محمد شهاب- المزارع السمكية Mohamed Shihab -Aquacultures

يعرض الموقع الأحدث من ومقالات و صور و مواقع تخص الاستزراع السمكى

<!--<!--<!--

عُشّاق الصيّادة

إعداد/محمد شهاب
محمد المخزنجى :
أعرف أن عوالم الخبايا العميقة والظلمات مسكونة بكائنات غريبة عما نألفه على السطح وتحت النور، لكننى لم أكن أتصور شطط هذه الغرابة قبل أن أعثر عليها بينما كنت أغوص، معرفيا، فى أعماق البحار والبحيرات والمحيطات باحثا عن إجابة للسؤال الذى وعدت بالإجابة عليه فى الخميس الفائت عن مصائر «حرامية الحب» من ذكور الأسماك التى تتطفل على أزواج الأسماك المتآلفة والمتوافقة، وتغدر بها سارقة لحظة فرحها، ومختطفة بعضا من نشوة لقائها المشروع وصدق انتساب أفراخ المستقبل لها. لهذا أرجئ الإجابة الموعودة إلى أسبوع قادم برغم توافرها لدىَّ، لأن حجم ذهولى من غرابة هذه السمكة التى استوقفتنى، يجعلنى لا أستطيع الاصطبار على البوح بما هالنى من أمرها.
عندما عثر عليها علماء البحار فى الأعماق المظلمة السحيقة، لم يكن شكلها الشائه المخيف العجيب هو أكثر ما استوقفهم، لأن ما استوقفهم وهم العارفون بتمادى عجائب البحار، هو أن تكون مجتمعات هذا النوع من الأسماك كلها إناثا، بلا ذكور، بالرغم من أن دراساتهم عليها أكدت أنها ليست مزدوجة الجنس، فهى تحمل بيضا متطلِّبا للإخصاب، وهذا الإخصاب يتطلب ذكورا، فأين الذكور؟!
أطلقوا عليها اسم سمكة «أبوالشص» ترجمة لمصطلح ANGLER FISH، والأحرى بأن نسميها « أم الصنارة »، نظرا لتميزها بزائدة فوق رأسها تشبه صنارة الصيد، جزؤها القاعدى النابت من أول فقرات زعنفتها الظهرية صلب كما بوصة الصيد، وبقيتها الطرفية لحمية خيطية تنتهى بما يشبه زهرة هشة أو طُعم، وهى تدلى بخيط هذا الطعم تماما كما الصيادين بالصنارات، فتغرى به فرائسها من سكان القاع كالقريدس (الذى يظهر فى الفيديو المُرفَق بالمقال على الموقع الالكترونى لـ«الشروق»)، وما أن تصير الفريسة قريبة من فم هذه الصيادة الكبير البارز الذى يكاد يختزل رأسها بفتحة هلالية تشمل محيط وجهها كله، حتى ترتفع الصنارة بسرعة البرق، وبسرعة البرق ينفتح الفم الفاغر ثم ينطبق، ملتقما الفريسة دفعة واحدة، وكأنها تلاشت فى الخفاء!
مشهد مذهل، يعمق الشعور بالذهول تجاه غرابة شكل هذه السمكة التى تبدو أبعد ماتكون عن سمكة مما اعتدنا رؤيته، فهى ذات رأس غليظ مفلطح وعينين بارزتين مخيفتى التحديق، وجسم لاهو كروى ولا انسيابى، بل مرضوض وكأن سيارة دهسته، لكنه يقترب من التكور عندما تنفخ هذه السمكة كيسها الهوائى فى داخلها، لا لتعوم، بل لتطفو منسابة فى غموض وكأن تيارات الماء الباطنية تحملها إلى حيث تريد أو لاتريد، أما زعانفها الصدرية والبطنية فهى لحمية متحورة فيما يشبه الأقدام، وهى تمشى بها بالفعل على أرض القيعان التى تسكنها، مشيا يشبه الزحف أو الحبو.
وهى خشنة الجلد الذى تتكاثر فيه الثآليل والزوائد، وتقدر على التخفى بتغيير لونها للتماهى مع لون وشكل الرمال التى تكمن فيها، أو الصخور التى تواريها، أو الأعشاب البحرية التى تختبئ فى شعثها. ثم إن صنارتها مزودة بالقدرة على الوميض بخاصية التلألؤ الحيوى أو الاستضاءة البيولوجية، لتكثف إغراء فرائسها بطُعم صنارتها المنير فى القيعان المعتمة. أما أسنانها الطويلة المدببة التى تبرز بشكل مخيف مائلة إلى الأمام، فهى متحركة بحيث تطبق على الفريسة وترسل بها فورا إلى الخلف لتختفى كلمح البصر فى جوفها العجيب، الذى يتمدد عند الضرورة ليستوعب فرائس تماثل ضعف حجم هذه السمكة فى بعض الأحيان. فأين ذكورها؟
