طفلة في السادسة عشرة من العمر ترتدي جلبابا ملونا تحمل علي صدرها رضيعا، تقدم رجلا وتؤخر أخري نحو مكتب التطعيمات في ''أوسيم''، وبعيون زائغة تصل إلي الموظف، تطلب تطعيماً للطفل، بعد أن سمعت في ميكروفون مسجد القرية عن حملة التطعيمات ضد شلل الأطفال.

يطلب منها الموظف أوراق الطفل، تتساقط الدموع من عيونها وتتحشرج كلماتها، وهي تقول بصوت يكاد لا يسمع «ماعنديش أوراق.

يرد الموظف بحسم وقد بدا عليه أنه فهم معني جملتها «ما أقدرش أدي له تطعيمات.. إيه اللي يثبت مين الولد ده.

تحاول أن تكفكف دموعها وتستعطفه «يعني مافيش طريقة عشان ياخد التطعيم

ويرد بصوت أعلي وحسم أشد «لأ.. التعليمات كده

يعرف الموظف أن الطفل لا يحمل شهاد ميلاد لأن أمه طفلة لم توثق قسيمة زواجها، التي لا توثق قبل أن تتم الثامنة عشرة.

تراقب المشهد من بعيد سيدة أخري تعرف السيناريو نفسه أيضا، فتقترب من الطفلة الباكية قائلاً: «ما تعيطيش اكتبيه باسم أبوك وخلاص، عشان يطلع له شهادة ميلاد».

تفتح الطفلة عيونها محاولة أن تفهم «يعني ابني .. يبقي أخويا».

تتركها السيدة دون أن ترد علي سؤالها لتأكلها الحيرة والحزن وقلة الحيلة .

••

 القصة تتكرر مع زواج القاصرات من عرب أو مصريين كما تؤكد «صديقات الأسرة» اللاتي يتطوعن للعمل في قري زواج الأطفال في محافظة أكتوبر، لتوعية الأسر بمشكلات هذا الزواج قبل أن تقع المشكلة ويحاولن مساعدة الزوجات الأطفال في التغلب علي هذه المشكلات من خلال وحدة منع الإتجار بالبشر بوزارة الأسرة والسكان وخط المشورة الأسرية (16021).

حسنة فاروق أحمد - 23 سنة- التي عملت من قبل كرائدة ريفية وتتطوع الآن للعمل ضمن فريق عمل صديقات الأسرة، شاهد عيان علي الكثير من هذه المواقف التي تقف فيها الطفلة (الزوجة) عاجزة علي أن تحصل لابنها الرضيع علي التطعيم، أو أن تستخرج له شهادة ميلاد.

تقول: صحيح ليس لدينا بقرية (برطس) التي أعمل وأعيش فيها ظاهرة زواج (المسيار)- تقصد زواج الفتيات الأطفال من مسنين عرب- مثل قري الحوامدية، لكن عندنا زواج فتيات أطفال من شباب مصريين، وأغلبه غير موثق، لأن الفتيات تتراوح أعمارهن بين عشر سنوات إلي 16 سنة، وعندما يتقدم شاب لطفلة في الصف السادس الابتدائي يسارع أهلها بإخراجها من المدرسة، علي اعتبار أنها مخطوبة، إلي أن تتم الزيجة خلال عام أو أكثر قليلا، وفي السادسة عشرة تقريبا تكون قد أصبحت أماً، وهنا تبدأ المشاكل، فالكثير من الأطفال يبقون دون شهادات ميلاد حتي يوثق المأذون القسيمة عندما تكمل الأم الثامنة عشرة، ووقتها يستخرجون للطفل شهادة ميلاد، وكأنه قد ولد للتو، وعمره الحقيقي عامان، وهكذا سيلتحق بالمدرسة وعمره ثماني سنوات بدلاً من ست.

تكمل حسنة: المأذون يكتب الكتاب في السر، ويبقي القسيمة عنده حتي تكمل الزوجة الثامنة عشرة لكي يوثق القسيمة، وكلما كان سن الفتاة صغيرا كلما حصل علي مبلغ أكبر عندما يكتب القسيمة يصل إلي ألف جنيه، لكن الزواج صحيح لأن فيه إشهاراً واحتفالاً في عرس كبير في القرية، ويفرح أهل البنت بالزيجة، وتقول الكثير من الأمهات «البنت لما تتجوز بدري عينيها ما تفتحش وما تعرفش حاجة، لو كبرت هاتطلب حاجات كتيرة لما تيجي تتجوز مش هانقدر نجيبها، ولو الواحدة جالها واحد مبسوط هاتستني إيه

