كثيراً ما يدور الحديث حول الأنا وحب الذات الذي يتلبس البعض فيحولهم من شخصيات اعتيادية ينظر إليها الآخرون نظرة تقدير واحترام إلى شخصيات مختلفة كلياً عن تلك التي عرفوها بتواضعها وحسن خلقها إلى شخصيات تتحدث بكلمات يسطرها الآخرون تزرع الاعتقاد لديهم بأن بلاغتها تجاوزت بلاغة المعلقات العشر وتفوقت على إلياذات الإغريق وإن تحدثنا إليهم نجد أنفسنا أمام شخصيات نرجسية تتحدث عن الأنا لتروي قصصاً تحكي مسرحيات تضحك .... فهل ثمة علاقة بين النرجسية والأنا ؟ ... قبل أن نجري مقارنة لابد لنا من وقفة أمام تعريف "النرجسية" إذ أوضحت موسوعة (ويكيبيديا) أن نسبة النرجسية (Narcissism) عائدة إلى نارسيس (Narcisse) وهو فتى يوناني ورد ذكره في الأساطير اليونانية وتقول الأسطورة أن نارسيس كان فتى رائع الجمال ، نظر إلى صورته ذات مرة في ماء البحيرة ، فراعه جماله وشغله عن العالم فعكف على الصورة يتأملها .. وأطلق اسمه بعد ذلك على كل من يركز اهتمامه على ذاته أو يجعل نفسه بقيمها ومشاعرها مركز العالم.
والنرجسية في اللغة العربية تعني "الحب المرضي للذات" ، وتناول علم النفس "النرجسية" كمفهوم يظهر لدى البعض فيصورهم أمام أنفسهم كشخصيات لها من المكانة والتقدير ما ليس لدى الآخرين.
ووصف العالم النفسي الشهير فرويد "النرجسية" في مقال نشر عام 1914م تحت عنوان "مقدمة في النرجسية" أن الشخصية النرجسية تتميز بالتعجرف والنقص في التعاطف مع الآخرين وفرط الحساسية تجاه آراء الآخرين .. فهم لا يستطيعون تقبل آراء الآخرين بأي شكل من الأشكال دون أن يتركوا الآخرين يلاحظون ذلك ، ويسخرون بشكل غير مباشر من آراء واقتراحات الآخرين ، بل ويدعون أنهم يعرفون ما يفكر فيه الآخرين وأنهم ليسوا بحاجة إلى محاضراتهم ... ويبالغ النرجسيون في إنجازاتهم وميزاتهم ومحاسنهم ويتوقعون من الآخرين أن يعترفوا لهم بالجميل بصورة خاصة ، سواء كان هذا الاعتراف مبرراً أم غير مبرر ... ويستحوذ عليهم وهم النجاح والسلطة والتألق ويعتقدون أن وظيفتهم ضبط الأمور تحت سيطرتهم لأنهم على حق والآخرين على خطأ.
النرجسي إنسان يصور نفسه على أنه موسوعة في كل شيء يمتلك شعور بالعظمة وحب الذات فلا يقبل أن تقول له إلا أستاذ دكتور في ..... ومؤرخ وعالم بـ ... ومن أجل ذلك لا يمكن أن يفهمه إلا القليلون جداً من الناس وهنا تتحول شخصية الإنسان من شخصية اعتيادية إلى شخصية تحمل (الأنا). غالباً ما يعاني النرجسيون من الغيرة من الناس الذين يحققون نجاحات أفضل منهم فيسعون لوضع العراقيل في طريقهم وصياغة الكلمات المفبركة كلما أحسوا أن هناك نجاحاً حققه الآخرون وتظهر سخريتهم من آراء الآخرين ويشككون بالنوايا والأهداف.
ويعتبر أخصائيو الطب النفسي مرضى النرجسية على أنهم يعانون من عدم الاستقرار النفسي والقلق واضطراب الشخصية ينفعلون من النقد الموجه لهم ويرفضون سماع الرأي المخالف لرأيهم .. وبذلك فإن علاقتهم مع الناس نراها علاقة مبتورة لا تحمل من التقدير والاحترام والمحبة للآخر ذرة صدق واحدة بهذا يكون النرجسي هو الباحث عن "الأنا" في حركاته وكلماته وأفعاله ! .