هذا السؤال حير العلماء طويلا وكثيرا حتى اهتدوا إلى فض مغاليق إجابته والمرتبطة بنمط غريب عجيب من أنماط تعدد الأزواج، فالأنثى تكون أكبر حجما من الذكور بحوالى عشرة أضعاف، وفى موسم التزاوج يندفع إليها رهط من هؤلاء الذكور ضئيلى الحجم المزودين بقدرة فائقة على تمييز روائح الأنثى المهيأة للقاء والمكتنزة بالبيض، ينشبون أسنانهم فى جلدها ويفرزون إنزيمات تذيب أفواههم وتفتح لهم ثغرات عميقة فى لحم الأنثى حتى تتصل أجسامهم بمجرى دمائها، ثم تنصهر أجسام هؤلاء الذكور مع جسم الأنثى، بعدها يبدأ كيان كل ذكر فى الضمور، فيتلاشى أولا جهازه الهضمى، ثم مخه، فالقلب، فالعينان، ولايبقى منه فى النهاية غير زوج من الغدد الجنسية تفرز حيامنها فى دم الأنثى طبقا لما تنبئ عنه هرمونات أنوثتها بقرب وضعها للبيض، فتذهب الحيامن فى مسرى دمها إلى مبيضيها لتخصيب البيض قُبيل أن تطلقه، منغرسا فى شريط جيلاتينى لزج يمتد على أرض القاع بطول 9 أمتار وعرض يقارب المتر، ولايبقى ممن كانوا ذكورا بعد ذلك، غير ندوب وزوائد جامدة على جلدها، تضيف لمظهرها غرابة على غرابة!
ولماذا كل ذلك الهول فى «ممارسة الحب» لدى هذه الأسماك؟ سؤال لم أستطع برغم ذهولى أن أتجاهله. ففى عالم الكائنات الفطرية، حتى فيما يتعلق بهذه الكائنات الموروثة من أحقاب موغلة القدم تقدر بـ150 مليون سنة فى حالة أبوالشص أو أم الصنارة، لاتوجد دوافع «نفسية»، سلبية أو إيجابية، مما نعرفه فى عالمنا البشرى، كحب التملك، أو السادية، أو المازوكية، أو النرجسية، التى تعبر عن نفسها فى سياق الحياة الجنسية للبشر، بل استجابات غريزية تكاد تكون عضوية محضة فى سلوك الحيوان الجنسى.
هذا الفارق هو الخيط الرفيع الفاصل بين «الغريزويين» الذين يطبقون معطيات دراسات سلوك الحيوان تطبيقا آليا لفهم السلوك البشرى، ولست منهم برغم أننى أبدو لكثرة اهتمامى بسلوك الحيوان المقارن كما لو كنت منهم. والحمد لله أننى وجدت من أساتذة تخصصى من لم تفته هذه اللمحة، فقد أثلجت صدرى مكالمة غالية لم أتوقعها من أستاذنا الكبير الدكتور أحمد عكاشة غمرنى خلالها برضاء علميٍّ أفرحنى غاية الفرح من عالِم كبير فى التخصص الذى أشرف بالانتماء إليه، فقد أثنى على المزج الذى أقوم به فيما أكتب بين علم النفس والطب النفسى والعلوم الطبيعية خاصة البيولوجى منها، والمتعلق بالحيوان على وجه أخص، للحصول على «استعارات» كاشفة للسلوك البشرى، دون أن أكون من الغريزويين أتباع لورنز. فأين الاستعارة فيما عرضته من دراما سلوك تلك الأسماك؟
سأترك الاستعارة تعلن عن نفسها ويعثر عليها من يبذل بعض الجهد فى التأمل، وهذا ما عاهدت نفسى عليه فى مرحلتى الجديدة المتنائية عن القتال، والمقارعة، والهجاء، السياسية كلها، فنحن فيما نحن فيه من نُذُر التهافت والانحدار، أحوج مانكون إلى كل ماهو أعمق وأبقى أثرا وأبعد عن «الهوجة» السائدة، لهذا سأكتفى بالبحث عن الإجابة فى حدود موضوع السؤال، ولتوح الإجابة بما يمكن أن توحى به لمن يُعمِل العقل، ولا يستسهل أو يستمرئ النقل.
ذكور أسماك «أبوالشص» هذه تخرج من البيض صغيرة الحجم وضعيفة إلى درجة مهينة، فهى لا تستطيع فى ظلمات القيعان البحرية السحيقة أن توفر لنفسها طعاما فى عالم يسوده المفترسون الكبار، حتى أن أمعاءها تتوقف عن النمو برغم نضوجها الجنسى، فتَضمُر إلى أن تعجز تماما عن التغذية، ناهيك عن أن ضعفها هذا ييسر التهامها والقضاء عليها من كل من هب ودب فى عالمٍ تجوبه وحوش الظلام من كل لون ونوع، وهنا تعمل حاسة الشم القوية التى يولد كل واحد منها وقد تزود بها، فتلهمه بأن لاعزاء له إلا فى جسم أنثى كبيرة، ينصهر معه ويتلاشى فيه. ثم إن طبائع الأمور وجوائز التناسل وحفظ النوع تشى بأن هناك لذة ما أو نشوة فى هذا الانصهار الجنسى وذلك التلاشى، البديلين عن الموت الأليم كفريسة.
أما الأنثى الصيادة بصنارة، والمتقبلة لتعدد الأزواج التراجيدى هذا، بل الذى يبدو وحشيا فى الحكم المتعجل عليه من زاوية النظر البشرية، فهى مجبولة على القبول بتذويب كل هؤلاء الذكور فيها لإعطاء نسل وفير، يعوض بوفرته ما يهلك منه بمعدلات عالية فى عالم الظلمات والقسوة، حيث لا تستطيع هى نفسها، برغم ما يبدو من وحشية مظهرها، أن تتوقف
 

 

أخبار المزارع السمكية و السمك و الدخول فىى حوار مع افراد مجموعة (المزارع السمكية Aquacultures)على الفيس بوك :
http://www.facebook.com/groups/210540498958655/
المصدر: الشروق 19/7/2012

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

1,907,356