متعة وخدامة ببلاش

ومن أبو النمرس تحكي صديقة الأسرة مايسة عبد المنصف السهدني- 40 سنة- مصيرا آخر لأطفال زواج القاصرات، بطلته طفلة كانت وقتها في الخامسة عشرة من عمرها حين تقدم لها كهل عربي، ووافقت أسرتها علي أمل أن تتغير أحوالهم إلي الأفضل، وتعيش الابنة حياة رغدة، وسافرت معه إلي بلده ،لكنها لم تستطع أن تبقي هناك أكثر من عام واحد، بعد أن وجدت أنها جاءت من أجل متعة صغيرة، ثم تبقي خادمة «ببلاش» لزوجته وأولاده ، ووجدت أن الحياة الرغدة ليس أكثر من حياة بدو علي قد حالهم، لكنها عادت حاملا ،وعندما عرف الزوج أنه «ولد» رفض أن يطلقها علي أمل أن تعود معه ثانية إلي بلده، لكنها رفضت، وتحملت أن تعيش دون طلاق، لكي تربي ابنها الذي كان يرسل له القليل كل فترة، وبقيت هكذا إلي أن وصل عمر الطفل إلي الثالثة عشرة، واستطاع والده أن يأخذه إلي بلده، ولم يعد به ثانية، أما هي فأصيبت بعدها مباشرة بالسل، وساءت حالتها بسبب حسرتها علي فراق ابنها، حتي فارقت الحياة.

وتكمل مايسة: صحيح أن الكثير من الأسر أخذت عظة وعبرة من هذه القصة، لكن مازالت الكثير من الاسر تفضل أن تتزوج بناتها في سن مبكرة، وبعد أن حدد قانون الطفل والأحوال المدنية توثيق سن الزواج بـ18 سنة، يستمر الزواج عرفيا حتي تتم الزوجة 18 سنة، ويبقي الطفل دون شهادة ميلاد حتي توثق القسيمة، وحدث أن توفيت طفلة لم يكن لها شهادة ميلاد لأن والدتها تزوجت عرفيا، وكانت تبكي لأنها لا تعرف كيف تدفنها دون شهادة وفاة، واستنجدنا بخط نجدة الطفل، وكان المخرج هو عمل محضر في النيابة، واستخرجنا تصريحا بالدفن للطفلة.

وتحاول صديقة الأسرة في البدرشين كريمة كمال عبد الشكور- 34 سنة- إيقاف زواج فتاة من القرية تبلغ 15 عاما، لم يسبق لها الذهاب للمدرسة ، ومن أسرة فقيرة توفي عائلها تاركا للأم خمس فتيات، وتريد الأم أن تزوج الابنة «عشان تخف حملها وتتستر»، لكن الأمر صعب، فالزوج شاب ميسور الحال والفتاة نفسها تريد أن تتزوج، لكن كل ما تملكه كريمة هو توعية الأسرة بأن التوثيق لن يكون إلا بعد الثامنة عشرة، وقبلها لن تستطيع الطفلة الزوجة استخراج شهادة ميلاد إن رزقت طفلا.

ولادة وختان يادكتور

أما هند عبد الله عبد السلام- 19 سنة- صديقة الأسرة بالحوامدية فتحكي كيف تألمت تلك الطفلة (الزوجة) التي تزوجت في السادسة عشرة من كهل عمره 48 سنة ومتزوج ولديه أطفال، عندما كانت تضع حملها وطلبت حماتها من الطبيب أن يجري لها «ختان» لأنها اكتشفت أن الفتاة لم تكن مختنة، ولم يستطع أهل الفتاة أن يفعلوا شيئا.

وتتوقف هند عند «ورطة» وقعت فيها طفلة في السادسة عشرة بعد أن توفي والدها ووافقت والدتها أن تتزوج من شاب بدا أنه ميسور في الثامنة والعشرين من العمر، خاصة أن لديها أربع أخوات أخريات ،وتزوجها (بورقة) بعد أن رفض المأذون كتابة القسيمة حتي لا يخالف القانون، واستأجر لها غرفة كي يتزوجا فيها بجانب والدتها، وبالفعل أصبحت الزوجة الصغيرة حاملا، والآن بعد أن أصبحت علي وشك أن تضع حملها، تركها الزوج الشاب، قائلا «مابقتش عايزها، وماليش دعوة باللي في بطنها، تثبت إني متجوزها»، وعندما وضعت حملها لم تجد الجدة حلا إلا أن تكتب الطفل باسمها واسم جده، وكأنه أخ لأمه.

