شغلت بغداد مركز الحضارة الإسلامية اعتباراً من بدايات القرن الثاني الهجري, فالخلفاء العباسيين اعتنوا بالناحية الفكرية إلى جانب اعتنائهم بالدفاع عن حدود الخلافة العباسية, ونتيجة لهذا الاعتناء فقد وجدت في نهاية النصف الأول من القرن(7هـ) تراثاً فكرياً لا تكاد حضارة من الحضارات أن تضاهيه, غير أن هذا التراث الفكري قد تعرض إلى هجمة بربرية كادت أن تقضي عليه لولا ما وجد من علماء قد اعتنوا به في الأمصار الأخرى مثل مصر وبلاد الشام والحجاز, وإلى هذه الأمصار الثلاث يعود الفضل ليس إلى إحياء هذا التراث فحسب بل الإبداع فيه أيضاً. فالمراكز العلمية التي انتشرت في كافة أرجاء الشام ومصر, وساعدت على نبوغ الكثير من العلماء الذين وجدوا في تشجيع السلاطين والأمراء والقادة وعامة الناس مما يساعدهم على النهوض بهذا التراث وتوثيقه, والعمل بكل شكل من الأشكال على إعادة صياغته وتوثيقه. إن ما تركه العصر العباسي من تراث حضاري لايتمثل فقط في العمائر التي بنيت في العواصم الإسلامية، في كل الأمصار, والتي ما زالت آثارها باقية حتى اليوم, بل تتمثل أيضاً فيما خلفه علماء وأدباء تلك الحقبة من مؤلفات ما زالت إلى اليوم تعد من أهم مصادر البحوث والدراسات الإسلامية في شتى ألوان الفكر والثقافة.

المقومات[عدل]

ولعل السؤال الذي يطرح نفسه: ماهي المقومات التي أسهمت في مسيرة الحياة الفكرية بكافة فروعها في هذا العصر؟ وللإجابة على هذا السؤال لابد من التركيز بداية على الوسيلة التي كان يتم من خلالها التعبير عن هذا الفكر الحضاري.نبدأ بأهمها وهی اللغة العربیة

اللغة العربية[عدل]

وهي العامل الرئيسي في تقدم فكرنا الحضاري والتراثي, وعلى الرغم مما أصاب الحضارة الإسلامية من كوارث عسكرية, فإن اللغة بقيت العامل الأساسي مع الدين اللذان بقيا يجمعان المسلمين في آلامهم وآمالهم, وهذا ما أكدت عليه الدراسات المعاصرة من أن اللغة تكون روح الأمة وحياتها, فاللغة هي: الثقافة, والحضارة, والأفكار, والآمال مجسدة بذاتها وهكذا يعيشها العرب والمسلمون, وقد حظيت اللغة العربية وآدابها بمنزلة خاصة في العصر العباسي, حيث كان من بر الخلفاء بالعربية أن رفعوا من شأن ديوان الإنشاء, وحافظوا على العربية بجعلها اللغة الرسمية, فعاشت في كنفهم آمنة هانئة. وهكذا يتضح مما تقدم: أن اللغة العربية بمرونتها واتساع مدلولاتها, وكثرة مصطلحاتها, ودقة ألفاظها التي استوعبت مفردات العلوم والمعرفة, وهذا لكونها لغة القرآن الكريم وعمادها وحاميها من الضياع, حيث كانت هي الرابط الأساسي بين أفراد المجتمع الإسلامي وثقافته وحضارته. .

العلماء[عدل]

