الإخلاص
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
***************
كنت أقلب في دفاتري القديمة ابحث عن الصبر في بحث طويل قد قمت به منذ وقت بعيد، وكلما وقع في يدي دفتر أخذت اتصفحه سريعا، لم يكن لدي وقت، وظلت اضع كل دفتر مفتوحا فوق الآخر لأعود إليه فيما بعد لما فيه من درر ونوادر من أقوال العلماء..
وعندما قاربت من الملل، وكدت أغادر مكاني دون الحصول على بغيتي، فإذا بدفتر قديم جدا ورقه قد أصفر لونه من التقادم، فأخذت اتصفحه وانا واثق أن ما أبحث عنه في مكان آخر، ولكن شدني حنيني لأيام زمان عندما كنت أجد متسعا من الوقت رغم كثرة عملي، لذلك ظللت اتصفح دفتري الحبيب، فوجدت محاضرة ذات قيمة عالية جدا لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي عن الإخلاص فعرفت على الفور أنها من رزقكم ونصيبكم
انتابتني فرحة عميقة جدا بما وجدت، كان كنزا من كنوز الدنيا والآخرة، { الإخلاص} قضيت عمري أبحث عنه في قلوب كل من عرفت، وأبدا ما وجدته كاملا، دائما كان ينقصه شيء في الشخصية، فالإخلاص كالجوهرة الثمينة جدا التى لا يمكن أهمالها، ولابد لها من مكان خاص وأمين وبعيد عن أيد وعيون المتلصصين...
فهيا بنا نعيش فترة من الزمن، كل على حسب حاجته للإخلاص، وكل على حسب ما قدر الله له من الرزق الذي ساقه إلينا من كلام فضيلة الدكتور النابلسي..
فهل أنتم مستعدين؟ لو أنا مكانكم لقمت بنسخ المحاضرة وحفظها في الجهاز فهي مرجع نعود إليه كلما ذبلت فينا نبتة الإخلاص، أو زهرة الإخلاص....
والكلام الآن لفضيلة الدكتور:
علة وجود الإنسان هي العبادة، لقوله تعالى
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
والعبادة في أدق تعبير لها هي طاعة طوعية ممزوجة بمحبة قلبية أساسها معرفة يقينية تؤدي إلى سعادة أبدية
الدكتور يقول أنك اخترت أن تعبد الله طواعية، لأنك وجدت في قلبك محبة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم تلك المحبة جاءت من معرفتك ويقينك بالله العلي العظيم، هذه المعرفة وهذا اليقين هما سبب سعادتك الأبدية في الدنيا والآخرة، الآن اترككم مع فضيلته:
ولكن هذه العبادة تفاصيلها أنها تتجه ألى كل جوارحنا، فعبادة العين غض البصر، وعبادة الأذن عدم سماع الباطل، وعبادة اللسان أن ينطق بالحق ولا يكذب، وعبادة اليد أن لا تبطش بها إلا في سبيل الله، وعبادة القدم ألا تقوده إلى معصية...
والسؤال الآن ما هي عبادة القلب؟
عبادة القلب هي الإخلاص أي لا تطلب لعملك شاهد إلا الله، أما إذا أردت غير الله بعملك فهنا لديك مشكلة أمام الإخلاص...
الإخلاص أن يوافق سرك علانيتك وأن يوافق قولك عملك
إذا الإخلاص هو ألا تحتاج إلى شاهدا على عملك إلا الله، وأن تصفي سرك وعلانيتك وقولك وعملك، أي أن يوافق سرك علانيتك، وأن يوافق قولك عملك...
الإخلاص له تعريفات كثيرة جدا، والعبرة أن تبتغي بعملك وجه الله سبحانه وتعالى، وأن تبتغي رضاه، وأنت عندما تريد لعملك شاهدا غير الله فأنت تتوجه بعملك إلى غير الله، مثلا أن تسعى أن يكون لك مكانة عند غير الله، أو أن تحصل على ثناءا من غير الله، فإن العمل إذا كان موجها لغير الله ففي إخلاصك شك.
ما سبب الإخلاص
هذا أخطر سؤال في هذا اللقاء، ثم يواصل الحديث، أنت عندما تخلص لله كان توحيدك جيدا، وعندما توقن أن المعطي هو الله إذا فأنت لا تسأل غير الله ...