ومن الحوامدية أيضا تحكي صديقة الأسرة رشا محمد عبد الغفار- 27 سنة- قصتها قائلة: عندما أسمع أن فتاة تترك المدرسة من أجل الزواج أسارع بتوعية أسرتها، لأني تألمت بسبب أني تزوجت بعد المرحلة الثانوية مباشرة ،وكنت أتمني أن أكمل تعليمي، لكني وجدت نفسي أتحمل مسئولية طفل، وكنت وقتها مازلت صغيرة لا أعرف كيف أربي طفلا، لكن الأسر في قريتنا ما زالت تخشي علي البنت التي يكثر طلبها للزواج أن تظل أسرتها ترفض زواجها، حتي لا تنقطع هذه الطلبات كما يقول المثل الشعبي (من كتر خطابها بارت)، والبعض يخشي من أن يتحدث الناس علي الابنة، خاصة مع انطلاق الفتيات الآن في التعليم، فيفضلون أن تتزوج في سن مبكرة، لكن مع هذا فهناك بعض الفتيات يصممن علي استكمال تعليمهن.

وتكمل رشا: رغم أن قريتنا مليئة بنماذج الفتيات اللاتي تزوجن من عرب وعدن بعد شهرين أو ثلاثة مطلقات، فمازالت هذه الزيجات تجد قبولا عن بعض الأسر هنا، وعندما تعود الابنة حاملا، يعتقد الأهل أنه الكنز، لأن الأب سينفق علي الطفل، وبالفعل يتحول هذا الطفل إلي سبب لأن تتدفق عليهم النقود التي تنفق علي الأسرة كلها، علي أن تبقي الزوجة الصغيرة معلقة، والأطفال يدفعون الثمن.
الحق في شهادة الميلاد

مصير أبناء زواج القاصرات كان بين المشكلات العملية التي تواجه تنفيذ تعديلات قانون الطفل التي أقرت عام 2008 - التي رصدتها دراسة صدرت عن مرصد حقوق الطفل بوزارة الأسرة والسكان وأعدتها د. هالة غالب استاذ القانون الجنائي بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، حول حق الطفل في النسب (رؤية قانونية)

وتوضح الدراسة أن قانون الطفل ينص علي كفالة الدولة لحقوق الطفل الواردة بالاتفاقيات الدولية النافذة في مصر كحدود دنيا للحقوق التي يجب أن يتمتع بها الطفل المصري، ومن هذه الحقوق حق الطفل في الانتساب إلي والديه الشرعيين والتمتع برعايتهما، واستحدث المشرع حكمين جديدين ليتلافي قصور عملي يحدث خلال إجراءات استخراج شهادات ميلاد الأطفال، فعدّل المادة 17 وجعل الحصول علي شهادة الميلاد الأولي بغير رسوم، وكانت أحد المعوقات التي تحول دون تسجيل المواليد، وأضيفت فقرة أخري للمادة 15 من القانون أصبح بموجبها للأم الحق في استخراج شهادة ميلاد لوليدها منسوبة إليها كأم، تجنبا لضياع حق الطفل في إثبات واقعة ميلاده، خاصة عند حدوث خلاف بين الأب والأم.

لكن أوضحت اللائحة التنفيذية للقانون أن قبول التبليغ من الأم عن وليدها مشروط بتقديم مستند رسمي يثبت العلاقة الزوجية، وبتقديم إقرار موقع منها بأن الطفل ناتج عن هذه العلاقة، خشية نسب طفل إلي غير أبيه، وفي حالة عدم إمكانية الأم إثبات العلاقة الزوجية، سواء كانت رسمية أو غير رسمية، يدون اسم الأم في الخانة المخصصة لذلك، ويثبت للمولود اسم أب رباعي، يختاره المسئول عن القيد، ويثبت ذلك بمحضر إداري، يحرره المسئول عن القيد، ويرفق بنموذج التبليغ

وهنا تحدث الفجوة بين النص والتطبيق الفعلي، عندما تطلب بعض النساء المتزوجات عرفيا أو المهجورات استخراج شهادة ميلاد لطفلها ، لأن عليها إثبات العلاقة الزوجية، ضمانا لعدم نسب الطفل لغير أبيه، في الوقت الذي لايوجد فيه في القانون ما يضمن- في المقابل - ضمان عدم نسب طفل لغير أمه، اكتفاء بحق الأب في قيد الطفل بسجلات المواليد دون تقديم ما يثبت واقعة الميلاد من هذه الأم، أو تقديم إقرار بمسئوليته بتقديم ذلك.