يقف الدارس للعصر العباسي أمام كم هائل من النتاج الفكري في شتى علوم المعرفة, وهذا يدلنا وبشكل واضح أن تلك الحقبة شهدت ازدهاراً علمياً واضحاً من خلال تشجيع السلاطين للعلماء من ناحية, وإيجاد مؤسسات علمية على اختلاف تسميتها من ناحية أخرى, وبالطبع فإن الإسهام العظيم الذي قامت به تلك المؤسسات ترك أثراً فعالاً في تنشيط العلوم العقلية, كالطب, والرياضيات, والفلك... الخ. فماهو النشاط الذي قام به هؤلاء العلماء, وما هي سمة العلاقات التي كانت سائدة بينهم, وما موقفهم من بعض الإجراءات التي اتخذها أصحاب السلطة؟؟ وهل كان لهؤلاء العلماء مواقف حاسمة تجاه الأفكار التي كانت تطرح من خلال الحلقات العلمية التي تشهدها المساجد والمدارس؟؟ يمكن القول: أن الدين الإسلامي قد أفرد مكانة للعلم والمتعلم, وأعطى العالم منزلة لا تضاهيها منزلة إلا الأنبياء الذين ورثوا علمهم للعلماء, ولأن العلم كان هدفاً يسعى إليه ويرتحل في طلبه, فقد أمدتنا مصادر هذا العصر بأخبار العديد من العلماء الذين ارتحلوا من بلد إلى آخر طلباً للعلم والمعرفة, ومن هؤلاء العلماء الذين جابوا البلاد الشامية والحجازية والمصرية, والذين يشار إليهم بالبنان, تقي الدين المقريزي المتوفى سنة (845هـ/1441م), ترجم له السخاوي ترجمة مطولة, وذكر أنه أخذ من شيوخ الشام ومصر والحجاز. وهناك من استقر من المغاربة في القدس الشريف, وأخذوا عن علمائها واستوطنوا واتخذوا لأنفسهم حارة, وبنوا زاوية أوقفوها للفقراء, ويحدد لنا صاحب الأنس الجليل موقع هذه الحارة بقوله: ((إنها تقع بجوار المسجد الأقصى من جهة الغرب, ونسبت للمغاربة كونها موقوفة عليهم ويسكنون بها))، وقد أحسن أهل دمشق إلى المغاربة الذين كانوا يحسنون الظن بهم ويطمئنون إليهم بالأموال والأهلين والأولاد. وقد أفرد المقري الجزء الثاني والثالث من كتابه "نفح الطيب" للعلماء الذين هاجروا من الشام إلى المغرب, والعلماء الذين هاجروا من المغرب إلى بلاد الشام واستوطنوا فيها وأخذوا العلم عن شيوخها. وربما يعود ذلك الاستقرار للمكانة الدينية التي تمتعت بها كل من الحجاز وبلاد الشام, فبيت المقدس كان محط أنظار كل المسلمين الذين تهفوا قلوبهم لزيارته, والحجاز مرام كل مسلم يسعى لأداء فريضة الحج أو العمرة, إضافة إلى المجاورة, وقد عرفت هذه البلاد مراكز علمية متعددة في دمشق وحلب, والقدس, وطرابلس, وبيروت, لهذا ارتحل طالبوا العلم ينشدون علماء هذه الأقطار. ولم يقتصر إسهام العلماء في النهوض بالحياة العلمية فقط, يقول د. محمد كمال الدين: ((وطد العلماء لأنفسهم منزلة سامية في نفوس الحكام والمحكومين في مجتمعهم على حد سواء, استناداً لما للعاطفية الدينية من أثر جياش في نفوس هؤلاء وهؤلاء)). ومما تقدم يستدل على أن النشاط الذي قام به العلماء في ذلك العصر كانت له نتائج واضحة في نواحي الحياة المختلفة, وبشكل خاص على الحياة الفكرية, فقد أسهمت الآراء والمناقشات التي كانت تجري بين العلماء في استمرارية النشاط العلمي, الذي كان سائداً في ذلك العصر. وبالرغم مما كان يدور من مناقشات علمية بين بعض العلماء التي كانت تفضي في نهاية المناقشة إلى وجود نوع من الحساسية لبعض الوقت, إلا أن هذا العصر تميز بكثرة العلماء التي كانت تسود فيما بينهم علاقات ودية تربطهم بأواصر الصداقة والمحبة, ولا أكون مبالغاً إذا قلت أن هذا الود لم يتوقف عند علاقة العالم بالعلم, بل ذهب إلى أبعد من ذلك حيث يقوم العالم برعاية أطفال زميل له بعد وفاته, وهذا يعطينا صورة واضحة عن طبيعة العلاقات التي كانت قائمة بين العلماء في ذلك العصر, حيث نجد بعض العلماء الذي أصبح لهم شهرة واسعة، وباع طويل في العلم، قد نشؤوا في كنف علماء لا يمتون لهم بقربى, إلا أن وفاء العالم للعالم, وديننا الحنيف, وما جبلت عليه نفوس المسلمين من التراحم والود, وما حظي به العلماء بين بعضهم البعض من احترام وتقدير دفعهم لهذا الفعل, وقد ترجم لنا السخاوي ترجمة مطولة لشيخه ابن حجر العسقلاني فقال: ((... ولد في ثاني شهر شعبان سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة, بمصر العتيقة, ونشأ بها يتيماً في كنف أحد أوصيائه الزكي الخروبي, فحفظ القرآن وهو ابن تسع عند الصدر السفطي, شارح مختصر التبريزي, وصلى به على العادة بمكة حيث كان مع وصية بها... وبعد بلوغه لازم أحد أوصيائه الشمس بن القطان في الفقه والعربية والحساب وغيرها)). ومما تقدم نخلص إلى القول: أن النشاط العلمي الذي قام به العلماء في مختلف العلوم والإسهام الفكري الذي قدموه, وما كان يدور بينهم من مسائل علمية, وما حظوا به من تشجيع الخلفاء والأمراء, كان مظهراً من المظاهر التي ساعدت على ازدهار الحياة العلمية, وبناء المؤسسات ما كان لها أن تؤدي رسالتها لولا وجود هؤلاء الأعلام, التي قدمت الكثير في ميادين العلم والمعرفة, والتي لا يزال حتى اليوم ننهل من هذا المعين الثري, بين تحقيق واستنباط, وحجج علمية نستند إليها عند طرح أي مسألة فكرية تاركين خلفنا تلك الآراء التي تتهم هذا العصر بأنه عصر لم يقدم إلا القديم, ولو نظرنا نظرة موضوعية إلى هذا العصر لكان محتماً علينا أن ننصفه أمام هذا النتاج العلمي الضخم.

المساجد والجوامع[عدل]

يعود للعلماء الفضل الكبير فيما وصل إلينا من مصنفات في مختلف ضروب المعرفة, وهؤلاء اتخذوا من المسجد مكاناً ومنبراً لهم يبثون من خلاله العلوم الدينية والأدبية, والعقلية, ولو نظرنا إلى العالم الإسلامي لوجدنا أنه ما من مدينة تخلو من مسجد جامع يتلقى فيه أبناء المدينة العلوم النظرية, ولا تزال هذه الظاهرة موجودة إلى يومنا هذا على الرغم من وجود الجامعات المتخصصة في العلوم النظرية, ويأتي الاهتمام بالمسجد من الناحية الدينية بالدرجة الأولى وما يقوم به من دور علمي واجتماعي بالدرجة الثانية, حيث اهتم الخلفاء العباسيين ببناء المساجد والجوامع وأولوها رعايتهم وأنفقوا في سبيل ذلك الكثير من الأموال, فما أسهمت به تلك الجوامع والمساجد كان له أثر عميق في إنجاب مجموعات متعددة وأعداد كثيرة من الأجيال العلمية التي برزت في ميادين مختلفة من العلوم، فلم تقتصر مهمة الجامع على الخطبة, وصلاة الجماعة, وقراءة القرآن, بل تعدته إلى أبعد من ذلك, فأصبح قبلة لكل طالب علم, ومأوى لكل رحالة ينشد هذا الهدف, ولهذا أوقف الخلفاء والأمراء والتجار, وأصحاب الخير الكثير من الأوقاف على تلك المساجد لخدمة طلبة العلم الذين يترددون إلى هذه الحلقة العلمية أو تلك، ولم تقتصر هذه الأوقاف على المساجد, بل أوقفت أيضاً على الخانقاهات، والربط, والزوايا, وكتاتيب تعليم الصغار. والمسجد شرعاً: كل موضع من الأرض لقوله(r): ((جعلت لي الأرض مسجداً))، وهذا من خصائص هذه الأمة, قال القاضي عياض: ((لأن من كان قبلنا كانوا لا يصلون إلا في موضع يتيقنون من طهارته, ونحن خصصنا بجواز الصلاة في جميع الأرض إلا ما تيقنا من نجاسته)). لقد أدى المسجد ولا زال حتى اليوم رسالة علمية منذ إنشائه, فكان النبي(r) يجلس في المسجد ويتحلق المسلمون من حوله متلقين العلم منه, ونهج الصحابة والتابعون نهجه فجلسوا في المساجد مجالس العلم, سواء في المدينة أم في سائر الأمصار التي فتحوها, وأقاموا فيها الجوامع والمساجد, فكان المسجد بذلك أسبق المراكز العلمية حيث أدى هذه الوظيفة قبل ظهور المدرسة. وحظي المسجد في العصر الخلفاء العباسيين باهتمام السلاطين والأمراء وعامة الناس بمختلف فئاتهم, فشهد هذا العصر حركة عمرانية للمساجد ما تزال آثارها باقية حتى يومنا هذا, وكان الكثير من الخلفاء العباسيين والأمراء ينزلون إلى هذه المساجد لمشاركة العلماء حلقاتهم العلمية. فقد أفرد المقريزي في خططه, والسيوطي في حسن المحاضرة, وكردعلي في خطط الشام, قوائم بأسماء المساجد في كل من مصر والشام بأقاليمه المتعددة, حيث برز من هذه المساجد في مصر الأزهر, وجامع أحمد بن طولون, وجامع عمرو بن العاص, مساجد أخرى.

