إن لكل مقام مقال ، وإن للصبر حدود ، وإن لكل أمر دوافع ومؤسسات وحوافز ، وإذا كنت بشراً تغضب عندما ترى أمامك من يحيد عن الحق .. لماذا تنكر هذا على غيرك؟؟
يصف الشافعي رحمه الله الذي لم يغضب تحت تأثير دواعي أغضبته فهو حمار ، وهذا صحيح ، فإن دواعي الغضب الحقيقة يجب أن يغضب لها الإنسان ، وكما قال الشاعر (إذا لله للحرمات لم تغضب ، فأخبرني متى تغضب).
فإن مواقف الغضب ومحفزاته تفرض على المرء أن يغضب لأجل ذلك ، فإن كان المرء لا يغضب لما يجب أن يغضب منه ، ولم تُغرِ محفزات الغضب المرء حتى يغضب ، فقال الشافعي رحمه الله فيه أنه حمار.
وأختار الشافعي رحمه الله وصف الحمار ، لأن الحمار ليس له ردة فعل غاضبة ، مما يدفعنا للشعور بأنه ليس لديه إحساس ولا كرامة ، لا يغضب على خلاف كثير من الحيوانات ، فمعظم الحيوانات لها إحساس وكرامة ، وتغضب ، منها ما ثبت علميا أنه إن وقع في الأسر يموت (كالحجل = الذي يمشي على إحدى رِجْلَيْه رافعًا الأخرى "أخذ الطِّفلُ يحجُل لاعبًا") (الشنار = الأمر المشهورُ بالشُّنْعَةِ والقُبْح) ، ومنها من يحقد على ضاربه (كالجمل) ، ومنها الكثير.
فالحمار لا تثيره مشاعر الغضب ولا محفزاته ، فوصف الشافعي المرء المُستغضب بمحفزات الغضب ومقوماته وما يدعوه لذلك ولم يغضب بالحمار.
أما من أسترضي ولم يرضى فهو شيطان ، الخلاف قد يحصل بين أخوين وصديقين وحميمين ، وزوجين وأبوين ، هذا العمل ليس بغريب ، وظاهرة طبيعية موجودة في كل زمان وكل مكان ، لكن الغريب هو أن يسترضى المرء بمقومات الرضى ، ومحفزاته ، فلا يرضى.
ويروقني أن أذكر في هذا المقام حديث رسول الله (صفات المنافق ثلاث - وفي رواية أربعة - ..... وإذا خاصم فجر) أي خرج عن المألوف في الخصام، حيث أن من النفاق أن تخرج عن المألوف في مخاصمتك أحد الناس ، فالخصام له عدة أوجه ، وفي كل وجه أو نوع هناك الوضع المُعتاد للخصومة ، تبني عليه تصرفاتك مع المُتخاصَم معه ، فالقاتل له مُخاصَمة خاصة ، والسارق له مُخاصَمة مُختلفة ، والشاتم له مُخاصَمة مُختلفة ، والناظر باستهزاء له مُخاصَمة مُختلفة أيضاً ، وهلم جرى ، وتتحدد بين أدنى حد لها وأعلى حد لها ، فإن زادت عن ذلك تكون نفاقاً.
وزاد هذا الوصف الشافعي رحمه الله بقوله للذي أسترضى ولقي محفزات الرضى وما يكرمه للرضى ويحفظ ماء وجهه ولم يرضى فإنه شيطان.
وقد أعجبني تعليق لأحد القراء حينما كتب "هناك توافق كبير فى هذه المقولة ، فهذه المقوله موافقة للكتاب والسنة كما إنها موافقة للحياة "إن الغضب جزئين ... جزء في فطرة الإنسان وطبعه ... وهو الذي يقصده الشافعي ، أما الجزء الثاني فهو ما يترتب على هذا الغضب من فعل ... وهذا الذي جاءت به الحرمة ... وهو الغضب المذموم .... به تعلم قصد الشافعي ، لأنه إذا لم يغضب الإنسان الغضب الأول .. الذي هو في نفسه .. فهذا ينفي عنه صفة الأنسانية وبذلك يصبح مثل الحيوان وهو الحمار الذي متى أخبرته ومتى وجهته لا يغضب ، وعن الإنسان فإنه بهذا الأسلوب يربح شيئاً حقيراً على حساب شيء غال دائم.
هناك آخر كتب "من استغضب وغضب فذلك هو الحمار ، إنما تؤخذ الحقوق بالعقل ويؤخذ العدو بكل وسيلة".
وما أعجبني هو التعليق التالي "الإمام الشافعي قصد الغضب في الحق ومن أجله ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام كرر مراراً على الرجل الذي سأل رسول الله أن يوصيه. قال: "لا تغضب". قال: زدني. قال : "لا تغضب". قال: زدني. قال: "لا تغضب". فقال الرجل: ففكرت في وصية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإذا الشر كله كامن في الغضب، ورأيت الرجل إذا غضب لعِبت به الشياطين.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : "ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" ، فالغضب المحمود هو ما كان عليه رسولنا الكريم من الغضب ... إذا انتهكت حرمات الله تعالى ، والمقصود أن نقتدي برسول الله دون سواه ، والله أعلم.
حدثني أستاذ فاضل أكن له كل محبة واحترام عن كظم الغيظ ، فالإنسان بطبعه يحب الخلطة ويكره العزلة ويفرُ منها ... الإنسان لا يعيش وحده بل يعيش وسط المجتمع .. والإسلام يُقر الإنسان على هذا المبدأ ويدعو إليه ، لكن الذي يخالط الناس لا يسلم من أذاهُم ، لهذا عليه أن يتحلى بمكارم الأخلاق في معاشرته ومخالطته لهم ، أهم من ذلك أن يتعلم أن يكظمَ غيظه ، وكظم الغيظ معناه: دفن ثورة الغضب، فإذا ثارت ثائرة الغضب فعلى الإنسان أن يقتل هذه الثورة وأن يدفنها في نفسه ... هذا هو معنى كظم الغيظ. النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم".
إسلامُنا يدعونا إلى أن نخالط الناس وأن نعاشرهم وإلى أن نحافظ على هذه العِشرة ولا نفرط فيها بسهوله، فلا نغضب على شخص إذا قال فينا قولاً، ولا نغضب على شخصٍ إذا أذانا بفعل، بل نتذرع ونتجمل بالصبر فإن الله تبارك وتعالى جعل كظم الغيظ من صفات المُتقين أهل الجنة ، فمن كظم غيظًاً وهو قادر على أن يُنفِذه دعاه الله على رؤوس الخلائقِ يوم القيامة حتى يُخيره من الحور العين ما شاء "من كظم غيظًاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ، يزوجه منها ما شاء".وطن نفسك عل الصبر وكظم الغيظ ، ولا ترد ، وكن كما قال الله تبارك وتعالى: "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا"."الفرقان": (63). وقال تعالى:"وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ"."القصص": (55). (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) . آل عمران (134).