أما عقوبة من يبلغ ببيانات خاطئة في هذا الأمر، فجاءت في نص المادة 24 من قانون الطفل، والتي تقضي بعقوبة الحبس مدة لا تزيد علي سنة، وبغرامة لا تقل عن 100 جنيه ولا تزيد علي 500 أو بإحدي هاتين العقوبتين، لكل من أدلي عمدا ببيان غير صحيح عند التبليغ.

البصمة الوراثية

والمشكلة لا تكمن فقط في صعوبة إثبات الزوجة للزواج العرفي، وإنما إلي عدم معرفتها أصلا بأن لها الحق في الإبلاغ عن واقعة ميلاد ابنها واستخراج شهادة ميلاد منسوبة اليها كأم، بسبب الأمية وعدم المعرفة بالقانون، كما لا تعرف كيف يمكنها المطالبة بهذا الحق إذا رفض أحد موظفي مكاتب الصحة التسجيل عن طريق الأم لعدم وجود لائحة أو نشرات دورية في مكاتب الصحة تفيد تحديد من له حق الابلاغ عن واقعة الميلاد سوي الزوج أو الأقارب من العصب.

والأمر في حاجة إلي سد الفجوة بين القانون واللائحة التنفيذية، وتدعيم وعي المرأة في المناطق الفقيرة بحقوقها وحقوق أطفالها.

لكن من ناحية أخري تطرح الدراسة اقتراحا بضرورة الأخذ بالإمكانيات العلمية الحديثة لإثبات النسب في هذه الحالات، فإذا كان الطريق الشرعي لإثبات النسب يثبت بالفراش، ويتأكد عليه بقوانين الأحوال الشخصية، فيمكن في حالات الزواج غير الموثق، أو لمن هم دون سن الثامنة عشرة (السن القانونية اللازمة لتوثيق عقود الزواج) يمكن استخدام طريقة البصمة الوراثية لإثبات نسب الطفل الناتج عن هذا الزواج في حالة غياب الأب أو إنكاره لهذا الزواج، لكنها تطرح أسئلة حول ما إذا كان يمكن اعتبار رفض الزوج الخضوع لهذا التحليل قرينة لثبوت النسب أم يترك الأمر للقاضي، وما هو الوضع للأم المدعية إذا ثبت عدم صحة النسب، وهل ستتم معاملة هؤلاء الأطفال أسوة بالأطفال مجهولي النسب ويقيدون بأسماء رباعية غير حقيقية.

هنا يقول المستشار خليل مصطفي خليل رئيس محكمة الأسرة والمستشار القانوني لوزارة الأسرة والسكان: إن النصوص القانونية ليست وحدها التي تكفل وصول الحق إلي صاحبه، فمازالت هناك فجوات بين النص والقانون، وإذا كان القانون يحمي نسب الطفل إلي أبيه فيجب أن يحمي أيضا نسب الطفل إلي غير أمه، والمادة 15 لم تساو بين الأب والأم في استخراج شهادة الميلاد، لأنها لم تساو في القيود الموضوعة أمام كل طرف لممارسة حقه في الإبلاغ عن واقعة الميلاد، ومازال القانون يعاني من قصور يتمثل في عدم تضمنه لما يحول دون نسب طفل إلي غير أمه.

ويلفت المستشار خليل إلي أن الطريق الأفضل لقبول دعوي إثبات النسب، هي أن يبدأ المحامي أولا برفع دعوي إثبات الزوجية، ثم بعدها سيكون إثبات النسب أسهل.

أما د. عادل عاذر أستاذ القانون والخبير في حقوق الإنسان فيري أن حقوق الطفل ليست كيانات منفصلة، بل يرتبط ويتكامل بعضها ببعض، فحق الطفل في الهوية والحصول علي شهادة ميلاد هو الذي يمكنه من الوصول إلي باقي الحقوق التعليمية والصحية والاجتماعية، لكن هناك افتقاد لآلية التنسيق بين الوزارات في تنفيذ السياسات الخاصة بإنفاذ حقوق الأطفال.

 http://www.child-trafficking.info/

 

 

 

 

 

humantraffic

أوقفوا الاتجار بالبشر!

ساحة النقاش

وحدة منع الاتجار بالبشر

humantraffic
وحدة منع الاتجار بالبشر التابعة للمجلس القومي للطفولة والأمومة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

329,217

البنات شايفين إيه

عرض لآراء البنات عن الختان والزواج المبكر