الكتاتيب والمدارس[عدل]

الكتاتيب[عدل]

على الرغم من أن المسجد هو المؤسسة الدينية والعلمية الأولى في الإسلام إلا إن المسجد لم يعد يستوعب جميع طلبة العلم بمختلف أعمارهم, ولأن الطفل لا يدرك إدراكاً تاماً آداب المسجد وحرماته, أنشأ إلى جانبه مؤسسة علمية لا تقل أهمية عن باقي المؤسسات الأخرى ذات الاختصاص, وهذه المؤسسة هي الكتاب الذي كان له إسهاماً فعالاً في إنشاء الطفل وتربيته خلقياً وعلمياً, فما هي الواجبات والشروط والأنظمة التي كانت متبعة في قبول هذا الطفل وتعليمه وتنشأته؟ وماهي الشروط التي يجب أن تتوافر في مؤدب الأطفال ومعلمهم؟ عُد المسجد النواة الأولى للمدرسة في حضارتنا, وأنشأ إلى جانبه الكتاب, وخصص لتعليم القراءة والكتابة بالقرآن, وشيئاً من علوم العربية والرياضيات, وكان الكتاب يشبه المدرسة الابتدائية في عصرنا, وكان من الاتساع بحيث يضم أعداداً كبيرة من الطلاب. ويمكن أن نميز ثلاثة أنواع من الكتاتيب ظهرت في هذا العصر والتي كانت تستوعب اليتامى من الأطفال وأبناء الجند, حيث اعتنى المماليك بهذا النظام التعليمي وأدركوا أهميته, وهذا ما أشار إليه بعض المختصين بتاريخ هذه الحقبة مشيرين إلى ثلاثة أنوع من الكتاتيب ظهرت في تلك الحقبة وهي: - كتاتيب أولية: يتعلم فيها الأطفال القراءة والكتابة, ويحفظون القرآن, ومبادئ الدين, وأوليات الحساب. - كتاتيب قانونية: كانت تعلم الأطفال والشباب علوم اللغة والآداب, وكانوا يتوسعون فيها بعلوم الدين والحديث وسائر صنوف العلوم الأخرى بصورة عامة. - كتاتيب الأيتام: وكان الغرض من إنشائها تعليم الأيتام وأبناء الفقراء, وأبناء الجند, وقد وفر هذا النوع من التعليم الرعاية العلمية والاجتماعية لأبناء هذه الفئة الفقيرة من المجتمع, بحيث حظي أبناؤها بما يحظى به أبناء الطبقات الغنية من الرعاية والتعليم. وكان يراعى في اختيار مكان الكتاتيب أن يكون متسعاً طلق الهواء يساعد الصبية على الإقبال على الدرس، ويجب أن يكون وجود الكتاب في أمكنة عامة من ناحية شرعية واجتماعية وخلقية. وكان يشترط فيمن يتولى منصب معلم الصبيان ومؤدبهم, كما يقول ابن طولون: ((ينبغي أن يكون صحيح العقيدة, فلقد نشأ صبيان كثيرون عقيدتهم فاسدة, لأن فقيههم كان كذلك, ومن حق معلم الصغار ألا يعلمهم شيئاً قبل القرآن, ثم بعده حديث النبي صلى الله عليه وسلم, وعليه تمكين الصبي المميز من كتابة القرآن في اللوح, وحمل المصحف وهو محدث)). ويقدم لنا أبن الأخوة صورة واضحة عما يجب أن يتوفر في مؤدب الصبيان من شروط, ويبين ذلك بشكل جلي يدلل على مدى اهتمام المماليك بالجيل الناشئ وحرصهم على تربيته وتعليمه أشد الحرص, فقال: ((يجب أن يكون من أهل الصلاح والعفة والأمانة, حافظاً للكتاب العزيز, حسن الخط, يدري الحساب, والأولى أن يكون متزوجاً, ولا يفسح لعازب أن يفتح مكتباً للتعليم إلا أن يكون شيخاً كبيراً, وقد اشتهر بالدين والخير, ومع ذلك لا يؤذن بالتعليم إلا بتزكية مرضية, وثبوت أهليته لذلك, بمعرفة الحروف وضبطها بالشكل, ويدرجه بذلك حتى يألفه طبعاً, ثم يعرفه عقائد السنن, ثم أصول الحساب, ومايستحسن من المراسلات, ومن كان عمره سبع سنين أمره بالصلاة في جماعة, لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: علموا صبيانكم الصلاة لسبع وأضربوهم على تركها لعشر, ويأمرهم ببر الوالدين, والانقياد لأمرها بالسمع والطاعة, والسلام عليهما, وتقبيل أياديهما عند الدخول إليهما, ويضربهم على إساءة الأدب, والفحش من الكلام, وغير ذلك من الأفعال الخارجة عن قانون الشرع)). وينبغي للمؤدب ألا يستخدم أحد الصبيان في حوائجه, وأشغاله التي فيها عار على آبائهم, كنقل التراب والزبل, وحمل الحجارة وغير ذلك, ولا يرسله إلى داره وهي خالية لئلا تتطرق إليه التهمة, ولا يرسل صبياً مع امرأة لكتب كتاب ولا غير ذلك, وأن يكون السائق لهم أميناً ثقة متأهلاً لأنه يتسلم الصبيان في الغدو والرواح, ويتفرد بهم في الأماكن الخالية, ويدخل على الصبيان بيوتهم)). وقد خرجت الكتاتيب أعداد كبيرة من الأعلام الذين كان لهم أثر واضح في تراث العصر العباسي. وحدد المدى الزمني للدراسة في الكتاتيب من طلوع الشمس حتى العصر يومياً, مع استثناء يومي الثلاثاء والخميس أو أيهما مع جعل الجمعة عطلة رسمية، وللترويح عن الصبيان سمح لهم بالانصراف إلى بيوتهم في أوقات محددة تتخلل ساعات الدراسة اليومية للاستراحة والغداء, لأنه لم يكن مسموحاً لهم إحضار الأموال أو الأطعمة إلى الكتاب, مراعاة للفقير... وهذا مبدأ اجتماعي فيه درء جملة من المفاسد, إلى جانب مراعاة آداب الشريعة في التحرز من الأكل على الطريق, وفي الأسواق بحضرة من لايعرف. هذه هي الملامح العامة للحياة العلمية التي سادت في تلك الكتاتيب, والتي خرجت الكثير من الأعلام العظام، لقد أخذت هذه الكتاتيب على عاتقها تنشأة الصبي تنشأة علمية مراعية في ذلك صقل شخصيته, ومواهبه العلمية، فكثير من هؤلاء العلماء تبؤوا المناصب العلمية والإدارية العليا في العصر المملوكي وخلفوا لنا آثاراً فكرية لا نزال ننهل من معينها، بالدراسة والتحقيق والاستنتاج, ولم تنضب هذه الينابيع على مر العصور والأزمنة, وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على الإسهام الرئيس الذي أسهمت به تلك الكتاتيب, والتي ظهر أثرها واضحاً في فكر هؤلاء الأعلام الذين انتقلوا بالدرس إلى مرحلة أعلى, ألا وهي التعلم العالي في المدارس والمساجد التي أصبحت بدورها من المؤسسات الهامة في نهوض الحياة الفكرية في ذلك العصر.