وأنت حين توقن أن المانع هو الله ، فأنت لا تقف إلا لله، وحين توقن أن الرازق هو الله إذا فلا تعصي الله من أجل الرزق...
أنت حين توقن أن الله هو المعطي والمانع وهو المٌعز وهو المذل وهو الرافع وهو الخافض، وإذا أعتقدت أن الأمر كله بيد الله ، بمعنى أن كل حياتك بيد الله، وأمر كل من حولك بيد الله، وكل من فوقك ومن دونك وصحتك وأهلك وأولادك ، حينما ترى وتعتقد أن الله بيده أمر كل شيئ .. حينئذ يكون اتجاهك في الحياة اتجاه واحد .
عندما ترى أن الله بيده كل شيئ تتوحد وجهتك، وتوفر على نفسك عناء الأختيار، وتجنب نفسك وأهلك عواقب الخطأ وسوء الإختيار، أنت عندما تخلص لله تتمثل لك هذه الآية:
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ
لأنك إذا عبدت الله تأتيك الخيرات، وعندئذ عليك أن تشكر المنعم سبحانه وتعالى، أنت حينما تخلص لله تقرأ قوله تبارك وتعالى:
قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ
الإخلاص يحتاج إلى توحيد
وهنا أود أن أضيف لكلام فضيلته حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وضع فيه ما يحفظ للإنسان ماء وجهه وكرامته وعرضه وراحة باله، ويجعله يمضي في حياته مرفوع الرأس ولا يخشع ولا يذل إلا لله الواحد القهار:
عن عبد الله ابن عباس:
<<أنه ركِبَ خلفَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يومًا فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : يا غلامُ إني مُعَلِّمُكَ كلماتٍ احفظِ اللهَ يَحفظْكَ احفظِ اللهَ تجدْهُ تُجاهَكَ وإذا سألتَ فلتسألِ اللهَ وإذا استعنتَ فاستعنْ باللهِ واعلمْ أنَّ الأمةَ لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبهُ اللهُ لك ولو اجتمعوا على أن يَضروك لم يَضروك إلا بشيٍء قد كتبهُ اللهُ عليك رُفعتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ >> صحيح.
ثم نتابع مع فضيلة الدكتور:
عندما تتفوق في توحيدك لله تتفوق أيضا في إخلاصك له سبحانه وتعالى
أنت حينما لا ترى مع الله أحدا، وأنت حينما ترى أن إليه يرجع الأمر كله، عندئذ تعبده مخلصا له الدين، وعندما تدرك أنه سبحانه في السماء إله وفي الأرض إله، أي عندما ترى أن ما يحدث في الآرض من حروب وزلازل وبراكين وأمراض وحوادث وكل ما يحدث في حياتك وحياة الآخرين هو بعلم الله ومشيئته، وأن كل ما أراده الله وقع، وأن إرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة، وحكمته المطلقة متعلقة بالخير المطلق، عندئذ تتفوق في توحيدك فتتفوق في إخلاصك.
إذا صح أن للإخلاص مؤشرا وللتوحيد مؤشرا ... إذا المؤشران يتحركان معا
بقدر ما في الإنسان من شرك خفي بقدر ما فيه من عدم إخلاص
بقدر ما أنت موحد بقدر ما أنت مخلص
فالإخلاص سببه التوحيد
والتوحيد هو الإيمان كله
أي أن التوحيد ليس كلمة تقولها،ولا فكرة تفهمها ، إنه متغلغل في اعماق أعماق الإنسان، متغلغل في أعماق الإنسان أن الله هو كل شيئ، وبيده كل شيئ.. فطرة الله التى فطر الناس عليها.
التوحيد أحد أكبر أسباب الإخلاص وهو أن لا ترى مع الله أحدا
التوحيد هو:
<!--أن لا ترجو غير الله.
<!--لا تعبد غير الله.
<!--لا تعقد الأمل على غير الله. أي أن يكون أملك في الله وحده.
<!--لا تخاف غير الله .
وهذه النقاط لنا فيها وقفة طويلة إن شاء الله في دروس قادمة وخاصة الخوف، وخير ما نختم به هو ماعلمنا ربنا من دعاء جميل ترتاح له القلوب المضطربة والنفوس الحائرة القلقة، والعقول التائهة في ملك الله:
رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
ساحة النقاش