لاحظ آلاف الأطنان المستهلكة من التمر والرطب سنويا ومن خلال ذلك يمكنك حساب وزن النوى الناتج الذي يمثل 13% - 15% من وزن التمر بمعنى لكل ألف طن من التمر هناك 150 طن من النوى, أبسط الأمور وأيسرها أن يستخدم كعلف للمواشي كما كان يستخدم في الماضي حيث أثبتت التجارب أنه يحسن نمو الماشية, لن أتطرق هنا لجميع البحوث الأجنبية وسأكتفي برسالة ماجستير باللغة العربية وهي بعنوان «تأثير نوى التمر على المقاييس الكيموحيوية في فئران التجارب» إعداد «منية بنت توفيق بن حسن جوهرجى» في العام 2008م من جامعة أم القرى بالمملكة العربية السعودية, وبالإضافة لنتائج هذه الأطروحة يمكنك الرجوع للعدد الكبير من المراجع التي اعتمدت في هذه الأطروحة. وبالإضافة لاستخدام النوى كعلف يمكن استخدامها في استخلاص المستحضرات الكيميائية المستخدمة في الطب على سبيل المثال كمصدر للهرمونات الأنثوية (Harraz et al. 2008), وغيرها من المواد المفيدة التي تم الكشف عنها في العديد من الدراسات.
منتوجات ليف النخيل
الليف هو ذلك النسيج الرقيق الذي يغطي قمة النبات ويعمل بمثابة عازل يحمي القمة من تقلبات الجو. وعادة ما يمكن الحصول على الليف في نهاية موسم جني الثمار أثناء عملية التغليق حيث ينتج الليف عن قطع السعف مع الجزء الغليظ المرتبط بجذع النخلة أي الكرب, أو قد يتحصل عليه بعد موت النخلة أو أثناء عملية تجديب النخلة. وعندما تكون هناك حاجة ماسة لليف فإنه يستخرج بواسطة عملية يدوية أو أداة حادة وتسمى هذه العملية بالتمشيع أو الخلابة. وقد استخدم ليف النخيل منذ آلاف السنين في العديد من الصناعات وربما كان أغربها أن يستخدم في صناعة الشعر المستعار حيث استخدمه الفراعنة كبطانة داخلية للشعر المستعار أما الرومان فقد صنعوا الشعر المستعار بأكمله من ليف النخيل (Fletcher 2002), أما الصناعات الأخرى التي تقوم على استخدام «الليف» كمادة أساسية والتي استمرت حتى عهد قريب فهي عديدة أيضا وقد اختفت حاليا وهذا استعراض لأهمها:
1 - صنع الحبال
وتعرف هذه الصنعة بفتل الحبال وقد سبق الحديث عن كيفية فتل الحبال أثناء الحديث عن بناء العريش. وتمتاز الحبال المصنوعة من الليف بالقوة والمتانة وطول صلاحية استخدامها. ويبدو أن العامة قديما لم يعتبروا صناعة فتل الحبال من الليف بالعملية الصعبة لكنها تحتاج لفترة طويلة من الجلوس في البيت لصناعتها وربما كان هذا السبب وراء امتهان العديد من الرجال الذين فقدوا أبصارهم لهذه المهنة حتى غدت هذه الظاهرة مضربا للأمثال فكثيرا ما يردد المثل الشعبي: «كل من اعمي فتل أحبال». ويضرب المثل للصنعة التي يكثر امتهانها حتى من غير المتخصصين لأنهم لا يجدون ما يعملون فيستسهلون هذه الصنعة حتى وإن لم يتقنوها.
2 - سيجة الكر
عبارة عن حبل متين يصنع من ليف النخيل أشبه بالحزام له جزء عريض لين يسند به الفلاح ظهره وقد عرفته العرب منذ القدم باسم (الكر) وقد مر ذكره سابقا. ويسمى الجزء الذي يستند عليه ظهر مستعمله بالسيجة وهي مصنوعة من نسيج من ليف النخيل, حيث يتم فتل حبال دقيقة من ليف النخيل ومن ثم تنسج بطريقة خاصة لتكون هذا المستند, وربما يتفنن بطريقة عمله وتعمل بعض الزخارف النسيجية فيه.
3 – عدة الحمار
هو السرج الذي يوضع على الحمار وهو يتكون من ثلاث طبقات طبقتين من الخيش تسمى كل واحدة الجوت والطبقة الوسطى هي التي تصنع من ليف النخيل وتسمى القدود (لگدود). والجوت نبات ليفي موطنه الأصلي الهند تصنع من أليافه عبوات الخيش والمنسوجات الخشنة الرخيص. ويعرف سرج الحمار في بلدان أخرى باسم اجلال وجمعه جلالات ويصنع بنفس الطريقة, والاسم المشهور عندنا هو العدة وقد ورد في الأمثال الشعبية فيقال: «ما يقدر على الحمار حط روحه على العدة». ويضرب المثل للشخص الذي لا يستطيع أن يقتص حقه من شخص أقوى منه فيفرغ غضبه على شخص آخر أضعف منه.