المدارس[عدل]

شكلت المدارس منبراً آخر من منابر العلم التي شهدتها العراق ومصر والشام, والتي كان لها الإسهام الفعال في رعاية تلك الأجيال التي انتقلت من مرحلة الكتاتيب إلى مرحلة تعليمية أعلى أسهم فيها العلماء بتنمية الفكر التربوي والعلمي لدى هذه النخبة التي حملت فيما بعد شعلة العلم, وأخذت ترسل شعاعها العلمي في كل مكان تحط فيه أو ترحل إليه. والمدارس مما أحدث في الإسلام ولم تكن تعرف في زمن الصحابة ولا التابعين, وأول من حفظ عنه أنه بنى مدرسة أهل نيسابور, فبنيت بها المدرسة البيهقية, وبنى بها أيضاً الأمير نصر بن سبكتكين مدرسة, وبنى بها أخو السلطان محمود بن سبكتكين مدرسة, وبنى بها أيضاً المدرسة السعيدية، وأشهر مابني المدرسة النظامية ببغداد؛ لأنها أول مدرسة قرر بها للفقهاء معاليم, وهي منسوبة إلى الوزير نظام الملك الحسن بن علي الطوسي. وإذا ما أمعنا النظر في تحديد دقيق لاصطلاح المدرسة فإنه يمكن أن يجمل تلك الأماكن التي أسست لنشر نوع خاص من المعرفة, تمت تحت إشراف الدولة التي تنفق عليها الأموال, وتحبس عليها الأوقاف, تراقب التعليم فيها, وتعهد لفئة صالحة من الناس وهم المعلمون ليدرسوا المتعلمين ويثقفوهم, ويختارون حسب لوائح خاصة يضع الواقف فيها شروطه وتقدم لهم الجرايات والأرزاق, ويجاز فيها المتعلمون بما تعلموا من ضروب المعارف النقلية والعقلية، والمدرسة كفكرة ذات هدف معين، ونظام خاص، كان لها في خدمة التعليم الإسلامي إسهام بارز له مميزاته وخصائصه. وقد شهد العصر العباسي على امتداده، حركة نشطة في بناء المدارس, ويمكن تعليل ذلك: إلى التراث الذي تراكم في مكتبات بغداد ومدارسها. ومن المهم هنا أن نميز بين المدارس في هذا العصر, فمنها: مدارس دينية ضمت دور القرآن, ودور الحديث والتصوف, بما يضمه من خوانق وربط وزوايا. مدارس دنيوية شملت مختلف أنواع العلوم الكونية, وهي علوم الطب, والهندسة, والتقويم، وعلم الحيوان, والنبات والرياضيات, والفلك... الخ. فقد أدى التطور الحتمي للعلوم, والحاجة الماسة إلى هذه العلوم إضافة إلى ما كان يهدف أصحاب الخير من تقرب إلى الله, أنهم أوقفوا أمكنة خاصة لتعليم العلوم الدينية, وبشكل خاص الحديث والفقه بمذاهبه الأربعة, وأطلقوا على هذه الأمكنة اسم دار, ويمكن أن نستنتج من هذه التسمية أن تلك الدار لم تكن تؤدي هدفاً علمياً فحسب, بل كانت تؤدي هدفاً اجتماعياً إلى جانب الهدف العلمي. وقد أفردت المصادر والمراجع المعاصرة رصداً بيلوغرافياً لتلك الدور بمختلف اتجاهاتها المذهبية. وإلى جانب ذلك انتشرت الزوايا والربط, والخانقاهات, ومن المعروف أن هذه المؤسسات كان لها أهدافاً خيرية, إضافة إلى أنها كانت ملجأ للصوفية وللمجاهدين يقيمون في ربط يحمون حدود الدولة الإسلامية, ومن الملاحظ أن هذه الأمكنة على الرغم من تعداد تسمياتها فإنها كانت تؤدي عملاً واحداً متشابهاً, مع تفرد الربط بعملها الجهادي, علماً إذا أمعنا النظر في المهام المنوطة بالزوايا والخانقاهات نجد أنهما كانتا تقومان بتهيئة هؤلاء للجهاد. وخانكاه: بيت, مسكن الدراويش والمرشدين, حيث يجرون فيه مراسم تصوفهم، ويذهب كردعلي إلى أن الخانقاه كلمة فارسية الأصل تعني: الموضع الذي يأكل فيه الملك, وأصلها "خونكاه", كما ذكر أن أول الخوانك حدثت في الإسلام في حدود سنة(400هـ), وجعلت للتفرغ الصوفية فيها لعبادة الله. وقد أوضح لنا المقريزي ماهية الرباط, والمهام المنوطة بأصحابه ومن خلاله يمكن أن نحدد معناه لغةً واصطلاحاً, فالربط: جمعُ رباط, وهو دار يسكنها أهل طريق الله. والرباط لغةً: ما تربط فيه الخيل, ثم قيل لكل ثغرٍ يدفع أهله عمن ورائهم رباط, فالمرابط يدفع عمن وراءه, والمقيم في الرباط على طاعة الله يدفع بدعائه البلاء عن العباد والبلاد. فالرباط بيت الصوفية ومنزلهم, ولكل قوم دار, والرباط دارهم، والزوايا كالخانقاهات والرباطات إلا أنها لا تقام فيها الأذكار, وقد كثرت الطرق والمشايخ المعتقدين, وذلك بعد القرن(6هـ). ولم تكن تلك المؤسسات الوحيدة المسؤولة عن بث شعاع العلم والمعرفة في العلوم النظرية, وبشكل خاص الدينية, بل يمكن أن نضيف إليها أيضاً منازل العلماء, أو ما يعرف بدور العلماء, فلقد آثر هؤلاء أن يجعلوا من بيوتهم منابر للعلم يبثون منها ضروب المعرفة, حيث نجدهم قد حولوا بيوتهم إلى مؤسسات علمية تربوية اجتماعية, وبذلك كانت منازل العلماء في ذلك العصر رافداً أساسياً لمؤسسات العلم, وكانت تُحاط بالتقدير والاحترام، والمحافظة على الآداب العامة فيها, مثل حُرمة البيت, واختيار الوقت المناسب في الذهاب إلى بيت العالم, وهذا ما أكد عليه ابن الحاج في بيان ذلك, حيث أورد: ((أن على العالم صاحب البيت أن يتلقاهم ببشاشة الوجه وحسنُ التلقي, إذ أن البيت محل انقباضهم بخلاف المسجد, ومن الآداب أيضاً أن يكون موضع الدرس في البيت بحيث لا يسمع فيه لأهل البيت حسٌ ولا كلام خيفة ما يترتب على ذلك من المفاسد التي لا يشعر بها, ومن آدابها أيضاً أن يكون الوقت معلوماً لأنه إن لم يكن معلوماً وقع به الضرر بمن يأتي إليه)). وقد كان للتعليم في المنازل بعض الفوائد حيث أتاح الفرصة أمام الطلبة لدراسة علوم قد لا تدرس في المدارس: كالرياضيات، والفلسفة, والمنطق, وتميز هذا النوع من التعليم بحرية أكثر عن