إنّ حبّ الذات في الإنسان يختلف تماماً عن حبّ الأنا، لأنّ حبّ الذات غريزة فطرية مغروسة في جميع بني آدم، لكن الأنانية وحبّ الأنا حالة مرضيّة تعتري الأنسان نتيجة ابتلائه برؤية خاضعة للوهم تدفعه إلي تأكيد مبدأ الفردية والتمركز حول الأنانية والنظر إلي الحياة بمنظار المنفعة الخاصّة.
إنّ حبّ الذات حالة طبيعيّة، فالبشريّة كلّها تحبّ ذاتها، هذا لا يعني أن جميع الناس لديهم أنانية، بل الأنانية تعني عدم الاهتمام بشيء سوى محبّة النفس ونيل منفعتها الخاصّة ولو علي حساب الآخرين ... بينما الإنسان السوي يحبّ ذاته ، وفي نفس الوقت يحبّ ويحترم ذات الآخرين ولا يبخل في إرادة الخير لهم ، لأنّه لا يرى في الآخر ندّاً مزاحماً له، بل يرى في الآخر مكملاً له ، ويرى أنّ في مساعدة الآخرين يحصل على أرقى المراتب والمنازل عند الله سبحانه وتعالى.
من فوارق حبّ الذات وحبّ الأنا ، أنّ الذي يحبّ ذاته بعكس الأناني لا ينطلق في بحثه عن الخير والصفات المحمودة من منطلق حبّ التفوّق علي الآخرين وإحراز الغلبة عليهم ، لأنّه يدرك مذمومة طلب العلو في الأرض ويعي قوله تعالي: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص: 83).
وإنما ينطلق غير الأناني نحو الصفات الإيجابية من منطلق حبّ الكمال وحبّ نفس الصفات الإيجابية من دون النظر إلى الآخرين.
سبل التحرّر من الأنانيّة:
إنّ الأنانية والانغمار في الذات هي صورة من صور تدنّي الوعي والبقاء في جهل الذات، ولا يمكن التخلّص منها إلاّ عن طريق المبادرة إلى كشف القناع عن الذات وإدراك حجمه الحقيقي .... وتتطلّب عملية اكتشاف الذات أن يحرّر الإنسان نفسه من جميع المؤثرات السلبية التي من شأنها أن تخلّ في رؤيته إلى ذاته.
وتقوم الشريعة بمهمة تحديد هذه المؤثرات السلبية وتحدّد للإنسان السبيل لتهذيب نفسه وتطهير وجوده من الشوائب التي تحجب بصيرته عن رؤية ذاته ، وتساعده في معرفة السبل العملية لتحرير كيانه من القيود والموانع التي تعترض طريق اكتشافه لذاته ... طريق معرفة الذات مليء بالفخاخ، ولا يستطيع الإنسان اجتيازه إلاّ بعد الاستعانة بالله سبحانه وتعالي والالتزام بما أمره الباري عزّ وجل.
يتمكّن الإنسان بفضل معرفته لذاته أن يعرف المسلكية التي تلائمه من أجل إنشاء الوفاق مع ذاته ومعرفة ما يوفّر له سلامته وصحته النفسية .... وبها أيضاً يتمكّن من صيانة نفسه من الوقوع فريسة تخيّلاته وأحلامه التي تدفعه للمعيشة على هامش الحقيقة .... وبفضل اجتياز العقبات التي تعتري سبيل وصول الإنسان إلي ذاته ، تنكشف الذات أمام صاحبها ، هذا ما يدفعه إلى إصلاحها ، لأنّ الإنسان قد يلبس قناعاً أمام الغير فيوهم نفسه بأنّه على خير، ولكنّه في وحدته مع ذاته لا يستطيع أن يخدع نفسه ، فيخلق هذا الأمر ألماً في نفسه يدفعه إلى البحث عن السبيل لمعالجتها .... من هذا المنطلق يتمكّن الإنسان من إصلاح عيوبه وإزالة نواقصه وإنشاء حالة الوفاق مع ذاته ، وهي الأمور التي بها يصل إلي الرؤية البعيدة عن الهوى والأنانية ، فيصل عندئذ إلى الحدّ الأعلى من الوعي والإدراك للحقيقة.