4 - الخرج:
الخرج اسم عربي ورد في كتب اللغة بمعنى الوعاء ولم يحدد المادة التي ينسج منها وفي الغالب ينسج من الصوف وهو معروف في البحرين بهذا الاسم وفي شرق الجزيرة العربية ينسج وعاء شبيه بالخرج ولكن باستخدام ليف النخيل حيث تنسج الخيوط الليفية لتكون الخرج وقد ذكره كل من الشايب والمزين وجاء في وصفه عندهما أنه جهاز يوضع فوق ظهر الحمار لنقل الرمل والسماد ويتدلى فوق ظهر الحمار على جانبيه وبشكل كيسين مفتوحين من الأعلى ومتصلين مع بعض، ومفتوحين من الأسفل إلا أنه يمكن إغلاق الفتحة بأزارير وخيوط من الحبال، ويستغل الليف في الخرج بحجمه الطبيعي ليكون غلاف الكيسين وتضاف على الجدران الخارجية قماش مزركش لتنعيم مظهره، وتتدلى أحيانا منه حبال للتجميل.
5 – المروى
وهو كذلك من الأوعية التي تحاك من ليف النخيل وذكرت في بحوث شرق الجزيرة العربية وهو يشبه الخرج في التكوين العام إلا أنه يتكون من أربعة أكياس يتدلى كل كيسين على جانبي الحمار وكل كيس على شكل مخروط دائري ناقص مفتوح من الجهتين ويكفي الكيس لوضع جرة بداخله لهذا فهو يستغل لجلب الماء.
6 – استخدام الليف للتنظيف
استخدم الليف كمادة للتنظيف سواء لغسل الأواني المعدنية لإزالة ما بها من أوساخ أو لتنظيف الجسم.
5 - حشو للمواسد والمساند
يقصد بالمواسد المخدات والمساند ما يوضع خلف الظهر في المجالس العربية وهذه كانت تعمل من الليف الكامل بعد تصفيقه كما توضع داخل كيس من القماش لإعطائها مظهرا جميلا.
منتجات سعف النخيل
تناولنا في فصل سابق أجزاء السعفة بالتفصيل وهي: الكربه, والقذف ونصل السعفة, والجريدة, والسلاء والخوص. ولكل جزء من هذه الأجزاء أهمية:
1 – السلاء
وتسميه العامة السلّة وهو يستخدم في الغالب كوقود بعد أن ييبس، وقديما كان البعض يستخدمه في خياطة القفيف جمع قفة. كما ويخاط به شبك الغزل المستخدم لصيد الأسماك. ويستعان به في إخراج الأشواك إذا أصيب بها أحد من باب (وداوِها بالتي كانت هي الداء) حيث يعتقدون أن الأشواك أخف وطأة على الجرح من الإبر المعدنية.
2 – الكرب
وهي قواعد السعف وتستخدم كوقود وتستخدم كذلك كطوافات حيث يربط بشبك الصيد ليطفو فوق الماء ويكون علامة للشبك وقد تحدثنا عن التفاصيل في جزء ثقافة البحر.
3 - القذق
وتسميه العامة الگدف (القدف) وهو الجزء السفلي من السعفة التي تتوضع عليه الأشواك وتوجد في نهايته الكرب وهو يستخدم في الغالب كوقود بعد أن ييبس, كذلك يستخدم كمضرب تضرب به نباتات القت والرويد (الفجل) وغيرها لفصل البذور عن القش والبعض يسمي القذف في هذه الحالة (الضبر) وهو قذف أخضر أو ليس يابسا تماما. ومهنة الضرب هذه شاقة جدا حيث تجفف النباتات ويبدأ ضربها عند قرابة منتصف النهار لعدة ساعات ومن ثم تفصل البذور عن بقايا النباتات وقد كان البعض في السابق يستعين بالمنحاز كما سبق وأوضحنا في فصل سابق.
4 - نصل السعف
وتسميها العامة (لطرافة) ومفردها طرف ولها أهمية في عملية بناء العريش وقد تناولناها بالتفصيل في الفصل المخصص للبناء العريش. بالإضافة لذلك يعتبر السعف الأخضر وخاصة الصغير منه مصدرا للألياف حيث يتم تحويجه واستخدام أليافه في ربط الجريد مع بعض أو السعف مع بعض وذلك عندما يتم بناء العريش أو الحضار أي سور المزرعة. وعملية تحويج السعف شبيهة تماما بعملية تحويج العرجون التي مرت علينا سابقا باستثناء أن السعف الأخضر رطب في الأصل ولا يحتاج إلى ترطيب فيكتفى بالضغط عليه بعصا ومن ثم ليه لاستخراج الألياف.
ويستخدم السعف أيضا في بناء سور التضليل أو ما يسمى في شرق الجزيرة العربية الدرى, وهو عبارة عن جدار من السعف يوضع قبال الزرع في المزارع بغرض تظليله.