الدراسة في المدارس, نظراً لأن الطالب يختار له العلوم التي تناسبه, كذلك كان يختار المدرس أو المؤدب ذا الشهرة العلمية والخلقية, كما أنها غير مقيدة بالإقامة في المدارس والتردد عليها في أوقات معينة للدراسة. ولقد انتشرت هذه المدارس بشكل واسع يذاكرون فيها أصناف العلوم, وكانت هذه المناظرات والبحوث توفر فرص عديدة للنمو الثقافي, واحتكاك الأفكار, وتبادل الآراء, ويشكل هذا تعليم مفتوح يقوم على مراعاة المواهب وتنوع القدرات, ويسهل طريقه للقلوب والعقول معاً. ويتضح مما تقدم أن تلك المؤسسات العلمية التي درست العلوم النظرية والدينية, أسست لمرحلة جديدة من التطور العلمي, وإعادة بناء الشخصية العلمية الإسلامية التي دعمها الخلفاء العباسيين بمختلف السبل والوسائل طوال حقبة حكمهم, بحيث نستطيع القول بحق أنهم استطاعوا أن يجددوا ويطوروا الحضاري الإسلامي. هذا على صعيد المؤسسات الدينية, أما على صعيد المؤسسات العلمية الدنيوية فلم تكن جهودهم أقل شأناً بما قدموه وأسهموا به من تطور وحفظ للعلوم فقد ظهرت مؤسسات جمعت بين العلوم النظرية العلمية وتطبيقاتها العملية, وأعني بذلك البيمارستان الذي كان له أثر واضح في حضارتنا الإسلامية ومجتمعاتها المتمدنة. فالبيمارستان كان تجمع معاجم اللغة والكتب التراثية وهي: كلمة فارسية الأصل, فالبيمارسْتان: كلمة فارسية مركبة من كلمتين (بيمار) بمعنى: مريض, أوعليل, أو مصاب، و(ستان) بمعنى: مكان أو دار. فهي إذاً دار المرضى, ثم اختصرت في الاستعمال فصارت (مارستان), وفي المعجم الذهبي بيمارستان : مستشفى. أما مدلول كلمة "بيمارستان" الإصلاحي: فقد استخدم للدلالة على التطبيب، وفي الدولة الإسلامية ومنذ العصر الأموي تم تأسيس أول بناء مارستاني ذي نظام طبي وإداري مستقلين في سنة(88هـ/706م) وفي القرن التاسع عشر, تحول مدلول هذه الكلمة تدريجياً ليقتصر على دور (الحجر على المجانين والمعتوهين) بعد ظهور أول مستشفى على النظام الحديث بالقاهرة عام (1240هـ/1825م), وهو مستشفى أبي زعبل. وكان البيمارستان مثالاً للجانب الأخلاقي والإنساني والحياتي الذي ينطوي عليه الإسلام, وكذلك شمول الثقافات الطبية الإسلامية على الناحيتين النظرية والعلمية, أما بالنسبة لدورها وعملها فقد جمعت البيمارستانات في بين المستشفيات الأوروبية والبيزنطية في العصور الوسطى. وكانت (الباسيلياس) التي أسسها القديس باسيل في قيصرية في النصف الثاني من القرن الرابع هي أول مستشفى متطور ومتخصص نعرفه, ثم توالى بعد ذلك إنشاء المستشفيات, ويُنسب إلى الخليفة الوليد تأسيس أول مستشفى سنة(88هـ/706م) وبعد ذلك توالى بناء المستشفيات على يد ابن طولون في القاهرة عام(291هـ/903م), ودعم صلاح الدين اثنين من البيمارستانات في مصر. ولقد أهتم السلاطين والأمراء العباسيين, وأصحاب النفوذ والتجار ببناء مؤسسات علمية مثل (البيمارستانات) التي خرّجت الكثير من جهابذة الأطباء الذين تركوا لنا تراثاً حضارياً أسهم في بناء الحضارة الإسلامية في العصر المملوكي, وقد ذكر المقريزي في خططه أسماءً لبيمارستانات انتشرت على أرض مصر باد بعضها وبقي البعض الآخر إلى عصر المقريزي وهي: مارستان ابن طولون, ومارستان كافور, ومارستان المفاخر, والمارستان الكبير المنصوري, والمارستان المؤيدي. والبيمارستان الكبير النوري بناه الملك العادل نور الدين محمود زنكي في دمشق وهو من أحسن ما بني من البيمارستانات بالبلاد, وشرطه كان وقفاً على الفقراء والمساكين, ولم يوجد بعض الأدوية إلا فيه فلا يمنع منه الأغنياء. ومن البيمارستانات التي ذكرت في بلاد الشام: "البيمارستان النوري" أو العتيق بحلب, بناه الملك العادل نور الدين محمود زنكي بحلب داخل باب إنطاكية بالقرب من سوق الهوا في محلة الجلوم الكبرى. و"بيمارستان البريد" وباب البريد اسم لأحد أبواب جامع دمشق وهو الغربي, و"بيمارستان حماه" و"بيمارستان القدس" الذي أمر بتشييد أسواره صلاح الدين, وكان بالقدس في حارة تسمى بالدباغة. و"بيمارستان عكا", و"بيمارستان صفد", و"بيمارستان الصالحية" أوالقيمري الذي أنشأه الأمير الكبير سيف الدين أبو الحسن علي بن يوسف بن أبي الفوارس بن موسى القيمري الكندي. و"بيمارستان غزة" الذي عمرّه علم الدين سنجر الجاولي بأمر من المالك الناصر محمد بن قلاوون, و"بيمارستان الكرك" الذي أنشأه علم الدين سنجر الجاولي سنة(653هـ/1255م), إضافة إلى بيمارستانات أخرى بنيت في بلاد الشام. وقد تنوعت البيمارستانات بين الثابت والمتنقل في العصور الإسلامية, فالبيمارستان الثابت: وهو ما كان ثابتاً في جهةٍ من الجهات لاينتقل منها, وهذا النوع من البيمارستانات كان كثير الوجود في البلاد الإسلامية لاسيما في العواصم الكبرى كدمشق، والقاهرة, وبغداد, ولا تزال آثارها باقية حتى اليوم, كالبيمارستان النوري الكبير بدمشق. أما البيمارستان المحمول: فهو الذي ينقل من مكان إلى آخر بحسب ظروف الأمراض والأوبئة وانتشارها وفي الحروب، وقد كان هذا النوع من البيمارستانات معروفاً لدى الخلفاء والأمراء وملوكهم وسلاطينهم, وأطبائهم, ومن الراجح أن يكون العرب هم أول من أنشأه, وتؤكد الدراسات الحديثة أنها من ابتكار العرب, ويعود الفضل فيها إلى علي بن عيسى الجراح, وزير المقتدر بالله العباسي. والبيمارستان عبارة عن مستشفى مجهز بجميع ما يلزم للمرضى للمداواة من أدوات وأدوية وأطعمة, وأشربة, وملابس, وأطباء, وصيادلة, وكل ما يعين على ترفيه الحال على المرضى والعجزة, ينتقل من بلد إلى آخر من البلدان الخالية من البيمارستانات الثابتة. ومن البيمارستانات المتنقلة "بيمارستان الجيش", و"بيمارستان السبيل": الذي كان يرافق القوافل, مثل قوافل الحج, ومنها: "البيمارستانات المحمولة": التي كانت تعالج المرضى في الأماكن المنقطعة و"بيمارستانات الإسعاف": التي تقام في مناسبات التجمعات العامة, مثل صلاة الجمعة, والأعياد, والمواسم, ويعود الفضل في إنشاء هذا النوع إلى الأمير أحمد بن طولون, ويمكن أن يضاف إليها "بيمارستان العزل": وهي بيمارستانات دور المجانين, ودور الزمنى المخصصة لذوي العاهات وبخاصة المجذومين. ويمكن أن يستدل من الغرض السابق للبيمارستانات بأنواعها المختلفة أنها كانت مركزاً من مراكز التعليم الطبي والصيدلي, وما كان لهم أن يعرفوا تلك الأنواع من البيمارستانات لولا معرفتهم بتخصصات متعددة من العلوم الطبية. أما عالم الصيدلة: فكان يُدرس كعلم متصل بالطب, فلا يمكن لطبيب متمكن من دراسة الطب أن يستغني عن علم الصيدلة, وذلك لأن الصيدلة جزء لا يتجزأ من علم الطب, فالطب يُشخص وعلم الصيدلة يعالج, لذلك فالعلمان مرتبطان ببعضهما, فالصيدلة هي: ((علم يبحث عن التمييز بين النباتات المتشابهة في الشكل ومعرفة منابتها, بأنها صينية, أو هندية, أو ورقية, ومعرفة زمانها: بأنها صيفية, أو خريفية, ومعرفة جيدها من رديها, ومعرفة خواصها)). ويمكن التدليل على مدى ارتباط العلمين ببعضهما, وبعدم استغناء الطبيب عن علم الصيدلة: ((فالطبيب هو العارف بتركيب البدن ومزاج الأعضاء والأمراض الحادثة فيها, وأسبابها, وأعراضها, وعلاماتها, والأدوية النافعة فيها, والاعتياض عما لم يوجد منها, والوجه في استخراجها, وطريق مداواتها ليساوي بين الأمراض والأدوية في كمياتها, ويخالف بينها وبين كيفياتها)). أما العلم الثاني من (العلوم العقلية) فهو: علم الهندسة بفروعها المختلفة, ولعل هذا العلم قد حظي باهتمام منقطع النظير من قبل المماليك, فالدارس لكتاب المقريزي "المواعظ والاعتبار" يجد شواهد حية على مدى اهتمام المماليك بهندسة العمارة بالدرجة الأولى, فقد اتسم هذا العصر بالبناء المعماري كالمساجد والمدارس, والربط والزوايا, والخانقاهات, والجسور والأسوار, والأضرحة والأسواق... الخ، ولايمكن لهذه الأبنية أن تبنى إلا على علم راسخ محكم القواعد والأصول يُدرس من قبل أساتذة لهم صيتهم في الآفاق. فعلم الهندسة هو كما يعرفه لنا ابن خلدون: ((علم ينظر في المقادير أما المتصلة كالخط, والسطح, والجسم, وإما المنفصلة كالأعداد وفيما يُعرض لها من العوارض الذاتية, مثل أن كل مثلث زواياه مثل قائمتين, ومثل أن كل خطين متوازيان لا يلتقيان في وجهٍ ولو خرجا إلى غير نهاية)). ويعدد لنا ابن خلدون فروع الهندسة كعلم لا يسُتغنى عنه في كافة مجالات الحياة, مثل: ((هندسة الأشكال الكروية, والمخروطات التي هي فرع من فروع الهندسة, وهي علم ينظر فيما يقع في الأجسام المخروطة مثل النجارة والبناء, وكيف يتحيل على جر الأثقال, ومن فروع الهندسة أيضاً هندسة المساحة وهي فنّ يحتاج إليه في مسح الأرض, ومن فروع الهندسة أيضاً (المناظرة) وهو علم يتبين به أسباب الغلط في الإدراك البصري بمعرفة كيفية وقوعها بناءً على إدراك البصر يكون بمخروط شعاعي, رأسه يقطعه الباصر، وقاعدته المرئي, ثم الغلط كثيراً في رؤية القريب كبيراً جداً والبعيد صغيراً)). ويؤكد ابن خلدون على أهمية علم الهندسة بفروعها المختلفة على أنها علمٌ يجلي الفكر, ويعطيه مرونة وتوقداً حيث يقول: ((واعلم أن الهندسة تفيد صاحبها إضاءةً في عقله, واستقامةً في فكره, لأن براهينها كلها بينة الانتظام, جلية الترتيب, لا يكاد الغلط يدخل في أقيستها لترتيبها وانتظامها.... وكان شيوخنا رحمهم الله يقولون: ممارسة علم الهندسة للفكر بمثابة الصابون للثوب الذي يغسل منه الأقذار)). ويمكن أن نضيف علماً ثالثاً هو: علم الهيئة (الفلك): وهو علم ينظر في حركات الكواكب الثابتة والمتحركة, ويستدل من تلك الحركات على أشكال وأوضاع للأفلاك حركات محسوسة بطرق هندسية, كما يبرهن على أن مركز الأرض مباين لمركز فلك الشمس بوجود حركة الإقبال والإدبار.... الخ, وإدراك الموجود من الحركات وكيفياتها وأجناسها إنما هو بالرصد. ومن فروع هذا العلم (علم الأزياج): وهو صناعة حسابية على قوانين عددية فيما يخص كل كوكب من طريق حركته, وما أدى إليه برهان الهيئة في وضعه من سرعةٍ وبطء واستقامة ورجوع, وغير ذلك يعرف به مواضع الكواكب في أفلاكها لأي وقت فُرض من قبل حساب حركاتها على تلك القوانين المستخرجة من كتب الهيئة, ولهذه الصناعة قوانين كالمقدمات والأصول لها في معرفة الشهور والأيام والتواريخ الماضية. ومن فروع علم الهيئة والفلك (علم التقويم): وهو علمٌ يتعرف منه مقادير حركات الكواكب, سيما السبعة السيارة وتقويم حركاتها, وإدراج الطوالع وغير ذلك منتزعاً من الأصول الكلية، والغرض من معرفة هذه الأمور هو معرفة الساعات والأوقات وفصول السنة, وسمت القبلة, وأوقات الصلاة. وعلم كيفية الأرصاد: وهو علم يتعرف منه تحصيل مقادير الحركات الفلكية, والقوانين المتعلقة بتحصيلها, وكيفية التوصل إليها بالآلات الرصدية. وعلم الآلات الظلية: وهو علم يتعرف منه مقادير ظلال المقاييس وأحوالها الأخرى, والخطوط التي ترسم في أطرافها, ومعرفة أحوال الظلال المستوية والمنكوسة, ومن منافعه معرفة ساعات النهار. وعلم مقادير العلويات: وهو علم باحث عن قدر الكواكب والأفلاك بالأميال والفراسخ, وقدر الشمس والقمر والأرض, وبعُد هذه الأجرام بعضها عن بعض. وعلم منازل القمر: وهو علم يتعرف منه صور المنازل الثماني والعشرين وأسماؤها, وخواص كل واحد منها, وأحكام نزول القمر في كل واحد منها. ومن العلوم الأخرى في الفلك: علم حساب النجوم: وهو حساب يبحث فيه عن كيفية حساب الأرقام الواقعة في الزيجات, وهو من مشروع علم العدد. وعلم الآلات الرصدية: وهو علم يتعلق بآلات الرصد قبل الشروع في الرصد. وعلم تسطيح الكرة: وهو علم يتعرف منه نقل الكرة إلى السطح, مع حفظ الخطوط والدوائر المرسومة على الكرة, وكيفية نقل تلك الدوائر إلى الخط. أما العلم الرابع فهو علم الرياضيات وفروعها: وهو علم معرفة خواص الأعداد من حيث التأليف إما على التوالي أو بالتضعيف مثل: أن الأعداد إذا توالت متفاضلة بعدد واحد فإن جمع الطرفين منها مساوٍ لجمع كل عددين بعدهما من الطرفين بعدٌ واحدٌ, ومثلما يحدث أيضاً في الخواص العددية في وضع المثلثات العادية, والمربعات, والمخمسات, والمسدسات (الخواص الهندسية). ومن فروع علم العدد: صناعة الحساب: وهي صناعة علمية في حساب الأعداد بالضم والتفريق, فالضم بالإفراد هو الجمع, وبالتضعيف تضاعف عدد بآحاد عدد آخر وهذا هو الضرب, والتفريق في الأعداد مثل إزالة عدد من عدد ومعرفة الباقي وهو الطرح, أو تفعيل عددٍ بأجزاء متساوية تكون عدتها محصلةً وهو القسمة.. الخ. ومن فروع علم العدد أيضاً علم الجبر والمقابلة: وهي صناعة يستخرج بها العدد المجهول من قبل المعلوم المفروض, إذا كان بينهما نسبة تقتضي ذلك. ومن فروعه أيضاً الفرائض: وهي صناعة حسابية في تصحيح السهام لفروض في الوارثات, وهي ترتب على ترتيب الأبواب الفقهية ومسائلها. أما العلم الخامس فهو علم الزراعة والري: وقد أطلق عليها العرب الفلاحة, وهو علم يتعرف منه كيفية تدبير النبات من بدء كونه إلى تمام نشوئه, وهذا التدبير إنما يكون بإصلاح الأرض بالماء, وبما يخلخلها, ويغذيها كالسماد ونحوه مع مراعاة الأهوية التي تختلف باختلاف الأماكن. ولقد اعتنى العرب بالزراعة وعلم النبات, وصنفوا كتباً ورسائل عديدة فيها, تناولت علم الزراعة, وكيفية الاعتناء بها, كما درسوا مختلف النباتات التي تنبت في الأمصار العربية, وجنوبي أوروبا, وشمالي إفريقيا, وبينوا خصائصها ومنافعها. واهتم الخلفاء العباسيين بعلم الزراعة والري اهتماماً كبيراً؛ لما للزراعة من أهمية كونها مصدراً من مصادر الدخل الأساسي لخزينة الدولة, حيث ازدهرت الزراعة في عهدهم ازدهاراً كبيراً. أما الري: فهو علم يتعرف منه كيفية استخراج المياه الكامنة في الأرض وإظهارها, ومنفعته إحياء الأرضين وإفلاحها, وكان سلاطين المماليك لا يألون جهداً في العناية بالأراضي الزراعية فأنشؤوا الجسور وشقوا الترع لتوفير مياه الري للأراضي التي يتعذر وصول الماء إليها, فأمروا الأمراء بعمارة جميع جسور مصر, وترميم ترعها, وكان بعض هؤلاء الخلفاء العباسيين يشرفون بأنفسهم على إنشاء الجسور وأقاموا عدة قناطر. أما العلم السادس فهو علم الحيوان: وهو علم يبحث عن خواص الحيوانات, وعجائبها, ومنافعها ومضارها, وموضوعه: جنس الحيوان البري والبحري, والماشي والزاحف, والطائر وغير ذلك، والغرض منه: الانتفاع بالحيوانات والاحتماء من مضارها، والوقوف على عجائب أحوالها وغرائب أفعالها. ولازمه علم البيطرة: الذي يُبحث فيه عن أحوال الجوارح من حيث حفظ صحته, وإزالة مرضه, ومعرفة العلامات الدالة على قوته في الصيد أو ضعفه. ومن المدارس التي أعتنى بها الخلفاء العباسيين المدارس الحربية وذلك من خلال ماورثوه, ويمكن أن يعود الاهتمام بهذا النوع من المدارس ربما لأسباب متعددة, من هذه الأسباب أن السمة المميزة لهذا العصر كانت السمة العسكرية التي فرضت على الخلفاء العباسيين أن يكونوا مهيئين في كل حين للتصدي لأي غزوٍ خارجي, وربما سبب وجود هذه المدارس أيضاً الحاجة الماسة لضبط الأمن الداخلي, ووجود مثل هذه المدارس كان لابد له من نظام يضبط آلية التعليم فيه, منذ صغرهم إلى أن يصلوا إلى أعلى المراتب, حيث يخضع الفارس في تلك المدارس لنظم تدريبية متعددة, وهذه النظم التدريبية تبدأ بالتدريب: فالتدريب في الجيش العباسي هو تأهيل الفارس لكي يدخل الحرب وهو على أتم الاستعداد لها, والعصر العباسي مليءٌ بالمصادر والكتب التي تبحث في أنواع التدريب على السيف, والرمح, والنشاب, والصولجان وغيرها من أنواع السلاح. وكان القادة المسؤولون يقضون أغلب وقتهم في التدريب وفي الميادين العامة وفي المناورات، حتى يمكن القول بأن هذا العصر كان عصر التدريب الحربي. ومما تقدم يتضح أن المدارس الحربية في العصر العباسي كانت تمثل الركن الأساسي في بناء العقيدة السليمة, إضافة إلى بناء بنية عسكرية قائمة على أسس علمية محكمة, ضمن منهج تدريبي قادر على إيجاد جيش يمتلك التدريب والتخطيط, والجاهزية الكاملة لمواجهة أي خطر خارجي يتهدد الوطن.

طرق التدريس[عدل]

لقد تباينت طرق التدريس في العصر العباسي بتنوع العلوم التي سادت في ذلك العصر, حيث وجدت كوادر علمية استطاعت أن تعنى بطرق التدريس بمختلف العلوم المدرسة, ولعل هذا التنوع في طرق التدريس يعود بالدرجة الأولى إلى اختلاف المستوى العمري في مراحل التعليم من ناحية, واختلاف العلوم المدرسة من ناحية أخرى فقد ضمت المؤسسات العلمية العليا معلمون تباينوا في وظائفهم التعليمية وذلك بحسب اختصاصاتهم المختلفة, وقد تنوعت وتعددت طرق التدريس في العصر المملوكي, وسادت المرحلة الأولى طرق التلقين, والحفظ والاستظهار, والقراءة والكتابة, أما في المرحلة العالية فقد انتشرت فيها طرائق المحاضرة والسماع والإملاء والقراءة والعرض والمناظرة والحوار والمراسلة والرحلة. ومن أهم هذه الوظائف: - منصب المحدثين: والمحدث هو العارف بشيوخ بلده وغيرها, والضابط لمواليدهم ووفياتهم, ومراتبهم في العلوم, وما لهم من المرويات على اختلاف أنواعها, والمقتدر على تلخيص ما يقف عليه واستخراج الخطوط ولو تنوعت, والضابط لغريب ألفاظ الحديث, أو جلها خشية التصحيف. - شيخ الرواية: وعليه يسمع المحدثين, ويستمع لما يقرؤونه لفظةً لفظة, بحيث يصحح سماعهم, ويصبر عليهم, ومتى وجد جزء من حديث, أوكتاب تفرد شيخ بروايته كان فرضٌ عليه أن يسمعه. - الحافظ: على الحافظ أن يكون عارفاً بسنن رسول الله(r) بصيراً بطرقها, مميزاً لأسانيدها يحفظ منهم ما أجمع أهل المعرفة على صحته, وما اختلفوا فيه للاجتهاد في حال نقله, ويعرف الفرق ما بين قولهم, فلان حجة, وفلان ثقة, ومقبول, ووسط, ولا بأس به, وصدوق, وصالح, وشيخ, ولين, وضعيف, ومتروك.. الخ, ويعرف الحكم في ذلك بين أن يكون المُسمى صحابياً أو تابعياً. - المفسر: ووظيفته تفسير كتاب الله, ومن المفسرين قوم برعوا في علوم فكان كل منهم يقتصر في تفسيره على الفن الذي يغلب عليه، والمفسرون ثلاثة أنواع: الأول: المفسرون من السلف والصحابة والتابعين, وأتباع التابعين. والثاني: المفسرون من المحدثين, وهم الذين صنفوا التفاسير مسندةً، مورداً فيها أقوال الصحابة والتابعين بالإسناد. والثالث: وهو بقية المفسرين من أهل السنة الذين ضموا إلى التفسير التأويل والكلام على معاني القرآن, وأحكامه وإعرابه وغير ذلك. والرابع: وهو من صنف تفسيراً من المبتدعة كالمعتزلة, والشيعة, وأضرابهم. ولذلك يستحق أن نُسمي أهل القسم الأول والثاني: بالنقلة, والقسم الثالث: فمُؤوِلة, ولهذا يُسمون غالباً بالتأويل. - المُدرس: وهو الذي يلقي الدرس على الطلبة, وعليه أ�

المصدر: هشو
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 3461 مشاهدة
نشرت فى 26 فبراير 2015 بواسطة heshohesham

مـــجـــلـــة هـــشـــو

heshohesham
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

11,361